بنية الكتابة.. تجميع الصراع وسعي التحليل وتفكيك المعنى في رواية  تسارع الخطى  2-2

بنية الكتابة.. تجميع الصراع وسعي التحليل وتفكيك المعنى في رواية تسارع الخطى 2-2

علي لفته سعيد
إن مستويات السرد الثلاثة في الروي التي بالإمكان تسميتها الذهاب والاياب والعودة الى الحاضر ثم الى الماضي سواء في متن عملية الاختطاف او فيما حصل للبطل بعد هروبه او ابراز الخلفية الواقعية التاريخانية والمرجعيات الفنية والاجتماعية التي تحدد ملامح التوجه السياسي سواء للشخصيات او المجتمع عامة وفق ظروف التغيير الذي حصل في المجتمع..

ونرى ان هذه المستويات السردية منحت ايضا حجة التكرار في الروي وإعادة حتى بعض الجمل بذاتها والتركيز عليها في مهمات الحث على استلهام القصدية وهي اعادة ليست في مكان واحد بل في عدة أماكن حتى لكأن الإعادة في تفاصيل الحدث وتداخله مع حدث آخر في زمن ومكان آخرين أو حتى العودة الى ذات الزمان والمكان تأتي من خلال خلخلة البنى السردية التي منحته صيغ الروي فهو حين ينتقل من المخاطب الى الغائب فان تكرار الحدث أو الجمل يأخذ على عاتقه مهمة التذكير للمتلقي الذي قد يجد البعض انه تكرار مقصود في بعض مفاصله لأن الروائي استخدم مهمة الكولاج في ترتيب خطاه البنائية سواء ما كان منها في محطات الروي الماضوي للشخصيات او الصراع الآنوي للأحداث او فلسفة الاسئلة الغائبة بين ثنايا المهمة التدوينية.

ولهذا فان الكولاج هنا كان أحد أهم عوامل البنية الكتابية في الانتقالات المتعددة فيما يصطلح عليه الفلاش باك كمعاون إداري في تكوين المتن السردي. ونرى ذلك واضحا وجليا في حلم عبد الله الفني ومحاولة ربط الواقع بالمسرح واستلهام المسرح كنقطة انطلاق نحو التغيير وهي مستوى فلسفي حتى لو جاءت من خلال السخرية او السوداوية من الواقع.., وكذلك الاسئلة المعادة لعملية خطفه وخوفه من القتل ((ولكن الان من اسأل إذا ما الخاطفون أنهوا حياته برصاصة واحدة، ولكن لماذا يقضون عليه؟ وما الجرم الذي ارتكبه؟) ص82 ومثل هذه الجمل يعيدها الراوي كمحطة استدلال لمعاناة البطل من جهة وكذلك التذكير بتصاعد الصراع داخل الحكاية.
ان البنية الكتابية وفق ادارتها لمتن الثيمة كانت ايضا تريد مناقشة قضية المثقف بكل حيثياته وهو بهذا يلجأ اي الراوي الى بث الاسئلة المتعلقة بالكينونة سواء منها الخائفة او المترددة في كشف حالة التذبذب التي وجد الإنسان العراقي حاله فيها بسبب الأحداث التاريخية وهو ما اصطلح عليها بالازدواجية لتكون هذه الأسئلة مفاتيح جر المتلقي الى فلسفة النص وايحائية الثيمة ودلالة القصد ومعنى التحليل وكلها مندمجة في المستوى الإخباري الذي حافظ المتن السردي عليه كقوة دافعة الى الأمام في فهم عملية الروي.
(وتساءل عما إذا باستطاعة الإنسان أن يحيا في الفن وحده؟ الآن وهو في هذا الكابوس- الذي لا يكف عن الدفاع عنه- هل ينقذه الفن من ورطته التي جعلته في حالة من الخوف بل الهلع) ص28

