مطالعة في حياة وأعمال إريك فروم.. الشجاعة.. لتكون إنساناً

مطالعة في حياة وأعمال إريك فروم.. الشجاعة.. لتكون إنساناً

راينر فانك
[1]

كثيراً ما يُشار إلى إريك فروم كأحد أكثر المحللين النفسيين تأثيراً وشعبية في أميركا. فمن بين كل علماء النفس الذين حاولوا أن يَصُوغوا نظاماً أكثر ملاءمة من نظام فرويد للتعامل مع حياتنا المعاصرة، لا يوجد من كان أكثر منه إنتاجية أو أوسع تأثيراً حتى لقد كان على جون هومر تشار ـ وهو أحد أعتى نقاد فروم ـ أن يعترف أن كتابات فروم تبرز اسمه في أي نقاش جاد حول المشاكل الإجتماعية الحديثة.
هنا مقالة تحليلية لحياة فروم والتحولات الفكرية التي عاشها على امتداد أكثر من نصف قرن.

«المحرر»

إن تزايد عدد الأطروحات الجامعية التي تدور حول فروم لهي شهادة على النقاش العلمي المستمر حول أفكاره واكتشافاته. إذ ينحدر مؤلفو هذه الأطروحات من خلفيات علمية مختلفة، وكلهم مهتمون بتحديد أهمية آراء فروم في حقول تخصصهم، في حين ان هذا المجال الواسع من الإهتمام يعكس سعة الآفاق التي تعاملت معها كتابات وآراء فروم.
قبل أن نلخص نتاج فروم الأدبي علينا أن نرسم صورة مقتضبة عن حياته وسوابقه الفكرية. ولد إريك فروم في فرانكفورت آم ماين في 23 آذار 1900 حيث كان الولد الوحيد لوالدين من اليهود الأرثوذوكس. وصف فروم والديه بأنهما يعانيان من حالة شديدة من العصاب كما أشار إلى نفسه بأنه ربما كان ولداً عصابيّاً لا يُطاق بدوره. كان للدين اليهودي الذي يمارسه والدا فروم ـ حيث كان أبوه ينحدر من سلالة قديمة من الحاخامات ـ والذي مارسه فروم نفسه حتى السادسة والعشرين من عمره، أثرعميق عليه. درس فروم العهد القديم بشكل مكثف حيث أعجب بشكل خاص بالأنبياء إشعيا وعاموس يشوع لأنهم وعدوا بالسلام الشامل للعالم ثم درس في شبابه التلمود على أيد الحاخام جاي هوروفيتز وبعد ذلك في أيام دراسته الجامعية تلقى المزيد من التعليم على أيدي سلمان رابينكوف في هيدلبرغ ونحميا نوبل ولودفيغ كراوس في فرانكفورت وكان تأثير هؤلاء المعلمين عليه عظيماً: فقد كان لرابينكوف توجه إشتراكي أما نوبل فكان توجهه صوفيّاً وروحانيّاً وكانت هذه التوجهات كلها حاضرة كمواضيع لكتابات فروم ومجالات اهتمامه.
كانت حادثة انتحار صديقة للعائلة تبلغ العشرين من عمرها ـ والتي كان سبب انتحارها رغبتها في أن تدفن بجانب أبيها المتوفى حديثاً والذي كانت تكن له حبّاً مفرطاًـ هي التي ذكر فروم أنها تجربة طفولته التي دفعته إلى الاهتمام بسيغموند فرويد والتحليل النفسي. كذلك ربما توجد علاقة بين هذه الحادثة التي حصلت حين كان فروم في الثانية عشرة من عمره وعملية إعادة التفسير التي أجراها لعقدة أوديب، وكذلك لشكِّه العميق في جميع العلاقات غير العقلانية والتكافلية القائمة على الاتكالية، وكذلك أطروحته القائلة بوجود مشروعين ممكنين للحياة: المشروع البيوفيلي (biophilous) أو المنتج المحب للحياة، والمشروع النيكروفيلي (necrophilous) أو غير المنتج والكاره للحياة.
