كيف انبثقت الحياة الحزبية في العراق سنة 1946؟ وكيف تهيأت الاحزاب لمعركة الوثبة؟

كيف انبثقت الحياة الحزبية في العراق سنة 1946؟ وكيف تهيأت الاحزاب لمعركة الوثبة؟

ستار علك الطفيلي
انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء الذين يعدّون أنفسهم حاملي لواء التحرر والديمقراطية، وبدأ الانفراج في الوضع الذي كان متلبداً بالغيوم جرّاء هذه الحرب، وكان العراق قد اشترك فيها إلى جانب بريطانيا وفقاً لمعاهدة التحالف لعام 1930، وقد نال ما ناله من جرّاء هذه الحرب منذ أن دخل طرفاً فيها عام 1943، وما أن انتهت الحرب بانتصار كفة بريطانيا ومن معها، عدّ العراق ذلك نصراً له.

وبدأ الوصي يبحث عن الشخص الذي سيتولى وزارة ما بعد الحرب، ووقع الاختيار على توفيق السويدي، ذلك الرجل الذي عرف بحنكته السياسية وقدرته على التصرف في الكثير من الأمور، فتشكلت وزارته في 23 شباط 1946، وسعى السويدي إلى الانتقال بالعراق إلى وضع آخر، سعياً لتخفيف الثقل وحالة الاستياء والتوتر التي هيمنت على الشعب العراقي من جراء القوانين والإجراءات المتشددة التي فرضت عليه في المرحلة السابقة، فعرضت الوزارة منهاجها الذي استبشر به معظم الشعب العراقي خيراً، كما ظهرت في هذه المرحلة الأحزاب السياسية.
تألفت خمسة أحزاب علنية، لعبت دوراً مهماً في تاريخ العراق السياسي، وفي الكثير من الأحداث التي جرت من خلال مواقفها وآرائها التي كانت تطرحها تجاه مختلف القضايا، وكانت هذه الأحزاب هي حزب الاستقلال، وحزب الأحرار، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الشعب وحزب الاتحاد الوطني.
أجيزت هذه الأحزاب في 2 نيسان 1946، وبدأ كل منها في انتخاب الهيأة العليا للحزب (2)، وعرض كل حزب منها منهاجه، وبالرغم من تشعب مطالب هذه الأحزاب، إلاّ إننا نجد إنها دعت إلى ثورة إصلاحية تتناول شتى ميادين السياسة والاقتصاد، كما إنها عبرت في أهدافها عن متطلبات المرحلة التي ظهرت فيها، والتي تتطلب تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية، والعمل على إصلاح الأوضاع الداخلية المختلفة ,.
أبدت بريطانيا رأيها بهذه الأحزاب التي تشكلت، ووصفتها بأنها مجموعة من السياسيين الطامحين إلى السلطة، وأنها لا تشكل خطورة على نظام الحكم، لكن هذه الأحزاب استطاعت أن تلفت الأنظار، وتعبّر عن برامجها من خلال طرحها لضرورة تعديل المعاهدة العراقية – البريطانية لعام 1930، وكذلك تقليص النفوذ البريطاني في العراق والمنطقة العربية.
شرعت وزارة توفيق السويدي في تنفيذ فقرات المنهاج الذي عرضته، وكان من مهامها تقديم مشروع قانون تعديل قانون الانتخابات النيابية، لاسيما أنه قد أشترط عند توليه الرئاسة حلّ المجلس النيابي القائم، إذ أنه لا يمثل البلاد تمثيلاً صحيحاً حسب رأيه.
أما التعديل الذي أراده توفيق السويدي، فكان يدور حول أهم نقطة، وهو جعل القضاء دائرة انتخابية واحدة، بعد أن كان قانون عام 1924 يعد اللواء دائرة انتخابية واحدة، عدا مدينة بغداد التي قسمت إلى عدة دوائر انتخابية، وأن يكون الحكام العدليون هم مرجع شكاوى الناخبين، كما أشترط تعديل الإعلان المسبق للمرشح بمدة لا تقل عن عشرة أيام قبل موعد الانتخاب، وكان هذا التعديل يهدف إلى عدم تدخل الحكومة، ومع ذلك فقد تدخلت الحكومة عن طريق تكوين اللجان التفتيشية التي سمح لها القانون بالإشراف على سير الانتخابات.
