إسماعيل فهد إسماعيل يقتفي أثر قاطعي الرؤوس روائياً

إسماعيل فهد إسماعيل يقتفي أثر قاطعي الرؤوس روائياً

حسن الفرطوسي
ثمة تردد ينتابني مع الشروع في الكتابة حيال منتج روائي ما، يخص الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، وذلك لحجم الفارق الكبير في الخبرة التي تنطوي على فارق معرفي حتماً، وبناءً عليه فهذه قراءة أو انطباع ترسّب لدي بعد الإنتهاء من قراءة روايته "الظهور الثاني لإبن لعبون" الصادرة عن دار "نوفا بلس للنشر والتوزيع" والتي أجزم بأنها العمل الفني الأبرز،

أو ربما الأوحد الذي أظهر الوجه التنويري للكويت على هذا النحو الواضح والمبهر والمتفرّس في هواجس المجتمعات خلال حراكها التاريخي.. وببراعة المعلم قدّم إسماعيل هذا الوجه التنويري من خلال حضور الوجه الظلامي بالمقابل، المتمثل بتسلل الحركة الوهابية إلى الكويت في بدايات القرن العشرين.
تأتي عملية الروي على لسان السيد جان دارك، ضابط استخبارات بريطاني مولود في مسقط لأب يشغل وظيفة أمين حسابات ديوان المفوض السامي البريطاني لعموم سواحل مضيق هرمز وبحر العرب، وبسبب هذه الخلفية، فضلاً عن إجادته اللغة العربية وفهمه العميق للتقاليد العربية، استقدمه المندوب السامي البريطاني في الكويت الكابتن شكسبير، ليكون عيناً له من خلال عمله في المستشفى الأمريكاني، وقد شجعه الأخير لاحقاً على إعلان إسلامه ليكتسب اسماً جديداً، محمد جان دارك.. ومن هنا تبدأ الرواية بالعثور على رؤوس مقطوعة في مرقد الشاعر محمد بن حمد بن لعبون، ألمع شعراء الخليج، المتوفى بسنة الطاعون عام 1831 عن عمر لم يتجاوز الثانية والأربعين..
وهذا المرقد أصبح مزاراً للعشاق وأهل الهوى على مدى مئة عام تقريباً، يقيمون احتفالهم السنوي بذكرى وفاته، حيث يحتشد مريدوه وعشاق شعره وفنه الموسيقي من الجنسين، على شكل فرق غنائية وأخرى راقصة، إضافة إلى مئات المتفرجين والباعة الجوالين. وهذا هو الوجه التنويري المقصود، الذي وضعه الكاتب في مواجهة الوجه الظلامي، إذ ليس من المألوف أن يكون لدى الشعوب العربية مرقد لشاعر يزوره مريدوه على هذا النحو الإحتفالي، وقد يكون هذا خفياً على الكثير من الكويتيين في الوقت الحاضر.. ومثلما كشفت الرواية مرحلة بارزة من مراحل العنف الديني المتشدد، سيما في استهداف الضعفاء والمناطق الرخوة في المجتمع، بإيعاز إثنين من رجال الدين الوافدين، فقد كشفت أيضاً صلابة التيار التنويري الليبرالي آنذاك، المتمثل بشريحة المثقفين والأدباء والمهتمين بالشأن العام، وقد وظّف الكاتب بعض الشخصيات الحقيقية وأعلام تلك الحقبة كخالد بن محمد بن فرج وصقر بن سالم الشبيب ويوسف بن عيسى القناعي وعبد العزيز الرشيد، وقد منح الكاتب فرصة السرد لتلك الشخصيات بالمقدار الفني الخاضع لميزان إسماعيل الخاص.
