وحيدة خليل: مريم البصرية التي فتنتها بغداد فصارت نجمتها

وحيدة خليل: مريم البصرية التي فتنتها بغداد فصارت نجمتها

علي عبد الأمير
مع انها رددت مطولا في افراح مدينتها ومناسباتها الاجتماعية، اغنيات بيئتها الاولى التي تنوعت بين انغام شعبية سائدة في البصرة، وأصوات ريفية لمطربين: داخل حسن، حضيري ابو عزيز، ومسعود (مسعودة) العمارتلي، الا ان مريم عبدالله جمعة، المولودة اوائل عشرينيات القرن الماضي، لم تجد نفسها، بعد ان نضج صوتها، الا وهي تتوجه نحو المدينة الغاوية،

نحو بغداد التي كانت اغنياتها تترنق بحلاوة مطربات امثال سليمة مراد، منيرة الهوزوز، عفيفة اسكندر، وغيرهن، وبعد ان وجدت نفسها وقد تدربت مطولا على اداء غنائي راق مثله اصوات ام كلثوم، اسمهان وليلى مراد. هكذا بدأ السحر وهكذا فعلت الغواية فعلها.
وفي حوار صحافي (1)، تكشف، من سيصبح اسمها وحيدة خليل، عن بداياتها فتقول: "كانت منطقة البصرة مليئة بفرق "الخشّابة"، وكنت احفظ كل اغانيهم فاشتريت طبلة، واصبحت عازفة على الايقاع وانا في الثامنة، وفي البيت كنت اغني واعزف لنفسي، حتى ضبطت الايقاع الغنائي "الدوم"، واصبحت اذني، اذنا موسيقية ونظيفة للغاية حيث بات يستحيل عليّ الخروج عن الوزن او ارباك العازفين".
"الله الله.. يا ام كلثوم البصرة"
وفي البصرة ذاتها، " كبرت موهبتي، شيئا فشيئا، وكبرت ارادتي، وصار صوتي احلى واقدر، وفي يوم من الايام خرجت وعائلتي الى حديقة "ام البروم"، حيث كانت هذه الحديقة مخصصة للنساء كل مساء ولا يدخلها الرجال قطعا. معي "الطبلة" وصاحباتي، وبدأت اعزف واغني لفرق "الخشّابة"، ثم انشدت اغنية "انا بانتظارك" لام كلثوم".
وتكشف وحيدة خليل، جانبا مهما من القيمة الفنية- التربوية لعروض السينما في المدن العراقية، وتقول "اذكر بان العوائل كانت آنذاك تحضر عروض السينما، حيث شاهدنا عشرات الافلام مثل "الوردة البيضاء"، "سلامة"، "دنانير"، "افرح يا قلبي"، وغيرها، وحين اديت جملة صعبة في اغنية "انا بانتظارك" سمعت من يصرخ خارج سور الحديقة "الله الله.. يا ام كلثوم البصرة، وحين التفتنا وجدنا ان الرجال واقفون على "سياج" الحديقة وهم يستمعون الينا فجن جنوني وهربت من الباب الخلفي وانا ابكي من الخجل".
صوت الريف "المتمدن"؟
وعلى منوال المطربين حضيري ابو عزيز وداخل حسن، في تلمس "مدنية" بغداد طريقا لترسيخ التجربة الفنية، وتطوير الذات المطربة، عبر ما تتوافر عليها من وسائل تقنية (صناعة الموسيقى تلحينا وتسجيلا وبثا)، وجدت المطربة وحيدة خليل، طريقها لدخول الاذاعة، بعون من داخل حسن، بحسب ما يذهب اليه الباحث المتخصص في الغناء العراقي، كمال لطيف سالم (2): "عندما عرفت في الاوساط الفنية، تطلعت للذهاب الى بغداد حيث المسارح والاذاعة، وتعرفت على الفنان داخل حسن الذي سمعني واخذ يعلمني بعض اطوار الغناء الريفي ومهد لي الطريق لدخول الاذاعة، وهناك تعرفت على الملحن ناظم نعيم والشاعر ابراهيم وفي، وكانت اغنية تواعدنا". وفي البدايات ايضا، تكشف المطربة الراحلة "بعدها غنيت من كلمات الشاعر اسماعيل جودت والحان محمد نوشي اغنية "حيرة"، ومنها "حرت والله بزماني يا صحبي/ احير بولفي لو أحير بغربتي"، بعد هذه المرحلة، بدأت افهم بعض الامور المتعلقة بالموسيقى والغناء، فلحن لي مرة اخرى ناظم نعيم اغنية "ما جنت ادري" من كلمات جبوري النجار والحان كاظم الحريري، وكذلك "انا وخلي"، ومن مطلعها "انا وخلي تسامرنه وحجينه/ نزهة والبدر شاهد علينه".

ما يلفت في تلك البداية، ان المطربة الانيقة الحضور حتى وإن تزينت بالملابس والحلي التقليدية، اثناء تسجيلها اغنياتها للتلفزيون، لم تقع اسيرة الحدود التقليدية لما هو ريفي غناء ولفظا وظهورا، بل امكن لها فعلا ان تكون متمدنة الحضور، دون ان تتنكر لأصول ثقافية ريفية، ممثلة بالمفردة والنطق والاطوار النغمية، وقد يكون هذا عائدا ايضا ليس للجانب التقني الممثل في جوانب الصناعة الموسيقية، بل كذلك لكون تلك البداية جاءت في وقت باتت المدنية في بغداد بخاصة، والعراق بشكل عام تسجل حضورها على اكثر من صعيد ثقافي وانساني، مثلما كان لحسن الحظ تأثيره ايضا، فهي تعرفت في بداياتها الحقيقية على رموز "الاغنية البغدادية" لحنا: ناظم نعيم، محمد نوشي ولاحقا عباس جميل، وشعرا: جبوري النجار، ابراهيم وفي، سيف الدين ولائي، وغيرهم.
وعن الجانب المديني في حياتها وفنها تقول: " كنت معجبة بأم كلثوم اعجابا كبيرا وكنت ادخل السينما اربع مرات في الاسبوع لأشاهد ام كلثوم، كنت احفظ اغنياتها عن ظهر قلب كي اغنيها في اليوم الثاني في المدرسة او في البيت، كما كنت معجبة بالمطربة ليلى مراد، وهنا اود ان اشير الى ان بداياتي لم تكن ريفية حيث اني بنت مدينة ولست بنت ريف".
لكن صاحبة "عليمن يا قلب تعتب عليمن"، تستدرك متسائلة "كيف صرت مطربة ريفية"؟ فتقول " وفي يوم تلقيت دعوة للغناء في حفل زواج في بيت الشيخ محمد العريبي، وهو شيخ معروف في مدينة العمارة، وكانت المرة الاولى التي اغني فيها خارج البصرة. هناك استمعت ولأول مرة للغناء الريفي فأعجبني مطرب اعتقد ان اسمه "جويسم"، كان يغني بشكل جميل وساحر، وبدأت استمع اليه وانتبه الى طريقة غنائه، وبقيت سبعة ايام اتعلم حتى حفظت كل اطوار الغناء الريفي".