إن اختيار أعضاء اللجان بالشكل الذي حدده القانون يتيح للحكومة التدخل في سير الانتخابات لصالح مرشحيها بوسائل شتى، كما جاء نص المشروع على إجراء الانتخابات النيابية على وفق صيغة الانتخاب غير المباشرة " على مرحلتين "، وقد رفضت الحكومة مبدأ الانتخاب المباشر " مرحلة واحدة "، معللة ذلك بأن نسبة كبيرة من أبناء الشعب من الأميين.
في حين رأى السويدي أن القانون الجديد قد غيّر طرق الانتخابات، وجعلها أكثر قبولاً، كما أنها اقتربت من الديمقراطية ولكن بشكل ضيق، أي أنها ليست ديمقراطية شعبية.
أما مجلس النواب، فقد انتقد بشدة هذه اللائحة لعدم تبني مبدأ الانتخاب المباشر درجة واحدة، وقد انتقدها صالح جبر، لأن هذه الصيغة تعزز الصلة بين الناخب والمرشح، وتحدّ من تدخّل الحكومة ، وعلى الرغم من أن هذا المشروع عالج بعض المشكلات، إلا أن النواب لم يرو فائدة في هذا التعديل، الذي لم يمنع الحكومة من التدخل، مع أنه صادق على هذه اللائحة في 21 مايس 1946.
أما العناصر الوطنية والأحزاب، فقد اتفقت مع النواب في معارضة اللائحة، إذ كانت تأمل في مجالس نيابية تمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً، أما السويدي فقد استطاع أن يحدّ بشكل بسيط من تدخل الحكومة عن طريق تقسيمه للألوية إلى دوائر انتخابية صغيرة .
أما الوصي عبد الإله، ووراءه نوري السعيد والساسة البريطانيين، فقد ظهرت عليهم علامات الاستياء، لاسيما أن السويدي طرح في منهاجه النظر في تعديل المعاهدة العراقية - البريطانية لعام 1930، كما لم يرقْ لهم تساهله مع الأحزاب. وهنا بدأ التذمر لدى الساسة المخضرمين، الذين أحسوا بتهديد يقترب من مصالحهم، لذا لجأوا إلى التكتل لإسقاط الوزارة، وقد حدث هذا عند تقديم لائحة قانون الانتخاب إلى مجلس الأعيان .
وبهذا فقد استقالت حكومة توفيق السويدي، وجاء أرشد العمري يؤلّف وزارته في الأول من حزيران عام 1946، وقد بدأت هذه الوزارة بسياسة قمعية، وضيقت على القوى الوطنية والأحزاب والصحف، وقد لقيت سياسته الدعم من السفارة البريطانية في بادئ الأمر، لكنها بعد ذلك لم تحبذ العنف بهذا الشكل ، ويبدو ان السفارة البريطانية كانت تخشى من تزايد العداء الشعبي لها، مما سيؤثر في مصالحها ونفوذها في العراق.
فقد تصدت وزارة العمري للمظاهرة السلمية التي قام بها حزب الاتحاد الوطني وعصبة مكافحة الصهيونية في 28 حزيران 1946 احتجاجاً على سياسة الوزارة الاضطهادية، وقد أدى هذا التصدي إلى سقوط جرحى وشهداء.
استنكرت الأحزاب هذا الحادث، وقدّم حزب الاستقلال مذكرة احتجاج إلى وزارة الداخلية، كما قدمت هذه الأحزاب مذكرة احتجاج شديدة اللهجة إلى رئيس الوزراء في 12 تموز 1946، بل وصل الأمر بالأحزاب أن قام رؤساؤها بمقابلة نائب الوصي زيد بن علي. ثم عادوا إلى مقابلة رئيس الوزراء، وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، وتشكيل هيئة قضائية تقوم بالتحقيق وتحديد المسؤولية، وان تعيد النظر في سياستها، وإطلاق حرية الصحف، وفسح المجال للأحزاب لتمارس حقوقها بصورة كاملة.