ان بنية الكتابة تعتمد كذلك على تهشيم الحكاية وتفرعها سواء بحركة الشخصيات واختلافهم وتعددهم والاتيان بشخصيات قريبة ايضا من البطل كمنال وزميلتها والشباب الثلاثة وغيرهم والذين ظلوا عبارة عن حيوات محركة للثيمة.. ان هذا التهشيم يتيح استمرارية التواصل مع الحدث والصراع الذي يدور في مركزية واحدة مثل حركة الماء الدائرية التي تنتهي بمركز محدد وتدور حولها الدوائر الأخرى او حركة الزوبعة التي يصل راسها الدائري في مركز اهرامي مقلوب.. وهذا التهشيم لا يكون فقط في الحكاية بل حتى في الزمن والمكان في ذات الوحدة السردية فكل شيء يبدا من الراس او المركز ويصل الى المحيط او القاعدة ويعود وهذه الطريقة تتيح للروائي امداد المتن السردي بالعنصر الدرامي وتثوير السرد وذكر المعلومات سواء منها الحياتية الضاجة او المتخيلة الفكرية او المرتبكة الواقعية او التاريخية الاستلهامية أو الثقافية المعيارية في الدلالة ولكن هذه تنتج وحدة اندماج في إدارة الحدث وتصاعد الفعل الذي اعتمدت عليه المفردة في إدارة التدوين خاصة وإن الروائي يلجأ الى ادخال فعل القصة في ثنايا بعض إدارته للحدث وخاصة ما يتعلق بالحوار والاستعانة بآلية النقاط كمسكوتٍ عنه فتكون البنية الكتابية هنا قد اتخذت تفعيلا عمودياً للقصة فيما كان الحدث امتدادا أفقيا لحركة الشخصيات.
البناء والشخصية
مثلما اوضحنا تعتمد بنية الكتابة في بعض مدارجها على ما يشبه حركة الماء او الزوبعة الهرمية المقلوبة وهنا ما نعنيه ان كل شيء يتحرك حول محور البطل / عبد الله / كنقطة مركز ارتكازية فاعلة حتى ان لا حديث بين اثنين بل بين شخصية عبد الله التي تتمظهر فيها الانساق الدلالية سواء ما كان منها مضمرا او معلنا وهي بالتالي حركة بناء لتقشير الحياة ذاتها التي يعيش فيها البطل.. وان هذا التقشير يعتمد اعتمادا كليا على المستوى الاخباري اي ان هناك اخبارا دائما من الراوي الى المتلقي ويتخلل ذلك المستوى التصويري في القليل من حيثياته لتوضيح المكان بل ان الراوي لم يشأ ان يلبي طموح المستوى التصويري كثيرا إلا في بعض المفاصل كتوضيح الطريق او الحانة بل ترك كل شيء لمخيلة المتلقي الذي بإمكانه ان يقرب اية صورة يشاؤها من الحياة ليقرب المشهدية الى ذهنية.. وهذه الطريقة منحت الروائي ان يمر على الاحداث معطيا كل الصلاحيات للراوي لكي يشطر الأحداث ويستخرج منها المعلومات سواء ما كان منها تحليلا كمستوى سياسي او مستوى فلسفيا كمحصلة الصراع السياسي الاجتماعي او اقتصاديا كمستوى قصدي للحصار والجوع ولهذا فان الراوي العليم كان حاضرا لكي يقشر مايراه من مناسبات تدوينية يسطرها بطريقة الكولاج ويضعها على سكة اللوحة لكي تسير بما يريده الروائي من طريقة سريعة لملاحقة الخطى/ العنوان.. او ملاحقة المعنى / المتن ولهذا فان الروي لم يكن يحمل اطنابا لغوية ولم يسع الى جعل مفردته شاعرية اي مفردة القص داخل المتن ولم يقطع الانفاس لكي تميز بين التكرار المقصود وبين الاجابة المفقودة من اسئلة الروي او اللهاث لملاحقة تعدد الشخصيات بذات الأسماء لمحمول دلالي.
الحوار كمضمر ومعلن
يعد الحوار احد اهم مكملات البناء في البنية الكتابية لأي عمل روائي لأنه يشخص روح الشخصية مرجعياتها من جهة ويختصر الكثير من الدلالات فضلا عن انه قادر على منح الدهشة والجمال وما يمكن ان يقال ما لم يكن بالإمكان قوله داخل المتن السردي ولهذا نرى الحوار في الرواية يأخذ ايضا منحى التسارع من جهة ومنحى الوصول الى لملمة الشتات الموزع داخل أروقة الحكاية ولهذا نجده في تسارع الخطى بعضه مدغم وبعضه صادم واخر مفضوح ورابع يوضح حالة الارتباك والارباك في نزاع الشخصيات سواء منه النزاع بين شخصيتين كما مع الفنان والخاطفين ومعه ومع اصدقائه الفنانين وكذلك مع رواد الحانة من الشباب او مع اهله وابنة اخته والفتاة