عفيفة إسكندر.. طرائف وذكريات

عفيفة إسكندر.. طرائف وذكريات

قحطان جاسم جواد
حين اخترت الفنانة القديرة (عفيفة إسكندر) لتكن موضوعة كتابي الاول (عفيفة.. حياتها واسرارها الفنية) لم اكن على خطأ بل كان اختياراً دقيقاً جداً لما لها من اهمية وانجازات كبيرة في حفل الغناء العراقي بالرغم من إهمال النظام السابق لها وتعمده في تجاهلها مما حدا بها الى الاعتكاف في منزلها واعتزال الفن ومقاطعة إلاعلام!.

واتذكر يوم بدأت في كتابة ملف عنها في مجلة ألف باء استغرق نشره بحدود ثلاثة أشهر او 11 عدداً اسبوعياً من المجلة يومها قال لي احد رجال الامن ممن يشرف على الاعلام لماذا اخترت هذه الفنانة؟ ألا تعرف بأن الحكومة لاتودها؟ فضحكت وقلت له إنها فنانة عظيمة ولديها من الفن مالم تجده لدى غيرها واختياري كان فنياً بحتاً وليس له علاقة بالسياسة وقد عرفت في ما بعد ان كلامه كان تهديداً او محاولة لوقف نشر الملف من قبل النظام السابق!!

عفيفة اسكندر صوت مغرد وجميل.. وهي قلب الجمال النابض.. أودعت يد القدر فيها اوصافاً بدنية وخلالاً نفسيه.. فهي لاتستطيع ان تخفي محاسنها بل تبدت وتجلت في أكمل جمال في نظر عشاق الجمال.. جمال ساحر من صنع الخلاق لامصنع الحلاق.. عفيفة مطربة كبيرة قدمت للاسماع وللجماهير التي احبتها وللغناء العراقي اروع الاغاني واجمل القصائد.. وهي ناحية تميزها عن بقية المطربات.. اذ انها قدمت اكثر من خمسين قصيدة مغناة.. والقصيدة من اصعب انواع الغناء.
والذي عاصر فترة تألقها وعاش سماع حلاوة صوتها عبر مسيرتها الطويلة يعرف الكثير عن فنها وسيرتها ودورها الفني في حياة العراقيين، وعفيفة اسكندر لون فريد في الغناء لايضاهيه او يقترب منه اي لون آخر من ألوان الغناء العربي، وهو ايضاً لون محير فلا تدري هل هو مونولوج او غناء خفيف او غناء عاطفي.. او هو كل ذلك معاً!
اما صوتها واداؤها فيستقلان بمواصفات مميزة وخصائص متفردة ويبتعدان ابتعاداً غير مألوف عن صوت واداء اية مغنية في الوسط الغنائي العربي.

من أين استقت شخصيتها الغنائية؟
أما من اين استقطت المطربة عفيفة اسكندر شخصيتها الغنائية المستقلة، فإنه سؤال صعب لايمكن الرد عليه بسهولة الا اذا عدنا الى الموهبة لنعزو اليها قدرتهاعلى تكوين هذه الشخصية الصوتية الفريدة، ولان عفيفة اسكندر غنت الشعر فان الكلمة عندها تخرج صافية بلفظها وفصاحتها وموسيقيتها وهي في كل ماغنت شعراً او زجلاً اقرب الى الاكتمال اللفظي والاحساس بالكلمة وحسن الاختيار الذي تبدو فيه ملكتها على اشدها في رهافة الحس ورقة الشعور، وهي لم تكن تحسن اختيار الشعر او الزجل حسب بل كانت فطنتها ودرايتها وتذوقها الموسيقي تمتد الى اللحن كذلك.
والمطربة (عفيفة اسكندر) تختار ألحان اغانيها بدقة شديدة وقد رفضت كثيراً من الالحان حتى من اولئك الذين كانوا يقفون في الصدارة (من ملحني القطر) ولم تقبل لحناً قط من اي ملحن مهما علا قدره إلا اذا كان منسجماً مع صوتها ولكأنه قد قيس عليه.. وعلى اثر موقفها هذا من الالحان.. قال عنها العديد من الملحنين والمؤلفين ان اصعب مغنية هي عفيفة اسكندر.. وهي صعبة فعلاً لانها كانت تدقق في الاختيار ولاتغني اي لحن او اي كلام.