استمرت وزارة أرشد العمري في اتخاذ سياسة القسوة والقمع وسيلة لمعالجة الأمور والمشكلات التي تحدث، فحين بدأت بوادر الحركة النقابية في الظهور لممارسة نشاطها وتحقيق متطلباتها، قام عمال شركة نفط كركوك بتقديم مطالبهم إلى إدارة الشركة، إلاّ أن الشركة رفضت الاستجابة لمطالبهم، في حين ازداد العمال تمسكاً بها، حتى ألفوا لجنة للمفاوضة مع إدارة الشركة، وقرر العمال الإضراب احتجاجاً على موقف الشركة، ثم قاموا بعد ذلك بتنظيم مظاهرة سلمية، طالبوا فيها الحكومة بالتدخل لدى الشركة، لكن الحكومة أسرعت بإلقاء القبض على جماعة منهم وأودعوا السجون، ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى صدام بين المتظاهرين والحكومة سقط فيه عدد من القتلى.
احتجت الأحزاب العراقية الخمسة على حادث عمال النفط، وطالبت بمعاقبة المسؤولين عن تطور الأحداث فيه، وصدرت مقالات عدة دانت فيها الحزب الوطني الديمقراطي أعمال الحكومة، ونبهت الشعب العراقي إلى الخطر الذي يهدد حقوقه وحرياته الديمقراطية. كما نبّه حزب الأحرار على أن ما حدث هو سلسلة من المخالفات القانونية أدت إلى مصادرة الحريات التي كفلها الدستور.
وعلى الرغم من إجراء تحقيق وتقديم تقارير ألقت اللوم على رجال الشرطة، إلا أن الحكومة وجدت نفسها عاجزة عن معاقبة المتسببين في هذه الحوادث، مما دفع وزير الداخلية عبد الله القصاب أن يقدم استقالته في 17 آب 1946 .
وأجلت الأحزاب عملها للإطاحة بالوزارة، فقد عقدت ثلاثة أحزاب اجتماعاً للنظر في السياسة العراقية، وأصدرت احتجاجاً على سياسة الوزارة التعسفية، وطالبت باستقالتها، وإقامة وزارة دستورية مبينين مساوئ الوزارة القائمة. وقدّم كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي تقريراً إلى الوصي حول الأوضاع السياسية في البلاد أثناء مقابلته له.
ولم تجد وزارة أرشد العمري طريقاً آخر غير تقديم استقالتها، إثر تصاعد المعارضة من القوى الوطنية والأحزاب، فبعث بكتاب استقالته في 14 تشرين الثاني عام 1946، بعد أن تأكد لها من عدم إمكانية النيل من تلك الأحزاب، وكذلك عجزها عن إجراء انتخابات من دون أية اضطرابات.
أما نوري السعيد، فقد حاول الالتفاف على الأحزاب من خلال إشراك بعض العناصر الحزبية في وزارته، وبدأ بمفاوضة حزبي الوطني الديمقراطي والأحرار للاشتراك في وزارته، وقد وافق الحزبان مقابل شروط. وتمّ لنوري ما أراد، فشكل وزارته في 21 تشرين الثاني 1946، التي اشترك فيها كل من محمد حديد، وكان يمثل الحزب الوطني الديمقراطي، وعلي ممتاز الدفتري ممثلاً عن حزب الأحرار.
وكان الهدف من مناورة نوري سعيد، هو كسب الأحزاب لضمان أصواتها، لاسيما أن وزارته جاءت لإجراء الانتخابات النيابية بعد حلّ المجلس السابق، وعلى الرغم من إعلان نوري السعيد في مؤتمر صحفي أنه يريد انتخابات تتمتع بأسس ديمقراطية.
وما أن بدأت الانتخابات في مراحلها الأولى، حتى أتضح بشكل واضح تدخل الحكومة لصالح مرشيحها، فما كان من الحزبيين المشتركين في الوزارة إلا سحب ممثليهما، فقدّم الوزيران استقالتهما، وقد أوضح كل منها أسباب استقالته، بل أدت الأحداث إلى استقالة وزيرين آخرين لاتهامهما في التدخل بعملية الانتخاب.
أما الأحزاب السياسية، فقد أبدت سخطها من التدخل في الانتخابات، فترك حزب الأحرار الانتخابات معرضاً عنها نتيجة لهذا التدخل، وأصدر بياناً فضح فيه ممارسة الحكومة لفوز من تريدهم، موضحاً أن النواب يتم تعيينهم لا انتخابهم. في حين سحب الحزب الوطني الديمقراطي نوابه من المجلس، وأصدر الآخر بياناً دعا فيه إلى احترام الدستور والديمقراطية، وأكد ما جاء في بيان حزب الأحرار.
كما ساند حزبا الشعب والاتحاد الوطني بقية الأحزاب، وأكدّا أن المجلس الجديد لا يمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً، ودعوا إلى انتخاب مجلس نيابي ديمقراطي.