ظاهرة قطع الرؤوس التي يتم اكتشافها في المرقد هي عصب الرواية التي يتعدى عدد صفحاتها ستمئة صفحة، وقد تثير أحداثها حزمة من التساؤلات، أولها: لماذا استهدفت الحركة المتشددة مرقد ابن لعبون دون سواه؟
صحيح أن ابن لعبون كان مشاكساً للتيار الديني المتشدد، وكتب الكثير من القصائد التي جعلت الناس ترددها بتندّر، من بينها قصيدته المتضمنة البيت الشهير "أهل العمايم والنمايم والأصحاب.. مدّ الحبل في ذمهم واحتطبَ به" إلا أن ذلك لم يكن السبب الحقيقي وراء إصرارهم على محو المرقد من الوجود، فقد قاموا بهدمه ثلاث مرات وأعيد بناؤه من قبل الأهالي، وآخرها ابتكارهم العنيف بجعله مسرحاً لرؤوس مقطوعة.. وكذلك ليس بدوافع طائفية قطعاً، لأن المرقد يعود لشاعر يوصمونه بالمجون وليس رمزاً دينياً لطائفة أخرى، وإنما لأنهم يرون في المرقد مكاناً منافساً لحضورهم ونشاطاتهم، هو ولاء يمتاز به الآخر يحاولون مصادرته لأنهم يعتقدون بأنهم أولى به، تماماً كما يحدث اليوم من تدمير للآثار والمتاحف من قبل التنظيمات الإرهابية في أماكن عديدة من العالم العربي، لكنهم في حربهم ضد مرقد ابن لعبون اشتغلوا على محورين أساسيين، الأول يتمثل بالرعب الذي تخلفه الرؤوس المقطوعة، والمحور الثاني يتمثل في تضخيم التلّة القريبة من المرقد، المسماة بـ"صيهد الجنانوة" كمصدر لخلق الخرافة وبث الرعب الميتافيزيقي، إذا جاز لنا التعبير.. وبذلك تكون الديوانيات ومراكز التجمعات الثقافية هدفاً ضمن خطط مستقبلية بعد المراقد.
تبقى الرواية التي يزيد حجمها على ستمئة صفحة، أكبر من الإحاطة الكاملة بكل أبعادها وإسقاطاتها والإشارات المضمرة التي تنطوي عليها، ولكني سأشير، علاوة على ما تقدم، إلى التقنية المغايرة التي استخدمها الروائي في بناء شخصياته في هذا العمل، والتي يتحقق عبرها ما يجعل الشخصيات تترك أثراً عميقاً على الرغم من محدودية مساحتها السردية، وخير مثال على ذلك هو شخصية المندوب السامي البريطاني، الكابتن شكسبير، الذي لم يخرجه الكاتب من داره طوال زمن الأحداث، كما لم يمنحه ناصية الروي المباشر، إنما كانت الشخصية تعبر عن نفسها من خلال شخصية جان دارك كوسيط حكواتي، إلا أن الشخصية تركت إشارتها المعنوية في ذهن القارئ، أو كما يعبر عنه أمبيرتو إيكو بالأثر المفتوح، فشكسبير الذي اقترن دوره في سياق مرتبط بأنواع الخمور الفاخرة، كانت له رؤية ثاقبة تنفذ إلى خارج إطار الرواية وهو يسخر من حماقات بعثة المستشفى الأمريكاني في إقدامها على عقد دروس ولقاءات دورية هدفها التبشير بالديانة المسيحية.. ولطالما قال لمرؤوسه جان دارك ما معناه، أن البعثة الأمريكانية، من خلال تلك الدروس التبشيرية، إنما تعدّ مكيدة لنفسها ولغيرها على حدّ سواء.. وبذلك تكشّفت قناعات ورؤى وبعد نظر الكابتن شكسبير واضحة وجليّة من خلال إشارات محدودة ودون إسهاب.. تلك بعض المهارات والتفاصيل التقنية التي تجعل رواية "الظهور الثاني لابن لعبون" تشكل معلماً مهماً من معالم الأدب الكويتي والخليجي.