الوجه الآخر لفرانكشتاين بغــــــــداد

الوجه الآخر لفرانكشتاين بغــــــــداد

د. عمر الخواجـا
في البداية لا بدّ من التأكيد أنّ الفكرة الرئيسة في رواية أحمد السعداوي (فرانكشتاين في بغداد) تعتمد على رمزية ذلك المسخ المخلوق في المختبرات العلمية أثناء البحث عن إكسير الحياة والذي أصبح أيقونة للبشاعة ورمزا لمخاطر النتائج المخيفة للتجارب العلمية المنفلتة من عقالها مع ما يتبع ذلك من صراع بين هذا المخلوق الخيالي المخيف والعالم الواقعي الذي يحاول ايقاف جنون هذا الكائن الذي يسير هائما على وجهه ناشرا رعبه بين الأحياء والأموات...

(فرانكشتاين رواية للمؤلفة البريطانية ماري شيلي صدرت عام 1818)، ولقد تجسّدت هذه الشخصية في العديد من الافلام السينمائية بطرق مختلفة ولكنّها في مجملها تعتمد فكرة المسخ البشع الذي يتم تخليقه نتيجة خطأ تقني وعلمي ويهرب من مختبر العلوم والطب نحو واقع الحياة والحاضر حيث تحصل في أغلب الاحيان مواجهة مركزية بين الشخصية وصانعها، لقد استخدم المؤلف هذه الأيقونة الشريرة بطريقة ذكية مُختلفة مُوظّفا جزءا كبيراً من أفكاره السياسية والثقافية عبر هذه الشخصية المعروفة، ولم تكن فكرة البشاعة هي الفكرة الرئيسة في الرواية بمقدار ما كانت وسيلة لعرض واقع أليم مليء بالشرور والجرائم والدماء والخراب.. عالم لا يقل بشاعة بأحداثه المرعبة عن ذلك المخلوق المسخ الذي ينشر الخوف والرعب والموت......

رواية (فرانكشتاين في بغداد) الصادرة عام 2013 تُصوّر شـــــخصيات عراقية واقعية تختزن داخلها وجع التّشظي وآلام الحروب وتعبّر عن التّنوع المجتمعي الواسع (هادي العتاك، فرج الدلال، باهر السعيدي، الصحفي محمود السوادي، العجوز ام دانيال، أم سليم، أبو أنمار، عزيز المصري، العميد سرور.....) غير أنّ الشّخصية الرئيسة في الرواية تظهر وكأنّها قادمة من أفلام الرعب ذات البعد الخيالي العلمي، شــــــخصية مُختلقة تحمل من خلال اسمها دلالة المجهول ورمزية البشاعة الشكلية فهذ الاسم (الشسمة) يعني كما ورد في نهاية الرواية: (اللي شو اسمه) وهو مفردة عراقية دارجة ويقصد بها حرفيا الذي لا أعرف أو لا أتذكر ما هو اسمه.
سؤال: من هو الشسمه؟ هذا المسخ الذي صنعه الكاتب من بقايا الضحايا حمل في أجزائه العضوية وأفكاره الغريبة وتصرفاته المنفردة فلسفة واضحة المعالم تنزع نحو تحقيق العدل من أجل ضحايا التفجيرات والقتل العشوائي في مدينة بغداد.... فرانكشتاين السعداوي (الشسمه) لم يكن مُرعبا بشكله الدميم ولم يكن مُخيفا بأجزائه المتعفنة بل كان رسالة تتعقب من يرتكبون الظلم ويجعلون من الضحايا الابرياء ســلما لصراعاتهم الطائفية وطموحاتهم السلطوية.
من هو الشسمه؟ يظهر جواب السؤال على لسان البطل نفسه حين يتحدث ساردا حكايته وسبب وجوده وأهدافه الغريبة من خلال كلمات عابقة بالأحاسيس المؤثرة حيث يقول ص 156 من الرواية: (وأنا الرد والجواب على نداء المساكين، أنا مخلصٌ ومنظرٌ ومرغوبٌ به ومأمولٌ بصورة ما. لقد تحركت أخيراً تلك العتلات الخفية التي أصابها الصدأ من ندرة الاستعمال، عتلات لقانون لا يستيقظ دائما، اجتمعت دعوات الضحايا وأهاليهم مرة واحدة ودفعت بزخمها الصاخب تلك العتلات الخفية فتحركت أحشاء العتمة وأنجبتني أنا الرد على ندائهم برفع الظلم والاقتصاص من الجناة.)