لكن تعاطف فروم مع الأنبياء ورؤاهم الخلاصية حول التعايش المتناغم بين جميع الأمم اهتز حتى النخاع جراء الحرب العالمية الأولى، إذ جعلته فظائع هذه الحرب يفقد ثقته بشكل متزايد بكل المبادئ الرسمية والتنبؤات المتغطرسة حول الانتصارات القومية: «حين انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1918 كنت شاباً شديد الاضطراب، إذ استحوذت عليّ تساؤلات حول كيف كان من الممكن للحرب أن تحصل، وكانت امنيتي أن أفهم لاعقلانية السلوكيات الإنسانية الجماعية مع رغبة عارمة في أن يسود السلام ويتحقق التفاهم العالمي.
كذلك فقد نما في داخلي شك عميق بكل الأيديولوجيات والإعلانات الرسمية، وامتلأ ذهني بقناعة أن «من بين الجميع على واحد أن يشكك» [2].
عمقت قراءة فروم لأعمال كارل ماركس من اهتماماته السياسية، فقد رأى فيه المفتاح لفهم التاريخ والتجلي العلماني للنزعة الإنسانية الراديكالية التي عبرت عنها رؤى أنبياء العهد القديم الخلاصية.
إذا أخذنا بالحسبان هذه المشاكل التي شغلت ذهن فروم فإن من الطبيعي بالنسبة إليه أن يبدأ حياته العلمية بدراسة علم النفس والفلسفة وعلم الإجتماع. بعد فصلين دراسيين أمضاهما فروم في جامعة فرانكفورت التحق بجامعة هيدلبرغ سنة 1919 لكي يدرس على اساتذة كبار مثل ماكس فيبر وكارل ياسبرز وهينريخ ريكيرت حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة 1922 بعد كتابته لأطروحة عن البنية الإجتماعية ـ النفسية لثلاثة مجتمعات يهودية في الدياسبورا: اليهود القراؤون، والحاسيديم، واليهود الإصلاحيون. بعد المزيد من الدراسة للطب النفسي وعلم النفس في ميونيخ تزوج فروم من فريدا رايخمان سنة 1926 لكن هذا الزواج لم يستمر طويلاً. من سنة 1928 إلى سنة 1929 تلقى فروم تدريباً في التحليل النفسي من الدكتور لاندوير والدكتور فيتمبرغ في ميونيخ، وفي سنة 1929 أصبح تلميذاً لكل من هانز ساخس وثيودور رايك في معهد التحليل النفسي في برلين. في سنة 1930 أوجد فروم مع آخرين معهد جنوب ألمانيا للتحليل النفسي في فرانكفورت آم ماين وفي السنة نفسها أصبح عضواً في معهد الدراسات الإجتماعية في جامعة فرانكفورت حيث درّس التحليل النفسي. والمعروف ان «مدرسة فرانكفورت» في علم النفس انطلقت من هذا المعهد.
معاناة معهد فرانكفورت
لكن دور فروم المهم كعضو في معهد فرانكفورت للأبحاث الإجتماعية أهمل عمداً بعد أن تركه في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وخصوصاً من قبل ماكس هوركهايمر. وسيكون تصحيح هذا الإهمال من أعمال البحث التاريخي الهامة. ولقد تردد هوركهايمر في الإعتراف بعضوية فروم لدرجة أنه حين سأله أوسكار هيرش سنة 1969 عن أعضاء المعهد سنة 1930 كانت إجابته: «كان هناك عدد من الناس: علي أن أبدأ بذكر فريدريك بولوك وفرانز بوركيناو وهينريك غروسمان وكارل أوغست فيتفوغل وليو لوفنثال وكارل كورش وغيرهارد ماير وكيرت ماندلبوم. قام غرونبرغ بتوظيف كل هؤلاء ما عدا لوفنثال وكلهم نشروا كتباً في سلسلة منشورات المعهد. كان هناك أيضاً بعض المحللين النفسيين لكن ارتباطهم لم يكن وثيقاً على الدرجة نفسها. كان كل من كارل لاندوير وهينريخ منغ وإريك فروم وبعض الآخرين من أعضاء هذه المجموعة عقدوا ندوات دراسية حول التحليل النفسي ولكن ليس في الجامعة بل في المعهد».