التي هربته وهذه كلها حوارات توضح الصورة الخارجية له مثلما توضح الفكرة العامة في اختيار هكذا فكرة مستلّة من الواقع او انه حوار داخلي مع الذات لكشف الأفكار والاضطرابات وهو ما يعني ابراز الرؤية الفكرية للروائي من جهة وللشخصيات من جهة أخرى و هو ما يعني ان الحوار يعطي جرعة منشطة من المستوى الاخباري وهو ما يعني منح جرعة للعنصر الدرامي وتصاعد الصراع وما بين الادغام والصدمة تتضح لغة الحوار بشكل غير متوقع في بعض الأحيان وكانه خارج من رداء اللامعقولية ومرة يسبر غور الفعل الخاص بملاحقة الحدث للوصول الى حل شفرة الثيمة وهو ما يعني ان الروائي يرسم شكل خطاه داخل الحوار لمساعدة المتن السردي.. ولذا نرى في بعض عناصر اللامقولية انه يدخل الوهم في الحوار او في المتن لزيادة متاهة المتلقي والبحث عن مفترق الطرق الذي يوصل الى تعدد (عبد الله) وارتباطه بما حوله وهي هنا متاهة متصلة بالشخصية العراقية حتى الفنان ذاته يبقى اسير وهمه واسئلته التي لم يجد الجواب عليها وسط صراعات عديدة وحوارات متشابهة وان اختلفت الشخصيات المحاورة معه او المكان والزمان.
في بنية الحوار نرى ان الروائي يلجا الى استخدام صيغة الراوي المتشابه للقصة القصيرة كما اسلفنا او المسرح في محاولة لتوصيف الصورة من خلال صراع الحوار ذاته لتكتمل المعاني المرافقة للمتن الدرامي المتصاعد اللاهث في متابعة الحدث الذي اعتمد هو الآخر على عملية الوصف والكولاج في ترتيب المتن السردي أو التحول في صيغة الزمت بين الروي الآني والروي القادم.. بمعنى ان هناك زمنا أدبيا داخل المتن وزمنا ثقافيا خارج الفكرة والخاضع للروائي / الراوي معا باعتبارهما يندمجان كمحصلة نهائية.
هوية البنية الكتابية
في رواية "تسارع الخطى" تبدو لنا الهوية الكتابية قد اتضحت مع انتهاء القراءة منها.. وهو ما نعنيه بالمحصلة وقد نرى ان النصف الأول من الرواية اعتمدت بنيته الكتابية على توسيع وشرح ورسم ملامح الشخصية المحورية والشخصيات المرافقة له او المطاردة وعلاقتها بالمكان والزمان وبدء الحركة الاولى لمرحلة الاختطاف والعلاقة مع الاهل والنص المؤجل وحب المسرح والهروب من المسلحين الذين لا عنوان لهم ليكونوا خاضعين لرسم المتلقي.. وبما هو حاصل في المجتمع لأنموذج المثقف الذي يقع بين السلبية الأحادية وبين الإيجابية الخاملة التي تبحث عن استقرار بطريقة من يفكر دون ان يفعل او يفكر دون ان يصل الى مرحلة كيفية الاستفادة من التفكير او انه ضيع الخطوة الاولى وسط الخوف.. هذا النصف كان يسارع خطاه للكشف عن المحيط الخارجي لعبد الله.. ام النصف الثاني كانت البنية الكتابية هي الدخول الى عمق الشخصيات من الداخل وتناسل الاسئلة وبدء جولة جديدة من الصراع الذي يمتد ويتحول الى نقطة ارتكاز عامة يمكن لها ان تمتد وتتشظى لتأخذ ابعادا سياسية ودينية وفنية وثقافية وانتقادية وتكشف حجم الصراع الذي يحيط الشخصية العراقية الذي اسمه عبد الله اي ان البطل يتحول من كونه شخصية اعتبارية في النصف الأولى الى شخصية جمعية جامعة في النصف الثاني حتى وان حاول الاخر ان يغير اسمه الى ايوب وهي دلالة ايضا على الصبر والمحن التي مرت على الشخصية والشخصيات:
(في الحقيقة أحب اسم أيوب وهو اسم ينطبق على المذنبين في العالم كافة) ص145
وفي ذات الصفحة (مادام يوجد على الارض قوي وضعيف والقوي يتحكم بمقدرات الضعيف إذن نحن جميعا ضعفاء إذ لا بد من وجود قوي أكثر من قوة وهيمنة من القوي السابق له..)
ولهذا فان الصراع سيبقى وهو المهيمن والدال على تزييف الحقائق(أن ما نسعى إليه هو تزييف تاريخ وانتحال صفات وليس صفة واحدة) ص148
(أن أمثالك ما هم إلا حشرة نستطيع سحقها كالنملة) ص149
ليبقى السؤال مفتوحا على احتمالات تعدد الصراع وتشظيه واستمراره لان كل ما حول الإنسان الذي يريد ان يعيش هو الخوف.