بنية الرواية واشكالها المتعددة 2-2

بنية الرواية واشكالها المتعددة 2-2

داود سلمان الشويلي
تمتاز السيرة الشعبية بضخامة متنها الحكائي، حيث ينقسم إلى أجزاء معنونة تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة البطل، وتحوي موتيفة الرحيل عن المكان والذهاب إلى مكان اخر، والدخول مع الاعداء في صراع، ليعود في النهاية ظافراً إلى مكانه.

وتتميز السيرة كذلك بتعدد الشخوص، واتساع الزمان والمكان فيها، حيث يقتضي انتقال البطل من مكان إلى آخر، سعياً وراء إنجاز المهمة المكلف بها، اتساع رقعة الأحداث، كما ان السيرة تقدم حياة البطل من الولادة إلى الوفاة.‏
ونجد ذلك في رواية نجيب محفوظ "ملحمة الحرافيش"، حيث تتشابه والشكل العام للسيرة، من حيث ضخامة متنها، وتعدد وتنوع أمكنتها، وامتداد زمانها، وكثرة شخوصها، وتقسيمها إلى عدد من اقسام معنونة، وكذلك في رواية مجيد طوبيا "تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب"، ولا تخلو مثل هذه الروايات كما السير الشعبية العربية من الاشعار كذلك.
* الرواية المبنية على غرار المقامة:
المقامة فن حكائي عربي قديم، ومن أوضح الامثلة للتأثر بفن المقامة هو (رواية) «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي ، وكذلك "مجمع البحرين" لناصيف اليازجي، ورواية «علم الدين» لعلي مبارك،إذ يتصل بطلها بشخصيات متعددة،وقد كتبت هذه الروايات متأثرة بالروايات الاجنبية من حيث تنوع مناظرها، وتسلسل الحكاية فيها، وبعض ملامح التحليل النفسي للشخصية.
* الرواية المبنية على غرار الرحلة (رحلة ابن بطوطه مثلا):
فقد استلهم الروائي العربي الحديث هذه البنية، من كتاب "رحلة ابن بطوطة " وكتب الى حد ما على منوالها رواية فنية ناضجة، كالروائي نجيب محفوظ في روايته "رحلة ابن فطوطة" مثلا.
تعتمد رواية محفوظ على الرحلة،ويستلهم شكل كتاب ابن بطوطة الذي كتبه عن رحلته، مبتعدة عن ان تكون رواية رحلة فقط (اخبار عن تفاصيل رحلة)، اذ جعلها محفوظ رحلة غير تقليدية، وقد اهتم بالحوار الذي ينشأ مع الحضارات التي يدخل في كنفها البطل، وليس نقل ما يشاهده من امور غريبة ومدهشة، انه مهتم بنقد الواقع الذي يعيشه.
* الرواية التي تبنى على نوع موسيقي:
تبنى بعض الروايات على قالب موسيقي معروف مثل قالب السيمفونية، او على قالب الكونشرتو، كرواية "المصائر" للروائي الفلسطيني ربعي المدهون التي فازت بالبوكر لعام 2016، التي بنيت على قالب الكونشرتو، حيث تتكون من اربع حركات، كل حركة تمثل حكاية تتضمن بطلين، ثم يتحولان في الحركة الثانية الى شخصيتين ثانويتين ليدخلا بطلين رئيسين جديدين وهكذا.
وراجع كذلك كتاب "أسعد محمد علي" (بين الأدب والموسيقى - دار افاق عربية- للصحافة والنشر، بغداد، ١٩٨٥ (.
* الرواية المبنية اعتمادا على تعدد الاصوات:
هناك روايات تبنى على حكاية واحدة يحكيها عدة اشخاص كل من وجهة نظره، تسمى رواية بوليفونية، تتعدد فيها الاصوات، وهذا يعطي المجال لاكثر من كاتب ضمني لرواية حدث ما، ومثال على ذلك رواية "خمسة اصوات" لغائب طعمة فرمان، و رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ، ورواية "متاهةُ أخيرهم" لمحمد الاحمد، حيث المؤلفون عديدون يقومون بتأليف الرواية ذاتها، إذ كل شخص يروي الحادثة من منظوره هو، و وجهة نظره،وكل مؤلف من هؤلاء يمكننا ان نجد فكره واعتقادة مجسدا فيما يؤلف ويكتب، اي ايدولوجيته ماثلة وراء ما يقول ويصوغ من افكار.
ان ايديولوجية الكاتب الاصلي لهذه الرواية اوتلك تنمحي كليا عن الواجهة، إذ هي تتوزع بين اصوات وافعال وممارسات مؤلفي الرواية، اي شخوصها، او اصواتهم، وهذا الامر تشترك فيه روايات ذات صوت واحد، الا انها تختلف من حيث انها تمتلك صوتا واحدا، اي انها ذات ايديولوجيا واحدة، افكارا وعقيدة،انها افكار وعقائد المؤلف الاصلي ذاته، على الرغم من ابتعاده عن الشخصية هذه او تلك.
ان خاصية ان تكتب الرواية من عدة شخوص، اصوات شخوصها المتعددين، تجعل الكاتب الاصلي، مؤلف الرواية وكاتبها على الورق، حذرا جدا كي لا يقع في المحذور الذي هو الاسفاف في اعتماده على صوت واحد يصبح هو الطاغي على اصوات الرواية من الاول الى الاخير، انه الوعي التام بما يفعل الكاتب، ووعي الشخوص بما تقدم، اي يكون وعيا مغايرا لوعي الكاتب، وبهذا تمحى من الذاكرة الصورة التقليدية للبطل في الرواية كما عهدناه في الرواية التقليدية، اي الرواية غير البوليفونية، ذات الشخصية المحورية الواحدة، او الصوت الواحد، مثل البطل في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، او في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي "الوشم" او في رواية "صعود النسغ" لهشام توفيق الركابي .
في مثل هذه الروايات يستقل الصوت، المؤلف الاخر للرواية، من كل شيء خارج ارادته بكل ابعادها، الفكرية، او الاخلاقية، او الوجودية، او اي شيء، من ارادة الكاتب الاصلي، فيصبح عند ذاك ارادتين، صوتين، مؤلفين، اضافة للمؤلفين الاخرين، اي الاصوات الاخرى.
اننا نبحث عن المؤلف الاصلي في مثل هذه الروايات ونسأل انفسنا اين الكاتب، او صوته، او تأثيره حتى، الا اننا لا نجده في الرواية وشخوصها الا بما له علاقة بما يجمع تلك الاصوات فيما بينها، وهذا غير مرئي، وغير معروف.
* الرواية المبنية اعتماداً على الرسائل:
مثل رواية "الرسائل المنسية" لذنون أيوب حيث بنى قصة حب في الرواية على الرسائل الى حد ما.
إذ بعد ان هجر "عارف" اهله وبلده الى جهة مجهولة وترك لصديقه الراوي ظرفا يحوي على مجموعة من الرسائل معنونا باسمه، يقول الراوي: (هاك كل ما ترك واحمد الله على أنه لم ينجب أطفالاً، ولعلك تجد في هذه الرسائل ما يفسر سلوكه الغامض، ولست ألح في تقصي أخباره فغيابه خير من وجوده ولا أظنك تخالفني(..
وكما فعل في روايته الاخرى "الدكتور ابراهيم" في انه بناها على مجموعة رسائل الدكتور.
* الرواية المبنية اعتماداً على البنية البوليسية:
تعتمد بنية الرواية البوليسية على المطاردة، والتوتر، وتقطيع الحدث الى اجزاء، وتطويره باطراد، والسرد المتسارع خاصة الذي ينضح منه توتر وتشويق.
وقد بنيت الكثير من الروايات العراقية والعربية اعتمادا على هذه البنية، او قريبا منها، كرواية " اللص والكلاب " لنجيب محفوظ.
***
ان اغلب كتاب الرواية يكتبون نصوصهم دون ان يحددوا شكل البنية قبل البدء في الكتابة ، انما هي تتحدد اثناء الكتابة، ولا سيطرة للروائي على ذلك، لذا نجد ان اغلب النصوص الروائية هي تجميع لاكثر من شكل للبنية، مثلما يجمع الذئب (او الاسد) من هضم لحوم خراف عديدة، كما يقول بول فاليري، وهذه ميزة تحسب للروائي لا عليه، اذ انه لا يتدخل فيما يطرحه النص من افكار واقوال واحداث وفي اي قالب ما تصب.(راجع كتابنا الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي – دار الشؤون الثقافية العامة - 2001)
وفي ختام هذه السطور علينا التأكيد على مسألة مهمة هي انه لا يمكن استعراض جميع اشكال البنى الروائية لكثرة الروايات المنشورة، من البنية التقليدية حتى رواية ما بعد الحداثة واستعمالها لبنى متنوعة وعديدة، الا اننا ذكرنا اهم ما استخدم من بنى الروايات التي اطلعت عليها منذ قراءتي للرواية.
و ايضا التأكيد على انه لا توجد بنية واحدة و صافية لشكل واحد للرواية.