ماركس في سوهو : جئت لأدافع عن اسمي!

ماركس في سوهو : جئت لأدافع عن اسمي!

عواد ناصر
ها نحن نستعيد كارل ماركس مسرحياً، بفضل الكاتب والناقد والمؤرخ الأميركي هوارد زين في نصه المسرحي «ماركس في سوهو»، الصادر بترجمة الحارث النبهان، عن "دار المدى".
في النص نجد كارل ماركس المشرد والمنفي إلى أكثر من بلد (الشرطة أمميون أيضا أكثر من الطبقة العاملة، كما يعلق ماركس)، اليهودي المعمد مسيحيا، الألماني الذي انتشرت نظريته عبر العالم، وطبقت (هل حقاً طبقت؟) في سدس الكرة الأرضية،

لكنه أحد أكثر الفلاسفة الكبار الذين اجتذبت أفكارهم الناس من مختلف الأجناس، وأكثر الفلاسفة الذين شوهت أفكارهم، تطبيقا، في أنظمة، وأحزاب أيضا، سميت بالاشتراكية لكنها لا تختلف عن نقيضها، ماركسيا، الأنظمة الرأسمالية، فتكاً بالإنسان.

ماركس يصعد على خشبة المسرح ثلاث مرات في مسارح أميركية، لأعوام 1995، 1996، 1997 وقُرئت عام 1998.
ثمة جمهور شكراً لله، هي العبارة الأولى التي يتفوّه بها ماركس، وهو يواجه جمهوره المسرحي، هي عبارة مرتابة تطلقها الشخصية في عالم يفضل أمكنة أخرى غير المسرح. وإذ يدرك دهشة النظارة وهم ينظرون إليه على الخشبة يبادرهم بسؤال يدور في أذهانهم: «كيف حضرت إلى هنا؟» ويجيب في الحال: بـ«المواصلات العامة». ما الذي يجده مؤلف مسرحي في شخصية مثل كارل ماركس، الذي لا يهتم به سوى نخبة محدودة من المثقفين، في أفكاره لا شخصيته؟
برغم شهرته الواسعة التي غطت أرجاء المعمورة، إلا أن قلة من الناس عرفت أفكاره وأقل منهم تبنتها. هذه المفارقة «الفنية» وردت في النص المسرحي الذي نقرأه هنا بشكل آخر، وعلى لسان جيني، رفيقة ماركس وزوجته، وهي تعترض على أهم وأصعب كتاب وضعه ماركس «رأس المال» بسبب صعوبته ومادته العلمية. صعوبة الكتاب الذي ينبغي، حسب تصورها، أن يكون مفهوما من العامة، والفقراء والعمال والمهمشين، الذين كرس ماركس حياته من أجلهم، وتضرب له مثلا في «البيان الشيوعي» ذلك الكراس الخاطف بسطره الأول الدرامي والمثير للتساؤل: «ثمة شبح يجول فوق أوروبا..». ثم تسأله جيني: أتعرف أن الرقابة سمحت بطبع الكتاب لأنها أدركت بأن لا أحد يفهمه.
ماركس: لقد كتبنا «البيان الشيوعي» في عشريناتنا أنا وإنجلز.
نعم، إنها لمهمة شاقة أن تتحول أفكار ماركس المركبة، الجافة، إلى عرض مسرحي، لولا إدراك المؤلف للجانب الإنساني في شخصية بطله: العائلة، الأصدقاء، النزهات، المشاجرات اليومية، العلاقة بالأولاد، الطعام، تأمين إيجار الشقة.. إلخ، الذي جعله يسير بالتوازي مع دراما الأفكار الرئيسة للشخصيه، مما أضفى على النص مزيدا من الحيوية والتوتر. يستأنف ماركس، على الخشبة، بعض ظواهر العالم المعاصر، ويقدم نقده الجديد استمرارا لمنطلقاته الأساسية وتأسيساتها المبكرة. بل ينتقد بجرأة ظاهرة الستالينية بوضوح: لم أقل بالنظام الأشتراكي الذي يتحول نظاما استبداديا يقتل فيه الناس، أو يقتل الرفيق رفيقه في تصفيات حكومية وحشية.
ثمة شخصية يقدمها المؤلف على لسان ماركس اسمه «بيير»، وهو شخصية أزلية موجودة عبر العصور. شخصية الجاهل، المتملق، النشيط، المتنطع للمهمات الصعبة بقدرات معدومة. «بيير» يستشهد بماركس كثيرا (كم يوجد منه هذه الأيام؟) وبحضوره، ويريد ترجمة «رأس المال» إلى الإنجليزية..
«عجيب، لم يكن الرجل قادرا على نطق جملة إنكليزية من دون أن يذبحها ذبحاً. لغة شكسبير». بيير هذا هو الممثل النموذجي لظاهرة الأمي المتبجح، الذي نلتقيه في مختلف اللقاءات والتجمعات والأحزاب الثورية وغير الثورية، في السلطة والمعارضة، في داخل بيوتنا، كما حدث مع ماركس، أو في جهاز الدولة.

قلت لجيني ذات مرة: أتعرفين ما أكثر ما أخشاه؟
قالت: أن لا تحدث الثورة العالمية أبداً.
قلت: «لا، بل أن تحدث الثورة ويستولي عليها أناس مثل بيير، متملقون وهم خارج السلطة، مستأسدون ومتبجحون عندما يملكونها. دوغمائيون. سيتكلمون باسم الطبقة العاملة، وسيفسرون أفكاري للعالم. سيقيمون كهنوتا جديدا، تراتبية جديدة، بما فيها من حرم كنسي وقوائم بالممنوعات، وبما فيها من محاكم تفتيش وفرق إعدام». «سيشوهون حلمنا الجميل، وستلزم ثورة أخرى، وربما ثورتان أو ثلاث لتنظيف ذلك كله. هذا ما أخشاه.
ومن المشاهدة اليومية يوجه نقده الشديد للعالم المعاصر، عالم تراكم المال بيد حفنة من الناس بينما تزداد الجموع الغفيرة جوعا وبؤسا، عالم استهلاكي يقوم على «صنمية السلعة»، عالم يقتني أفخر العطور بشكل محموم لفرط إحساسه بالعفونة.
«يقرأ من الصحيفة: اندماج ضخم بين كاميكال بانك وتشيز مانهاتن بانك. سيفقد ألف عامل وظائفهم... الأسهم ترتفع»... ويقولون أفكاري قد ماتت.
«لقد اختفى كتاب ريكاردو. نقد الاقتصاد السياسي».
قالت جيني: لقد رهنته. ظننتك انتهيت منه
فقدت أعصابي، ريكاردو. هل رهنت ريكاردو؟
قالت: «إهدأ. ألم نرهن الخاتم الذي أعطتنيه أمي الأسبوع الماضي؟
«هكذا كان الأمر. يتنهد. كنا نرهن كل شيء، خصوصا هدايا أسرة جيني. وعندما نفدت تلك الهدايا، رهنَّا ثيابنا. ذات شتاء ـ أتعرفون شتاء لندن؟ قضيت أيامي من دون معطف. وذات مرة خرجت من المنزل فبدأت قدماي بالتجمد على الثلج. عندها أدركت الأمر: لم أكن منتعلا حذائي، فقد رهنَّاه في اليوم الفائت».

المسرحية شائقة، مكثفة، نص ماركسي مسرحي، لكنه مثل أفكار شخصيته الرئيسية ماركس، مثيرة للجدل، بعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسر.