اريك فروم يدافع  عن ماركس والماركسية

اريك فروم يدافع عن ماركس والماركسية

غالب حسن الشابندر
تعرّض ماركس والماركسية إلى حملة تشويه واسعة النطاق على يد ا لكثير من الكتّاب والمفكرين الغربيين وغيرهم، وقد تسربّت هذه الحملة إلى العقل العام، ممّا ساهم في (عولمة) الحملة وتخليدها بديهةً سائرة كما تسير الامثال الشعبية العالمية. فماركس تلك الشخصية التي يمكن أن تصلح عينة تجريبية لتحليل الشخصية المضطربة القاسية الباردة بغية إستنتاج قوانين فهم السلوك العصابي والذهاني،

ومن ثم استخلاص ما يمكن استخلاصه من مقتربات علاجية لهذه الامراض التي ما زالت مستعصية إلى حد ما على الحل، فهو (رجل متوحّد، منعزل عن البشر، عدواني، متعجرّف، وسلطوي) ص 101، فيما تزخر حياة الرجل العملاق بكل آيات الحب والتسامح والإخلاص، ولعل حياته الزوجية التي روت بعضا من شذراتها أبنته الرائعة (إليانور)، برغم كل تعاسات الزمن التي أبت أن تكون العائلة مرتع شرورها وعنتها وقسوتها، فقد كتبت (اليانور) شهادتها التاريخية (لقد تغلب مور / لقب ماركس / مرّة ثانية على مرضه. لن أنسى ما حُييت، ذلك الصباح الذي شعر أنه قوي بما يكفي للذهاب إلى غرفة أمي.عندما أصبحا مع بعضهما، كانا كأنما استعادا شبابهما ــ وهي الشابة وهو الشاب العاشق اللذان ما زالا على عتبة الحياة،وليس ذلك الإنسان العجوز المستبد به المرض، وتلك المرأة العجوز المحتضرة، اللذان يقتربان من الفراق الأبدي) ص 102.
حملة التشويه الشخصية هذه لا تنفصل عن حملات التشويه المذهلة التي إنصبت على الماركسية بحد ذاتها، سواء على صعيد كونها طريقة في تفسير التاريخ أو على مستوى نماذج حلولها للمعضلة الانسانية الكبرى، أي مسألة النظام الاجتماعي الذي يمكن أن يحقق للانسان وجوده ويؤصل كيانه. ولا أعتقد نحن في حاجة للكشف عن بعض مصاديق هذه الحملة، فقد تحولت أنشودة دينية يرتلها الأخرون ممّن ناصبوا الرجل وفلسفته العداء المطلق.
ليس سرّا أن هناك محاولات جديدة لاكتشاف ماركس والماركسية، فهذا الرجل الذي يقول عن نفسه (لا شيء إنساني غريب عني) ص 103، إنما أُتهم بالعزلة والانطواء والتعسف في التواصل مع الأشياء كان يصرّح علنا (إنه حتى ذلك التفكير الإجرامي للشرير، هو أكثر عظمة ونبلا من معجزات السماء) ص 103، وبهذا يقدم شهادة لنفسه بأنه الذات المنغمسة إلى حد اللعنة في هموم البشر، فهل نغفل شهادته هذه؟ وهل هي إلا دليل أو إدعاء على التحفز باستمرار من أجل الحياة، ومن أجل الانسان؟ وعليه ليس غريبا أن يحتل ماركس اليوم إهتمام كل مدارس علم الاجتماع خاصة في المدارس الالمانية وعلى رأسها مدرسة (هابر ماس) وغيره من عباقرة الفكر الفلسفي الاجتماعي. وعندما يفتش آخرون عن الجذور الدينية للماركسية إنما يبرهنون على فهم جديد للماركسية يتعدى الفهم السطحي الذي ينأي بنفسه عن الغوص في العلاقات بين المفاهيم وفي أزمنتها السحيقة، القابعة وراء ركامات هائلة من التجارب البشرية. ومن هنا لا استغرب أن يرى بعضهم أن جذور فكرة المجتمع اللاطبقي تعود أصلا إلى الروح المسيحية الشفافة التي أبت أن تكون الما دة هي الحقيقة المطلقة في مجال ممارسة الحياة.