مع ذلك ليس من الصحيح أن ارتباط فروم «لم يكن وثيقاً للدرجة نفسها» ولم يكن مجرد واحد من مجموعة مؤلفة من كثيرين. في سنة 1930 كان هوركهايمر نفسه قد دعاه كخبير في التحليل النفسي ليصبح واحداً من أربعة أعضاء شكلوا المجموعة الأساسية في المعهد ممن يفترض أن يكونوا زملاء مدى الحياة فيه. قَبِلَ فروم وأمضى السنوات التالية في دراسة تركيبة الشخصية الاستبدادية بين العمال والموظفين الألمان قبل هتلر (والذي نشر تحت اسم «الطبقة العاملة في جمهورية فيمار الألمانية: دراسة نفسية وإجتماعية» [3]).
قد يكون سبب نسيان العمل الأكاديمي الذي قام به فروم في «مدرسة فرانكفورت» عائدا الى المعاملة الغريبة للمنشقين التي اعتمدها أعضاء المعهد الذين كانوا مسؤولين عنه في ذلك الوقت. لكن الرغبة في جعل الناس ينسون فروم وعمله لا بد وأن ترتبط مع النية في التنصل من الأساليب الماركسية واكتشافات التحليل النفسي المتعلقة بدراسة البنية الاستبدادية لشخصية العمال والموظفين الألمان مع بروز الرايخ الثالث (النظام النازي) وهذا ينطبق بشكل خاص على هوركهايمر الذي توجد الكثير من المؤشرات إلى تخليه عن المعتقدات الماركسية وتوجهه (ولعل من الأفضل أن نقول رجوعه) إلى قناعات بورجوازية خلال المرحلة الاولى من إقامته في الولايات المتحدة. سبب هذا التحول هو خشيته من أن يصنف كيساري أو ماركسي في بلاد لا رواج لهذه الأفكار فيها. بحسب فروم كان هذا أيضاً سبب إبدال هوركهايمر لعبارتي «النظرية الماركسية» بـ «النظرية النقدية» و«المجتمع الرأسمالي» بـ "المجتمع المنسلخ".
من الأحداث المهمة الأخرى في حياة فروم الثقافية قبيل سنة 0391 كانت قراءته لكتاب عالم الأنثروبولوجيا يوهان ياكوب باخوفن (5181ـ7881) «حق الأم» (Mother Right). لقد أثرت آراء باخوفن حول الرابط بين البنى الإجتماعية الأمومية أو الأبوية من ناحية والظواهر الإجتماعية والنفسية من ناحية أخرى في آراء فروم لجهة التأثير المتبادل بين البُنى الإجتماعية والنفسية والتي ذهبت أبعد مما ذهب إليه فرويد.
بدءاً من سنة 0391 توجهت أبحاث فروم نحو الجمع بين هذه الآراء والعلوم المختلفة كما قال: «أردت أن أفهم القوانين التي تحكم الفرد الإنساني وكذلك قوانين المجتمع، أعني قوانين البشر في وجودهم الإجتماعي. حاولت أن أرى الحقائق الثابتة في مفاهيم فرويد مقابل تلك الفرضيات التي كانت بحاجة إلى المراجعة. وكذلك حاولت أن أفعل ذات الشيء في نظرية ماركس حتى حاولت أن أصل إلى توفيق مبني على فهم وانتقاد كل من هؤلاء المفكرين» [4].
طوّر فروم، لهذا المشروع، طريقته الإجتماعية ـ النفسية الخاصة التي ـ وبخلاف فيلهلم رايخ وهيربرت ماركيوزـ لم ترتكز على نظريات فرويد الجنسية. حين يقوم الواحد منا بمسح شامل لنتاج فروم العلمي والفكري الهائل سيلاحظ أن كل أعماله المتأخرة كانت شروحات وتعديلات ـ حتى لو كانت كبيرةـ لهذه السوابق الفكرية والروحية والاكتشافات المنهجية.