البداية من أربيل
ظهرت لاول مرة على المسرح في ملهى صغير بمدينة اربيل في اواسط الثلاثينات.. وكانوا يسمونها في تلك الفترة بـ(جابوكلي) وتعني المسدس السريع الطلقات لانها تغني بسرعة بسبب صغر سنها وعدم نضوج صوتها الا ان الأمر تغير لاحقاً بعد ان اصبحت لديها الخبرة وكذلك التزامها من قبل مجموعة من خيرة رواد التلحين في العراق حيث قدمت العديد من الاغنيات الجميلة التي تشكل الان ثروة كبيرة لتراثنا الغنائي، وابرز من تعاملت معهم من الملحنين الفنان (سمير بغدادي) او وديع خوندة ورضا علي وناظم نعيم وكريم بدر واحمد الخليل وعباس جميل وياسين الراوي وخزعل مهدي وسواهم.

فرقتها الموسيقية
وحتى فرقتها الموسيقية التي تصاحبها في الغناء تختارها بدقة وعناية كي تتناسب مع صوتها وطريقتها في الاداء وحفلاتها كانت اسبوعية وتتضمن في كل حفلة (وصلتين) بحدود ساعة لكل وصلة غنائية وفي بداياتها الاولى كانت فرقتها تتكون من عناصر فنية ثم تركوها وسافروا فبدأت بالتعاون مع مجموعة من الموسيقيين ابرزهم (سالم حسين) و(خضير الشبلي) و(جمال سري) على آلة القانون و(كريم بدر) و(كريكور برصوميان) و(جوزيف حنا) و(جميل بشير) على الكمان و(خضر إلياس) على الناي وعلى العود كان الفنانان (منير بشير) و(روحي الخماش) كما كان الفنان (حسين عبدالله) يشارك في حفلاتها كضابط إيقاع.

ما لايعرفه الناس عن عفيفة إسكندر
وعن الحوادث والمواقف التي لايعرفها الكثير من الناس عن المطربة عفيفة اسكندر نقول ان لها ذكرى مع موسيقار الاجيال (محمد عبدالوهاب) لا اظن انها ستنساها ابداً فقد مثلت معه في فيلم (يوم سعيد) اخراج (محمد كريم) ولحن لها اغنية غنتها في الفيلم عام 1940 لكن عند عرض الفيلم لم تقدم الاغنية لان المخرج اضطر الى حذفها مع مشاهد اخرى بعد اكتشافه ان الفيلم قد تجاوز الساعتين وهو وقت طويل ويمله مشاهد والسينما.. ومن الامور الاخرى التي اتذكرها هو لقاؤها مع الموسيقار (فريد الاطرش) والاتفاق بينهما للتمثيل والغناء معه في احد الافلام السينمائية.. وكادت المحاولة تنجح لولا مغادرتها (أي عفيفة) للقاهرة على عجل بسبب التزامها بعقد مع احد الملاهي البغدادية.
اما الفيلم المصري الوحيد الذي ظهرت فيه فهو فيلم (القاهرة.. بغداد) وهو انتاج مشترك (عراقي مصري) وقد كانت عفيفة طيبة القلب وتحمل نفساً زكية وتقدم المساعدة لكل من يطلبها.. لذلك تعاطفت مع العديد من الاسر التي جار عليها الزمن.. حيث قامت بتخصيص مرتبات شهرية منتظمة لهذه العوائل لتمكنها من العيش بكرامة.