من الناحية الشكلية لا تستطيع أن تتعاطف مع فرانكشتاين المسخ، ولكن مسخ أحمد السعداوي (الشسمه) يجذبنا بأفكاره وكلماته وأفعاله الهادفة لتحقيق العدالة والانتقام للضحايا.. هذا الكائن العجيب يجد من يؤيده بالأفكار والأعمال حيث نتابع في الرواية العديد من المؤيدين والمساعدين الذين يعينونه على أداء مهمته وإخفاء بشاعة الأجزاء البشرية المتعفنة والتي تتآكل وتتساقط وتحتاج لمزيد من التبديل والخياطة والمتابعة..
... يقول الشسمه عن نفسه ص 161 (أنا ولأني مكون من جذاذات بشرية تعود إلى مكونات وأعراق وقبائل وأجناس وخلفيات اجتماعية متباينة أمثل هذه الخلطة المستحيلة التي لم تتحقق سابقا.. أنا المواطن العراقي الاول....)
هذه الخلطة المستحيلة من المكونات العراقية الاجتماعية والدينية والسياسية تتداخل في جسد واحد وتنتجُ كائنا يحملُ في داخله طموح العدالة والقانون فيما يمثل رؤية مثالية لطموح عابق بآمال الوحدة والتعايش ونبذ الخلافات بأشكالها المختلفة.
لقد استبدل السعداوي مختبر الأبحاث العلمية (مكان ولادة المسخ المرعب فرانكشتاين) وأحلّ مكانه مسرحاً واقعيّاً تنتشرُ فيه رائحة الموت ويخيّمُ عليه الخراب وتصبغه الدّماء المُتناثرة.... ينطلق (الشسمه) من بناية سكنية غير مكتملة جنوبي بغداد، حيث تحوّل المكان لساحة حرب بين الاطراف المتصارعة، مكانٌ مليءٌ بالبيوت المهدمة والمهجورة، على هذا الأرضية البائسة تجتمع الآمال والآلام، ويندمج الخيال بالواقع، ويتصارع الجنون والحكمة، ويظهر هادي العتاك والذي يقوم بجمع أجزاء الضحايا ولصقها مٌشكّلا جثة متكاملة مبررا عمله بالقول ص 34 (... أنا عملتها جثة كاملة حتى لا تتحول إلى نفايات حتى تحترم مثل الأموات الآخرين وتدفن....).. ومن هنا يظهر(الشسمه) ويبدأ مهمته وصراعه الوجودي في هذا المكان الواقعي مكان المهمشين والبسطاء والمشردين على اختلاف أجناسهم العرقية وطوائفهم الدينية... يظهر (الشسمة) بين هذه المجاميع البشرية الواقعية والتي تحاول تلافي ويلات الحرب والدمار.. يخترق (الشسمه) هذه الأمكنة البائسة مُتنقلاً من بناية لأخرى خلال الفجوات التي أحدثتها قذائف الأطراف المتصارعة في البنايات والمنازل المهجورة فيما يُشكل شبكة معقدة من الطرق السرية والغريبة والتي يحتاجها حين يعود من ترحاله اليومي وهو بحاجة لاستبدال أعضائه التي تتحلل بعد كل مهمة ينجزها... حيث يتحدث الشسمه عن تنقله اليومي قائلا ص 161 (أخرج ليلا بعد الغروب بساعة أو ساعتين أمر تحت تقاطعات نيران لا تهدأ تنطلق من جهات مختلفة أكون السائر الوحيد في شوارع طويلة فارغة حتى من القطط أو الكلاب السائبة لا شيء سوى وقع خطواتي في الفواصل القليلة من الصمت بين رشيش الرصاص الذي يشتدّ ويتزايد مع اقتراب منتصف الليل)