زمن النازية.. ارتحال وهجرة
أجبر بروز القومية الإشتراكية (النازية) معهد فرانكفورت للأبحاث الإجتماعية على الهجرة إلى جنيف في البداية، وبعد ذلك إلى جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة سنة 1934. بعد مرض طويل أقام فروم خلاله في دافوس، قَبِلَ دعوة من معهد شيكاغو للتحليل النفسي لإعطاء سلسلة من المحاضرات سنة 1934، وحين استقر الأمر بمعهد الدراسات الإجتماعية في مقره الجديد في نيويورك التحق به فروم واستمر في عمله فيه بينما ظل يمارس التحليل النفسي.
تعرف فروم في نيويورك على كل من كلارا ثومبسون وهاري ستاك سوليفان ووليام سيلفربرغ، وخلال الفترة الممتدة بين 1935 و1939 عمل كبروفيسور زائر في جامعة كولومبيا، كما استمر ارتباطه مع معهد الأبحاث الإجتماعية حتى نهاية ثلاثينات القرن العشرين حين قام كل من ماكس هوركهايمر وهيربرت ماركيوز ضد تفسيره للنظرية الفرويدية للدوافع حيث اتهماه بالميل إلى الفرويدية المحدثة أو بكونه فرويدي محدث استرجاعي. لكن فروم استمر في تطوير أفكاره ـ التي وإن كانت تنطوي على بعض سمات القرابة مع أفكار الأكاديميين الذين سموا بالفرويديين المحدثين أمثال كارين هورني وهاري ستاك سوليفان وآبرام كاردينر من حيث تركيزها على «الثقافة» ـ لكن هذا لم يمنعه من إبعاد نفسه عن هؤلاء المفكرين. يقول فروم في هذا الصدد: «رغم أنني أصنف مع هورني وسوليفان كأحد الميالين إلى التحليل النفسي على أساس الثقافة، أو كأحد أعضاء المدرسة الفرويدية المحدثة إلا أن هذا التصنيف لا مبرر له. فبالرغم مما يربطني بهما من صداقة شخصيّة، وعملي معهما ووجود بعض وجهات النظر المشتركة بيننا، وخصوصاً فيما يتعلق بنظرية «اللبيبيدو»، إلا أن النقاط التي تفرق بيننا تزيد على تلك التي تجمعنا. فهورني وسوليفان يفكران في الأنماط الثقافية من حيث وجهة النظر الأنثروبولوجية التقليدية، أما مقاربتي الشخصية لهذا الأمر فتتجه إلى تحليل ديناميكي للقوى الاقتصادية والسياسية والنفسية التي تشكل أساس المجتمع» [5].
فروم "الأميركي"
كان سبب هذا التحفظ وخاصة بالنسبة لكارين هورني هو وجود نزاعات داخلية ضمن حَركَة التحليل النفسي في الولايات المتحدة خلال سنين الحرب العالمية الثانية، فبينما عارض فروم وهورني مع آخرين سنة 1941 معهد التحليل النفسي في نيويورك وساهموا مساهمات كبيرة في إنشاء المعهد الأميركي لتقدم التحليل النفسي، أدت أسباب شخصية إلى انفصال فروم عن هورني سنة 1943 حيث أسس مع كلارا ثومبسون وهاري ستاك سوليفان وآخرين فرع نيويورك من مدرسة واشنطن للطب النفسي التي كانت تدعمها مؤسسة ويليام آلانسون وايت للطب النفسي.
خلال سنين الحرب حاول فروم أن يوضح للجمهور الأميركي النوايا الحقيقية للنظام القومي الإشتراكي. في سنة 5491 قام هو وآخرون بتأسيس معهد ويليام آلانسون وايت للطب والتحليل والعلوم النفسية حيث كان مدير الكلية ومدير لجنة التدريب في المعهد بين سنتي 6491 و0591. قام فروم بالكثير من أعمال التعليم خلال أربعينيات القرن العشرين حيث كان بروفيسوراً في علم النفس في جامعة متشيغن بين 7491 و7491 وبروفيسوراً زائراً في جامعة ييل سنتي 8491ـ9491. وكذلك عضواً في الهيئة التعليمية لكلية بينينغتون من 1491 إلى 9491 وفي سنة 9491 سيكون بروفيسوراً مساعداً للتحليل النفسي في جامعة نيويورك.