ويبدو تعاون الملحن الفذ عباس جميل مع المطربة وحيدة خليل، تأكيدا لمعنى" مدنية الغناء" أي نقله من اجواء الريف الصرف الى اجواء التلقي المديني، فهو حين لحّن اغنية "ماني صحت يمه احا جا وين اهلنا"، قال إن هذه الاغنية لا يمكن إن تؤديها غير المطربة وحيدة خليل لأنها من اهل الجنوب وهي التي تعبر اكثر من غيرها من المطربات، والامر ذاته تكرر مع اغنيتيها "على بالي ابد ما جان فركاك"، و"عين بعين على الشاطئ تلاكينه". ومثل هذا الحساسية في مزج الريفي بعطر الحداثة المدينية كانت في الحانه للمطربين داخل حسن وحضيري ابو عزيز، ولكن ضمن مساحة في حرية الاداء متروكة لإصحاب الاصوات الغنائية: "إنني لا أقيد المطرب أو المؤدي بصرامة، فألحاني في الحقيقة فضاءات مفتوحة رحبة، للمؤدي أن يتجول فيها شرط أن يحافظ على هيكلها الأساسي". (3)
وبحسب حوارها مع الكاتب والباحث كمال لطيف سالم، تقول "لقبت فيما مضى بأميرة الغناء الريفي، ولاشك ان الملامح الاساسية التي يتشكل منها صوتي تكمن في صفائه وانسيابه وقدرته على التفاعل، مع الكلمة واللحن الريفيين. وهذا لا يعني بالضرورة، عدم استطاعتي تأدية الاغاني العصرية"، مؤكدة "لقد كان اول من اكتشف جوهر صوتي، هو عباس جميل، الذي صاغ لي العديد من الالحان، التي دفعت بقدرات صوتي نحو المزيد من التألق والنجاح، واشهرها: انا وخلي تسامرنة وحجينه/لا هو جرح ويطيب/ عليمن ياقلب تعتب عليمن/ حرت والله بزماني/ امس واليوم/ ارد اوقف بحي الولف/ على بالي ابد/ اقولك لو عواذلنا تقولك/ بسكوت اون بسكوت/ يمة هنا/ ماني صحت/ جان الحي حلو بعيني/ يحفظج يايمة".
روحية الغناء
في الاداء الغنائي، يندر ملمح اساسي الا وهو التعبير عن الحالات الشعورية الانسانية، غير ان صوت وحيدة خليل، بدا متضمنا لذلك التعبير، حتى مع انه صوت بحدود بسيطة بين مستويات الجواب والقرار، وذلك يأتي من خلال غنى يأتي عبر "الروحية" في الاداء والاخلاص التام للمعاني والحالات الشعورية في النص، فلو اخذنا، اداءها في "انا وخلي تسامرنه وحجينه"، لوجدنا سريعا وبلا مقدمات، ذلك السرور الانيق الممزوج بالوجل الخفي حين يتم التعبير صراحة عن مشاعر الحب، والطافح بالثقة والقوة حين يكون الامر متعلقا بالظواهر الطبيعية والمكانية التي يتضمنها مشهد الاغنية المرسوم بعناية حيث العاشقان يتنزهان على شاطىء النهر وتحت ضوء القمر: " نزهة والبدر شاهد علينا"، والانطلاقة الكبيرة مع النسيم العذب " والعذيبي تنسم/ عبير الورد نشتم/ على شاطي النهر جينا وغدينا". وهذا النوع من الاداء المعبر للمشاعر على اختلاف مستوياتها، ما هو الا ملمح مركب، يجسد ما هي عليه ثقافة المدينة من تركيب شعوري متعدد.
وفي اغنية "عين بعين على الشاطئ تلاقينا"، نعود الى المشهد ذاته: الشاطىء/ القمر/ النزهة، لكن وفق حالات شعورية جديدة، تولى صوت المطربة تجسيدها باقتدار، فهناك الحسرة والشوق المكتوم" مشينا وظل على عيوني خيال يحوم مثل الطيف"، كذلك ثمة الوجد المؤلم " وفي وسط القلب آه، على شفافي مرارة حيف"، وكم كانت الصوت موفقا في تجسيد "الآه" و"المرارة" حين يقاربها بطريقة يكاد يجسد ما فيها من خذلان وألم سري وشوق ايضا، ولو توفر لحن غير هذا الذي جاءت عليه الاغنية، وكان خفيفا سريعا، لاغتنت تعبيرية الاداء وتعمق تأثيره الوجداني.
وعلى هذا المنوال من روحية الاداء وتعدد مستوياته الشعورية، يأتي صوت وحيدة خليل في اغنية "على بالي ابد"، وبالذات حين يأتي جوابا "على غفلة تفارقنا"، كأنه النذير المخيف الذي حمل الفراق على حين غرة، او قرارا خفيضا جميلا " تدريني احبك وانا اهواك"، كأن الحب والثقة يتفقان على العميق والهادئ في النفس.
وفي مزيج من التعبيرية العالية، والصدق في الاداء، فضلا عن اللون الشخصي (روحية المدينة حتى في التعاطي مع قضايا اجتماعية تتعلق بحياة الريف ومشكلاته)، جاءت اغنيتان بارزتان لابنة البصرة التي صارت علامة في الغناء البغدادي ايضا، هما: "طالت غيبتك يا اسمر علينا"، و"يا ارضنا...يا أرضنا" اللتان استخدمتا "دعائيا" من قبل الانظمة العراقية الجمهورية في تشجيع الفلاحين على العودة الى الريف ضمن ما عرف حينها "الهجرة المعاكسة"، وفيهما روحية تعبير مدنية في الصوت والكلام واناقة الجملة اللحنية، على الرغم من كونها اغنية تنتمي كفكرة الى الريف مكانا ودعوة اجتماعية- انتاجية، والجوهري هنا، هو ان العامل المحرك في الثقافة العراقية، حتى مع بدء استيلاء السلطات الحاكمة ما بعد تموز 1958 على المؤسسات والوسائل المنتجة لتلك الثقافة، هو الجوهر المدني المتحضر، وقبل ان تتحكم القيم الريفية والبدوية الوافدة مع الحاكمين لبغداد، لغة ومفاهيما وانماط تفكير، بذلك الجوهر وتتمكن لاحقا من قتله في عملية تصحير للنفوس والافكار، وهو ما كان طبيعيا ان نتلمسه في مشهد كئيب تماما، عناه رحيل المطربة الانيقة الحضور الصوتي والاطلالة المسموعة والمرئية، في وقت كانت بلادها تلملم حطامها المعنوي والمادي، حين وريت الثرى في صمت تام منتصف العام 1991.

هوامش
(1) حوار مع المطربة وحيدة خليل نشرت اصلا في جريدة "الجمهورية" بتاريخ غير معلوم، واعادت "المدى" نشره بتاريخ 12 شباط (فبراير) 2012.
(2) مجلة "الاذاعة والتلفزيون" بغداد – 1976
(3) علي عبد الامير- موقعه الشخصي.