رواية السعداوي ليست خيالاً علمياً أو حكاية مُخيفة فمخلوقه البشع (الشسمه) يتفاعل مع بيئته الانسانية ويتحدث مع شخصيات الرواية ولديه المساعدين الذين يلازمونه ويعينونه على قضاء حوائجه وتحقيق مآربه، فهناك سـتة مساعدين يمتازون بأسمائهم التي تصفُ كثيراً من واجباتهم ومهامهم (الساحر والسفسطائي والعدو والمجنون الصغير والمجنون الكبير والمجنون الأكبر)... هذا الكائن الغريب يجد لديه كثيراً من المبررات العقلية والفكرية لعمليات القتل والانتقام اليومي التي ينفذها، فهو يهدفُ لتحقيق عدالة غائبة أو مُغيّبة رغم ما يُشاعُ عن إجرامه ووحشيتهِ، فهو صاحب مبدأ ورؤية انسانية كبيرة فهاهو يتحدث مع صانعه هادي العتاك ص 148 قائلا: (هذا ليس كل شيء.. الأسوأ هو السمعة السيئة التي يبثها المغرضون ضدي انهم يتهمونني بالاجرام.. ولا يفهون أني أنا العدالة الوحيدة في هذه البلاد) هكذا يرى ذاته أداة لتحقيق عدالة غائبة لا تجد من ينتصر لها، ومُعينا لضحايا يلقون مصيرهم البائس دون ذنب اقترفوه أو جريمة ارتكبوها، يفتخر بانجازاته اليومية ويعدد بعضا من مهامه التي قام بانجازها قائلا ص 168: (قتلت الضابط الفنزويلي المرتزق الذي كان يقود الشركة الأمنية المسؤولة عن جذب الانتحاريين اليها والتسبب في ضحايا بين المدنيين ومنهم حارس فندق السدير حسيب محمد جعفر وقتلت ذلك القيادي في القاعدة المقيم في منطقة أبي غريب المتسبب في الانفجار الرهيب بالسيارة المفخخة في ساحة الطيران ببغداد الذي خلف العديد من الضحايا ومنهم صاحب الأنف الذي اخذه هادي العتاك من الرصيف ورمم به وجهي)......... هذا هو الوجه الآخر للمخلوق الغريب الذي صنعه هادي العتاك، هذا القتل الذي يهدف لتحقيق عدالة غائبة يجعل من المخلوق رسول حق وميزان عدالة.. هذه صورة من صور الرؤية الموضوعية التي ابتكرها الكاتب السعداوي في روايته المتقنه مُستغلا التناقض الصارخ ما بين بشاعة الجسد المكوّن من بقايا الجثث وقوة الهدف الذي يصبو له الشسمه.. وجهٌ مليءٌ بالتوق للعدالة وتطبيق القانون والاقتصاص ممن نشروا الرعب وأرسلوا الانتحاريين واستخدمو الخلافات الطائفية والعرقية والدينية من أجل إثارة القتل والرعب والدمار.. هذا الجانب المشرق من (الشسمه) يمثل الوجه الآخر لفرانكشتاين أحمد السعداوي.
اما الوجه الاجرامي للشسمه فتحدده السلطات الامنية حين تصف هذا المخلوق بالمجرم ص 346 (في الحادي والعشرين من شباط عام 2006 أعلنت القيادات الأمنية العليا في بغداد عن إلقاء القبض أخيرا على المجرم الخطير الذي تسميه بعض التقارير ب المجرم أكس ويسميه الأهالي الشسمه وله أسماء أخرى عديدة. هذا المجرم كان مسؤولا عن عمليات قتل مروعة جرت على مدى العام الماضي داخل بغداد أثارت الرعب والهلع في نفوس الناس الامر الذي هدد العملية السياسية كلها بالانهيار، عرضوا صورة كبيرة له من خلال عارضة الشرائح على شاشة كبيرة ونطقوا اسمه انه المجرم هادي حساني عيدروس من سكنة حي البتاويين في بغداد والملقب بـ (هادي العتاك).....) في هذه النهاية التراجيدية للبطل يظهر هادي العتاك مكان(الشسمه).. هل هناك خلط مقصود من قبل السلطات الأمنية في الأمر؟ هل هي محاولة سريعة لإغلاق ملف الشخصية الوحيدة التي تنشد العدل وتقتص من المجرمين والقتلة؟ أم هي محاولة من الكاتب لمعاقبة هادي العتاك المعتدي على حرمة الجثث وصانع الوحش الغريب؟ كل هذه الأسئلة المثارة تحتمل العديد من الاجابات ولكنّها في مجملها تؤكد أنّ هذا العمل الروائي الحائز على جائزة الرواية العربية لعام 2014 عمل جاد وجدير بالاشادة وقادر على حشد العديد من الأسئلة المثيرة للاهتمام.