تزوج فروم للمرة الثانية سنة 4491 وأصبح مواطناً أميركيّاً. وبناء على نصيحة أسداها له طبيب يعالج زوجته المريضة بأنها قد تستفيد من الطقس الأفضل في المكسيك إنتقل فروم من بينينغتون إلى عاصمة المكسيك ـ مدينة ميكسيكوـ ليعمل كاستاذ في الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، حيث أسس فرع التحليل النفسي في كلية الطب التابعة للجامعة. درَّس فروم في تلك الجامعة حتى سنة 5691 حيث أصبح بروفيسوراً فخريّاً. بالإضافة لمهمات فروم التعليمية في المكسيك ظل يتابع مسؤولياته في معهد ويليام آلانسون وايت كما شغل منصب بروفيسور علم النفس في جامعة ميتشيغن بين 5791 1961 و5791 وكذلك بروفيسوراً مساعداً لعلم النفس في جامعة نيويورك بعد سنة 2691. بالرغم من نشاطات فروم التعليمية المكثفة إلا أنه ظل يمارس التحليل النفسي لأكثر من 45 سنة، مع نشاطه كمشرف ومعلم للتحليل النفسي فضلاً عن مشاركته في العمل الميداني في مجال علم النفس الإجتماعي على مدى فترة اقامته في المكسيك.
اهتم فروم بشغف بالسياسة منذ طفولته، وفي منتصف خمسينيات القرن العشرين انضم إلى الحزب الإشتراكي الأميركي وحاول (دون جدوى كما تبين لاحقاً) أن يقدم له برنامجاً جديداً بالرغم من اعترافه بأنه وبطبيعته غير مؤهل للعمل السياسي إلا أنه قام بالكثير لتنوير الشعب الأميركي حول إمكانيات ونوايا الإتحاد السوفييتي ونواياه، في حينه لاقت جهوده أفضل تعبير عنها في «هل ينتصر الإنسان؟ بحث في الحقائق والأوهام المتعلقة بالسياسة الخارجية» (May Man Prevail? An Inquiry into the Facts and Fictions of Foreign Policy) (1961) والذي كشف فيه فروم أن الخوف من العدوان الروسي لا يعدو كونه وهماً من خلال تحليل البنية الاجتماعية الشيوعية في ذلك الوقت، وحتى في سنة 4791 قام فروم بناء على اقتراح من السيناتور ويليام فولبرايت بكتابة مقال عن سياسة الانفراج الدولي (détente) لتقرأ في استجواب عقدته لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي حول العلاقات الأميركية مع الدول الشيوعية.
درَّس فروم نوعاً من الفلسفة الإنسانية الاشتراكية التي ترفض كلاًّ من الرأسمالية الغربية واشتراكية الإتحاد السوفييتي الشيوعية وتتعاطف مع تفسير مجموعة «البراكسيس» اليوغوسلافية للاشتراكية. كما كان اهتمامه السياسي الأكبر بحركة السلام الدولية حيث كان الدافع الأساسي لهذا الاهتمام وجهة النظر القائلة بأنه وفي إطار الحالة الدولية الراهنة سيقرر ما إذا كانت البشرية ستتبع الطريق العقلاني وتمسك بحبال مصيرها أو ستدمر نفسها في أتون حرب نووية شاملة. كان فروم من مؤسسي حركة سين (SANE) ـ والتي تعني حرفيّاً: عاقل ـ التي كانت أهم حركة سلام أميركية حيث لم تعارض هذه الحركة سباق التسلح النووي فحسب، بل والحرب في فيتنام أيضاً. كان آخر نشاط سياسي هام قام به فروم هو عمله للسيناتور يوجين مكارثي خلال حملته ليصبح مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية التي عقدت في تلك السنة.