في هذا المجال جاء إنجاز الفيلسوف النفسي الكبير (إريك فروم) بعنوان (مفهوم الإنسان عند ماركس)، والكتاب يقع في 124 صفحة من القطع المتوسط، ترجمه السيد محمّد سيّد رصاص، ويتألف الكتاب من ثمانية فصول مع ملحق، يتناول كل فصل موضوعا قائما بنفسه.
والمؤلف معروف في الأوساط العلمية والفلسفية في العالم، نال شهادة الديكتوراه في الفلسفة من جامعة (هايدلبرغ) في ألمانيا، أوائل الثلاثينيات، هاجر إلى أمريكا خوفا من الاضطهاد النازي بعد صعود هتلر إلى الحكم سنة 1933، وهناك كان محاضرا في جامعتين إمريكيتين شهيرتين هما (بال) و (كولومبيا)، له إسهامات كبيرة في الفكر البشري، مثل (الخوف من الحرية)، و (المجتمع المفتوح) و (الانسان جوهر لا مظهر)، ير كز على الجانب الانساني من الانسان، ويحمل رسالة الحب والحرية ويدافع عنهما دفاعاً مستميتاً.
مصدر الكتاب
يعتمد الكاتب في دفاعه عن ماركس والماركسية، بل عن طرحه الجديد لهما على مصدر مهم ذلك هو (المخطوطات الفلسفية والاقتصادية) لماركس نفسه، ولهذه المخطوطات قصة، ذلك إنها كتبت في باريس بين الفترة الممتدة من نيسان سنة 1844 إلى شهر آب سنة 1844، وتم نشرها لاول مرّة في برلين سنة 1932 واحدثت وما زالت ضجة كبيرة عند قراء ماركس وا لماركسية، لما تحمله من روح وثابة في التصورات والافكار التي سبق أن طرحت في رأس المال والاديلوجية الالمانية وبؤس الفلسفة وغيرها من إنجازات هذا الرجل الكبير. ولما تحمله من جدّة أضطر بعضهم ألى تقسيم حياة ماركس الفكرية إلى مرحلتين، الاولى أسمها مرحلة ماركس الشاب، و الثانية أسمها ماركس الشيخ، حيث تنطوي المرحلة الأولى على التأجج العاطفي والإندفاع، فيما تتسم الثانية بالنضج والتعقل والتأني، ومن أبرز من ثبت هذا التمرحل هو التوسير، فيما يرفض إريك فروم هذا ويعتبره نوعا من التعسف الفكري، فإن ماركس الشيخ كان إمتدادا لماركس الشاب، ولكن سوء الفهم هو الذي قاد التوسير وغيره إلى هذه الفذلكة المرفوضة.
وقد تُرجمت هذه المخطوطات إلى الانكليزية في روسيا، فيما أصبحت محل ا لتداول في بريطانيا منذ عام 1959، وما زالت محل عناية النقاد والقراء من ذوي الاهتمامات الجادة بالفكر والثقافة.
لم تكن هذه المخطوطات هي الوحيدة في إحالات (فروم) بل إعتمد على نصوص مختارة من رأس المال، كذلك من (الايديولجية الالمانية)، ولكن تشكل المخطوطة المصدر الأساسي، حتى استوعبت ما يقارب 90 بالمائة من الإحالات بالنسبة للكراس، مما يعني أ ن المخطوطة كانت المعتمّد الرئيسي في المحاولة. وهو أمر ملفت للنظر بطبيعة الحال لأننا وكما نعلم إن (رأس المال) هو الكتاب الأم بالنسبة لكارل ماركس، وهو مذخوره الجوهري من فكره وفلسفته وطروحاته بل وحتى معاناته، الامر يؤكد أن المخطوطات تحمل الجديد الذي يشجع على تصحيح الكثير من التشوهات التي ألحقت بالرجل وفلسفته، وأنها ليست تكرارا مسخا لما جاء في رأس المال أو الاديولوجية الألمانية أو بؤس الفلسفة وغيرها من الإنجازات التي تركها لنا ماركس في حياته.