قالوا عن عفيفة اسكندر
(استطاعت عفيفة بفضل نباهتها ان تميز بين الغث والسمين، وكانت تختار الذي يروق لها من الشعر الشعبي، ولما شعرت ان هذا الشعر لم يعد يفي بمرامها ركنت الى الشعر الفصيح فأتخذت شعر البهاء زهير رائداً لها وراحت تغني له فكان نصيبها الفوز والنجاح. ومن طبيعتها الفنية انها خلقت مغنية، وانها كالشمعة تحترق لتضيء للناس وآنية تمتلئ ليغترف اصدقاؤها من خيرها وزهرة تتفتح لينتعش من حولها بأريجها ومن طبيعتها ايضاً انها خلقت لتفني حياتها لاجل حياة غيرها وتشقى لتوفر السعادة لاحبابها عبدالكريم العلاف من كتاب –قيان بغداد-).
يقولون ان في حياة كل رجل مهما كانت منزلته وعقليته فراغاً لاتملؤه الا امرأة نمت ونشأت في خياله واحبها عقله الباطن، وقد تمر في حياته الاعتيادية عشرات من النساء من دون ان يملأ ذلك الفراغ، فاذا جاءت المرأة المفضلة التي اختارها العقل الباطن امتلأ الفراغ فجأة فشعر الرجل بطمأنينة من يعثر على الماء في الصحراء.
ولقد ظل هذا الفراغ طويلاً في حياتي على ما ازدحم فيها من ألوان واليأس والقرب والبعد والاتصال والانفصال.
وفي القلب كما يقولون ايضاً سبعة اوتار ولكنها لاتهتز دفعة واحدة الا عندما يجد القلب تلك الانامل الرقيقة التي تضم هذه الاوتار للحظات او لساعات او لايام.
وقد مست (عفيفة) هذه الاوتار دفعة واحدة ذات مرة فرن في القلب ذلك الصدى المتناسق، الحبيب الى النفس ورف الطائر الحبيس منذ سنين طويلة حول الفراغ الكبير فاذا بي امام امرأة من نوع اخر لم اكن اعرفه من قبل.. امرأة جديدة بالنسبة لمن عرفت وقديمة بالنسبة الى الهوى الذي كان يعتمل في صدري نحو المرأة المجهولة او نحو من يملأ ذلك الفراغ الكبير الذي لايملؤه سوى المرأة التي عشقها العقل الباطن وتصورها على هواه.
ويوم جئت من كركوك الى بغداد باجازة قصيرة لم يكن في ذهني شيء عن عفيفة فلم تكن غير امرأة أوغير فتاة تمشي على نغمات القدر الذي ليس لها وليس لنا شأن في التحكم باهوائه.. ولم اكن انا ايضاً غير شاب متحمس للحب وللحياة بكل مافيها من مباهج وافراح وغصص والام وضاقت بي بغداد بيومين اثنين فكدت اعود ادراجي الى كركوك حيث اغرق بين الكتب ورياضة الصعود الى التلال، ولكن القدر امسك بي فجأة ليملأ الفراغ الكبير الذي لم تكن قد ملأته امرأة من قبل وقادت خطاي بشيء من التعسف المبهم نحو الملهى الذي كانت تعمل عفيفة فيه فالفيت نفسي بعد حين امام حالة نفسية غريبة، فقد انسلخت من عمري اعوام من التجربة في ساعتين لا اكثر.
كانت عفيفة يومئذ هادئة وناعمة وخائفة.. كانت اشبه بالارنب البري النظيف جيء به الى قفص غير مألوف، كانت تحاول ان تبتسم وان تكون طبيعية في حياتها الجديدة ولم يكن هيناً عليها فقد كانت في اخر ادوار المراهقة سهلة للكثير من المطامع والمخاوف معاً.
وكان لها يوم صعدت لتغني صوت عذب صاف يقطعه الخوف ويلجلجه التهيب.. ولا ادري كم كان قد مضى على اول ارتقائها خشبة المسرح الغنائي ولا التاريخ الذي مر على دخولها ذلك الوسط الجديد بالنسبة لحياتها الماضية تلك الحياة التي تمتلئ دائماً بكريات الطفولة وأماني المستقبل الذي كثيراً ما يملأ النفس بالخيبة حين يطيش حلم الزمان قلت لصديق كان معي يومئذ: سيكون لهذه الفتاة الضئيلة ذات العينين النرجسيتين شأن في حياة بعض الناس.
قال: وفي حياتك انت؟ قلت وانا اكتم ألمي: لا أدري.. على انها ستدخل في اكثر من حياة غالية وتستحوذ على اكثر من قلب كبير.