فروم أديباً وعالماً
بعد 5691 ركَّز فروم أكثر وأكثر على كتاباته وبدءاً من سنة 8691 بدأ يمضي أشهر الصيف في مناخ منطقة تيسين (سويسرا) الشديد الاعتدال قبل أن ينتقل إليها بشكل نهائي سنة 4791، حيث استقر هو وزوجته أنيس في مدينة مورالتو بعيداً عن الوتيرة المحمومة للحياة العصرية حتى توفي في 81 آذار 0891. لكن الوحدة والتقاعد على بحيرة ماجيوري لم يقلّل من اهتمام فروم بالمشاكل المعاصرة كما يظهر جليّاً من نتاجه الأدبي في السنوات الأخيرة من حياته. حين نستعرض آثار فروم لا يمكننا إلا أن نلاحظ تنوع وسعة مجالات اهتماماته وأبحاثه، فأطروحة الدكتوراه ذات التوجه الإجتماعي التي كتبها في الثانية والعشرين من عمره تبحث في «العلاقة المتبادلة بين البنية الإجتماعية والفكرة (الدينية) الموضوعة في عهدتها» [6] بين يهود الدياسبورا، كما يظهر فروم في مجموعة مقالات أقصر كتبها بين سنتي 1930 و1962 كفرويدي تقليدي محض بينما تظهر مقالة كتبها سنة 1930 تحت عنوان «تطور عقيدة المسيح: دراسة نفسية تحليلية في الوظيفة الإجتماعية ـ النفسية للدين، اهتمامه بعلاقة الدين والفكرة الدينية مع الوقائع الإجتماعية والحضارية، وتمثل أول مثال على أسلوب فروم الخاص في التحليل الاجتماعي ـ النفسي لهذه الظواهر وتختلف عن كل من نظرية البناء الفوقي الماركسية الجلفة كما تختلف عن التحليل الثقافي النفساني المبني على آراء فرويد.
خلال مقالاته التالية شرح فروم طريقة «علم النفس التحليلي الاجتماعي» التي يلعب فيها «الفهم لأهمية نظريات باخوفن وبريفوت حول الأمومية دوراً مهمّاً كما يمثل استقصاء السلطة والعائلة التي تستخدم هذه الطريقة الاجتماعية ـ النفسية نوعاً من الاختبار لها» [7].
بعد سنين عدة لم يكتب خلالها فروم أي شيء عاد لينشر أول كتاب متخصص في علم النفس الإجتماعي: «الهروب من الحرية» (Escape from Freedom) سنة 1491، وبناء على تحليل للعلاقة بين البروتستنتية وبداية تطور الرأسمالية يظهر هذا العمل عجز الإنسان المعاصر عن تقدير «حريته من شيء ما» كـ «حرية لفعل شيء ما»، بدلاً من ذلك وكما يكتب فروم يحاول الإنسان المعاصر أن يهرب من الحرية ليضع نفسه تحت علاقات اتكال إستبدادية، وخلال هذه العملية يتحول إلى إنسان تدميري وانصياعي. كان لآراء هذا الكتاب حول الوضع في ألمانيا النازية تأثير عميق على الجمهور الأميركي مع أن تفسير فروم الاجتماعي لحركة الإصلاح الديني (البروتستنتية) أدى إلى انتقادات حادة من البعض.
تلت هذا العمل سنوات من الجهود المكثفة لتوضيح الروابط بين البُنى الإجتماعية ـ الإقتصادية من ناحية والحاجات الإنسانية كضرورات نفسية في توجيه الاستيعاب والتنشئة الإجتماعيين من ناحية أخرى. طور فروم في جهده هذا دراسة لخصائص الشخصية توسع مجال نظرية الليبيدو الفرويدية والصورة الضيقة التي ترسمها للإنسان بينما تشير في الوقت نفسه إلى الأهمية الأخلاقية لمختلف توجهات الشخصية. وجدت نتائج هذا البحث تعبيرها في ما يمكن أن يعتبر عمل فروم المركزي: الإنسان لنفسه ـ بحث في علم نفس الأخلاق.