وفي 24 آذار 1947 اجتمعت الأحزاب الخمسة، وتوصلت إلى صيغة بيان مشترك للشعب العراقي، أوضحوا فيه موقفهم من الانتخابات وتلاعب الحكومة، وأكدوا أن إهمال الدستور هو سبب تأخر البلاد.
ومع كل البيانات والاحتجاجات، أتمّت الحكومة الانتخابات وفاز مرشحوها، وأفتتح مجلس الأمة بعقد اجتماع غير عادي في 17 / 3 / 1947، وقدّم نوري السعيد استقالته بعد أن أتمّ مهمته في إنجاز الانتخابات النيابية.
وجاءت وزارة صالح جبر في اليوم نفسه الذي قبلت فيه استقالة نوري السعيد، لتعرض في منهجها تعديل المعاهدة العراقية - البريطانية لعام 1930، على أساس ضمان المصالح المتبادلة بين الطرفين، أما النقطة الثالثة فكانت تتعلق بقضية فلسطين، التي وصلت في ذلك الوقت إلى مرحلة خطيرة كان لابد من التحرك لإيجاد حل لها، وتكاد تكون هاتان النقطتان محور العمل الرئيسي لوزارة صالح جبر في سياستها الخارجية.
لاقت الوزارة الجديدة صعوبات منذ بداية عملها، فقد بدأت الأحزاب معارضتها لاعتقادها بأن الوزارة جاءت لتنفيذ سياسة استعمارية، ترمي إلى إنشاء تكتلات ومشاريع استعمارية تربط العراق بعجلة الاستعمار. فقد عقدت معاهدة تحالف وأخوّة بين العراق والمملكة الأردنية الهاشمية، وعلى الرغم من مصادقة مجلس النواب عليها، إلاّ أن الأحزاب لم ترضَ عنها، إذ جوبهت بمعارضة شديدة بوصفها
" تقيم تكتلاً بين الدولتين وتباعد بين دول الجامعة العربية، كما أنها توّسع عمل الجيوش البريطانية عن طريق الجيش البرطاني الزاحف إلى العراق، وبذلك تعطي مبرراً للتدخل البريطاني، كما أن العراق سيقوم بالتزامات مالية واقتصادية تكون عبئاً عليه ".
وقد أعلن حزب الاتحاد الوطني معارضته إلى مثل هذه التكتلات، كما دعا حزب الشعب إلى إحباط هذه المعاهدة، لأن للسياسة البريطانية يداً فيها، وكتب عزيز شريف دراسة حول هذه المعاهدة بعنوان " المعاهدة العراقية الأردنية دراسة وتحليل "، بيّن فيها أن الغاية ربط العراق بشكل قوي ببريطانيا.
أما الحزب الوطني الديمقراطي، فقد بين أن المعاهدة تؤدي إلى العزلة بين العراق وأقطار الجامعة العربية، وكذلك الأقطار المجاورة له. كما عارض حزب الاستقلال المعاهدة، طاعناً في بعض نقاطها، وأوضح رأيه في بيان رفعه إلى رئيس الوزراء.
أما حزب الأحرار، فقد كان مؤيداً للمعاهدة التي رأى فيها اتحاداً بين الأقطار العربية وتقويتها، وتواصلت الأحزاب في ممارسة عملها السياسي، ولاسيما حين بادرت الوزارة بتعديل المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1930، واتفقت غالبية الأحزاب على ضرورة التعديل عدا حزب الشعب الذي طالب بإلغائها.
وفي اليوم الثامن من شهر أيار عام 1947، بدأت المفاوضات سراً بين الطرفين العراقي والبريطاني، أعقبتها اجتماعات أخرى تمخضت عن مقترحات عراقية تمحورت في:
1. تنمية الجيش العراقي وتطويره وتجهيزه بالمعدات والأسلحة العسكرية الحديثة.
2. إعادة النظر بالقواعد الجوية البريطانية في العراق.

في حين تركزت المطالب البريطانية على استمرار استخدام القاعدتين في الشعيبة والحبانية، وكذلك الحصول على النفط، واستخدام الأراضي العراقية لمرور القوات البريطانية، ومنح تسهيلات جوية في ميادين أخرى للقوة الجوية البريطانية.
عن رسالة (التطورات السياسية في العراق وموقف النخبة السياسية البرلمانية في لواء الحلة)