اول مطربة تغني القصيدة
والمطربة عفيفة تعتبر نتيجة لكثرة مطالعاتها للشعر، اول مطربة عراقية غنت الشعر وقدمت مايقارب (60) قصيدة ولم تعرف مطربة عراقية اخرى غنت هذا العدد الكبير من القصائد.. لاسيما وان غناء القصيدة في الغناء العراقي يكاد يكون محدوداً جداً.. وقد غنت لاساطين الشعراء مثل (سناء الملك) و(البهاء زهير) وبشارة الخوري والشيخ علي الشرقي وطبقة الشعراء المحدثين.
وحسب معلوماتي فإن اول اغنية سجلتها للإذاعة عام 1937 هي (برهم يابرهوم يابو الجديلة عذبت حالي وايدك طويلة) ثم اعقبتها باغنيتها الثانية (زنوبة) بعدها اتجهت في الغناء الى قطبي التلحين العراقي (صالح الكويتي وداود الكويتي) واشتهرت بسرعة بسبب رصانة صوتها وعذوبته ووقفت بسرعة بمصاف اشهر مطربات ذلك العصر كزكية جورج وسليمة مراد وسلطانة يوسف وصديقة الملاية وزهور حسين.
وقد سافرت الفنانة عفيفة اسكندر الى خارج العراق كثيراً واحيت العشرات من الحفلات الغنائية في امريكا واوروبا ومصر ولبنان وسوريا والاردن.. ولكثرة حفلاتها وحلاوة صوتها وعذوبته فقد لقبتها الصحافة العربية (كالكواكب والاثنين) والمجلات اللبنانية (بمطربة العراق الاولى).

تقييم صوت عفيفة موسيقياً
عفيفة تستثير فضول الذاكرة الفنية لاصول الغناء دون ان تزودها بأي تفسير نفسي ومعرفي.. ففي هذا المحيط الفني يجول المغني وتتفحص الاذواق لذلك بقيت طريقة (عفيفة) في الغناء تحمل نزوعاً نحو التعلق الشديد او الرفض الشديد.. اذ انتقلت حنجرتها الفنية بين الغناء البدوي والغناء الحضري باقتدار وتمكن عجيبين.. وبكثير من دواعي الانشاد الحر غير المقيد..
وعفيفة تستحضر قواها الصوتية في ابراز الاسلوبية التي طبعت غناءها.. فهي تمتلك حضوراً مع تنوعات محدودة.. وتقيد صوتها بإعداد صارم بل تغني بلهجة عراقية مصحوبة باحتياطات حجازية وخليجية تارة اخرى مع اشهار التأثيرات البارزة في الغناء المصري..
وسر صوتها ينبىء عن دخول انتصار في مجال الغناء.. وفنها الادائي توفر على خاصيتين اساسيتين هما العبور الى الاسماع والاستيطان في الذاكرة.. وهذا بحد ذاته يعكس تألقاً للغناء الريفي.. وهو تألق يأتي على اية حال من كونه ينحدر من نوع بيئوي عراقي حميمي.

عن كتاب (عفيفة اسكندر)