أطروحة "المجتمع العاقل"
طوّر كتاب «المجتمع العاقل»The Sane Society) الذي نشر سنه 5591 المواضيع التي رأيناها في «الهروب من الحرية» و«الإنسان لنفسه»، كتب فروم هذا الكتاب من وجهة نظر أخلاقية إنسانية، مشيراً إلى الأسباب الاجتماعية ـ الاقتصادية التي تمنع اليوم من تحقيق ما أسماه بـ «المشروع الإنساني»، فكشف من خلال تحليله للبنى الاجتماعية للرأسمالية والبيروقراطية الحديثة عن ظاهرة الاغتراب الكونية وأنه لا يمكن التغلب عليها إلا إذا تغيرت الظروف الافتصادية والسياسية والثقافية من أساسها باتجاه اشتراكية ديموقراطية وإنسانية.
بالإضافة الى هذه الأعمال الثلاثة مع وفرة الملاحظات والإكتشافات التي احتوت عليها، كتب فروم عدداً من الكتب المتخصصة خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين اتضحت من خلالها آفاق فكره أكثر وأكثر. ففي سنة 0591 نشر كتاباً أقل حجماً بعض الشيء من سابقيه، انه كتاب «التحليل النفسي والدين) الذي ناقش فيه بتفصيل أكبر فهمه للدين الإنساني كدين متأثر بالتحليل النفسي والفلسفة البوذية. أما كتابه «اللغة المنسية المتعلق بالقصص الخرافية والأساطير والأحلام كظاهرة عامة وكاشفة في الوجود الإنساني فقد ظهر في السنة التالية. أما كتاب فروم الأكثر مبيعاً فقد كان «فن المحبة الذي نشر للمرة الأولى سنة 5691 والذي ترجم إلى 28 لغة وبيع منه أكثر من مليون ونصف المليون نسخة باللغة الإنجليزية وحدها مع حلول سنة 0791، من خلال استخدام مفهوم «الحب المنتج» أظهر فروم في كتابه هذا نتائج الأخلاقيات الإنسانية لفهم محبة الإنسان لنفسه ومحبته لجاره، ومحبته للبشرية على العموم.
أظهر فروم احترامه لكل من فرويد وماركس في ثلاثة كتب أخرى، ولكنه حاول في الوقت نفسه أن يبيّن فيها موقفه من هذين المفكِّريْن الأصيليْن في عصر الحداثة، كان لكتابه «مفهوم الانسان عند ماركس أهمية خاصة لأنه لفت انتباه الجمهور الأميركي إلى كتابات ماركس المبكرة.
أما أهمية الدين في الوجود الإنساني الناجح ومستقبل الإنسان فقد أوضحه فروم في عملين: الأول هو مقالة بعنوان «التحليل النفسية وبوذية زن» وقد عكست دراسة فروم لهذه الفلسفة الشرقية. أما العمل الثاني فقد جاء تحت عنوان: «ستكونون مثل الآلهة» وهو «تفسير راديكالي للعهد القديم وتراثه» نادى فيها لدين بدون تصور للألوهية. لقد طوّر وجهة نظر تاريخية ـ فلسفية ترى في رواية العهد القديم لعلاقة الإله بالإنسان أنها عملية يقترب فيها الإنسان بشكل متزايد من نفسه وهكذا تصبح فكرة الإله متطابقة مع «كون الإنسان في حقيقته مع نفسه»، والاعتقاد في الألوهية كما يبينها الوحي مرحلة من مراحل الطريق نحو «دين إنساني» يتطور في نفسه وعبر نفسه.
بعد ذلك ركز فروم على مشكلتين: الأولى هي السؤال الحاسم تاريخيّاً عما إذا كان الإنسان سيرجع إلى كونه سيداً على ما صنعه أم سيهلك في عالم تقني يتحرك بشكل مفرط. فقد عالج هذا السؤال في كتاباته السياسية خصوصاً حول عن التسليح النووي وحركة السلام وفي كتابه «ثورة الأمل: نحو تكنولوجيا مؤنسنة (وهو العمل الذي اعتبر استكمالاً لكتاب «المجتمع العاقل». المشكلة الثانية التي تعامل معها فروم كانت ظاهرة اضمحلال الإنسان كفرد وكنوع. من خلال استخدام بعض أنواع الحياة غير المنتجة التي شرحها من قبل خاصة في كتابه «الإنسان لنفسه» مثَّل كتابه «قلب الإنسان: عبقريته في الخير والشر معالجة منهجية للتناقض بين الغريزة والشخصية. كان موضوع الغريزة التدميرية المتأصلة في الإنسان التي عاملها علم النفس السلوكي على أنها من المسلمات بالإضافة للشك الذي بثته هذه النزعة حول إمكانية الخير في الإنسان (خاصة أن هذا الشك يزعزع مبادئ النزعة الإنسانية من أساسها) هو موضع اهتمام فروم بحيث خصص السنين الخمس التالية للبحث فيه وكانت نتيجة عمله في تلك الحقبة هي ما لخصه في كتابه «تشريح التدميرية الإنسانية
كان آخر عمل كبير نشره فروم هو «أن أتملك أو أن أكون؟» (?To Have or to Be) وهو محاولة في تجميع آرائه في علم النفس الإجتماعي والدين الإنساني والأخلاق. يتعرف فروم على توجهين متناقضين في الوجود الإنساني: التملك والكينونة، ويربط بين آرائه الكثيرة حول نفسية الفرد ونفسية المجتمع مع تقاليد الدين الإنساني وشخصيات تاريخية هامة.
كثيراً ما اُنتقد فروم لكونه «تخمينيّاً» بشكل مفرط، وكذلك لعدم تقديمه القدر الكافي من البيانات العلمية. ينبع جزء من هذا الانتقاد من نزوع فروم في بعض الأحيان إلى عدم الإشارة إلى مراجعه وعدم تبيانه الكافي لما تقوله التيارات الفكرية البارزة عن المشاكل المحددة التي يناقشها، لكن لغته الواضحة وغير المعقدة لا تفتقر العمق الفكري سواء أفي طريقة صياغة المشاكل أم في تقديم الآراء، وهذا ما جعله موضع شك بين بعض الداوئر الأكاديمية. مع ذلك ليس لدينا أي سبب لعدم تصديق فروم حين يقول: «لا يوجد استنتاج نظري واحد عن نفسية الإنسان ـ سواء في كتابي هذا أم في أي من كتاباتي الأخرى ـ لم أبنه على الملاحظات النقدية للسلوك البشري التي بنيتها خلال عملي هذا في التحليل النفسي» [8].
ينطبق الشيء ذاته على بنى الشخصية التي ساعدت طريقته في علم النفس الاجتماعي على صياغتها: إن دراسته «الشخصية الاجتماعية في قرية مكسيكية» والمبنية على عمل ميداني استمر لخمس سنوات مقتعة للغاية للتلاقي الكبير بين اكتشافاته ونظرياته. فإذن لم يكن سبب اتهامه بالتخمينية غير العلمية افتقاده للأبحاث الدقيقة، ولكن كان السبب الحقيقي لهذه الهجمات هو صراع فروم مع الميول الوضعية التي لا تقبل بأي شيء إلا بوجهات نظر يمكن إظهارها بدقة وموضوعية، ومحصورة في فرع علمي واحد ومحدد. لكن فروم كان يعتقد أن العمل العلمي المسؤول لا يمكنه أن يهمل حدود نشاطاته، أو أن يرفض أن يتآلف مع آراء أخرى من فروع علمية مختلفة. كما لا يمكن له أن يظل حيادياً أمام الأهمية الأخلاقية لما اكتشفه، ولذلك يتطلب العلم إطاراً توجيهيّاً لا يمكن استثناؤه آخر المطاف من آراء أي من الفروع العلمية الإنسانية.