قضية الروح
لا أعتقد أني أجانب الحقيقة إذا قلت أن المادية الديالكتيكية تشكل نفيا واضحا لكل قوى خارج الطبيعة تتحمل مسؤولية الخلق والتوجيه، وهي الما دية التي شكلت ضربة موجعة للميتافيزية الروحية وعلى درجة عالية من الوجع، تالية المنطقية الوضعية في هذه النقطة بالذات، ولكن ماركس في المخطوطات يتجاوز موضوعة الالحاد على صعيد المشكلة الواقعية للانسان ويدعو إلى إهماله أو تناسيه (إن الإلحاد بوصفه رفضا لواقعية كائن متجاوز للإنسان والطبيعة، لم يعد ذا معنى، من حيث كون الإلحاد هو رفضا لوجود الله، ويحاول من خلال هذا النفي تأكيد وجود الإنسان) ص 126 نقلا عن المخطوطة ص 140.
إن هذا الموقف جديد بكل صراحة، فكانت من اجتراحات، بل إنجازات الما ركسية الجوهرية هو نفي المتعالي الزمني بلغة فلسفية مادية صرفة، هي الما دية الديالكتيكية، حيث تضيف المخطوطة على لسان هذا الرجل الكبير (الاشتراكية هي وعي ذاتي إنساني إيجابي، وليست وعيا ذاتيا يتم تحقيقه عبر نفي الدين...) ص 126. وهنا لا يسع الباحث سوى القول لو أن الما ركسيين العرب إلتزموا بهذا الإتجاه لحققوا حضورا متزايدا في الفكر العربي والشارع العربي. إن النص دليل على قدرة ماركس تجاوز غير الضروري من أجل الضروري.
على أن الروحانية دخلت الماركسية من باب أ خر، باب اوسع وارحب، روحانية ليست دينية حسب تعبير بعض النقاد، تقوم هذه الروحانية تفهم الانسان ككيان كلي مزدوج الحاجات، وإن نفي الدين لا يعني نفي القيم الروحية عامة كما يخيل للبعض، وبالتالي (إن هذه الصورة الشائعة عن مادية ماركس ــ عدائه للنزعات الروحية وميوله الاجتماعية الاخضاعية والنظم الاتساقية ـ هي صورة زائفة كليا) ص 18. فإن إهتمام ماركس الحقيقي هو إنعتاق الإنسان كفرد وتجاوز محنة الاغتراب، وبذلك تشكل فلسفته مذهبا روحيا بالمعنى غير الديني، وبذلك تعارض أيضا التجربة المادية المعاصرة.
محنة الاغتراب
ما زالت محنة الاغتراب منذ أن أطلق شرارتها الفليلسوف الالماني كنط تحتل مكانتها القصوى من الفكر الفلسفي، وربما علوم النفس والاجتماع بحدود ما، وقد دخلت الماركسية على خط التعامل مع هذه المحنة من منظور مبتكر، تمخض عن مجمل موقفها من الحياة والمجتمع، فكان الإغتراب هو المعادل الموضوعي لإغتراب طبقة مسماة من طبقات المجتمع، تلك هي الطبقة العاملة، (العامل/ البروليتاري) مغترب عن مجتمعه، وعن روحه، وعن الكون كله لأنه منفصل عمّا ينتجه، هناك علاقة سلبية طاردة بين (العامل / البروليتاري) وما يعتصر عضلاته وطاقاته الجسدية والروحية من أجله، أي السلعة، فهذه السلعة اللعينة تختزن جسده، تختزن كل فكره، ولكنها غريبة عليه، وهو غريب عنها، تعرض في الاسواق ولا يستيطع أن يقترب منها، تمزقه من الداخل، وبالتالي، هو غريب مع نفسه، غريب على نفسه، غريب من نفسه، بينه وبين نفسه مسافات مهلكة، موجعة، هذا في المجتمع الرأسمالي بطبيعة الحال الذي لا ينتج استجابة لرغبات وحاجات الإنسان بل ينتج من أجل الانتاج.
يرى إريك فروم أن مفهوم الاغتراب عند ماركس هو عدم ممارسة الإنسان ذاته (كقوة فعّألة في عملية فهمه للعالم، بل كون العالم ما زال مغتربا بالنسبة للإنسان) ص 63، وبهذه الصيغة يتسامى مفهوم الإغتراب عند ماركس على التخوم الطبقية ليدخل في عالم الإنسان الكلي (العامل والرأسمالي) كأنما يريد إريك فروم أ ن يحرر ماركس نفسه من هذه الدائرة الجهنمية، وحجته نقد ماركس للنظام الرأسمالي من منطق كونه نظام يشيء الإنسان ص 69. وبهذا يحاول ماركس أن يستعيد المذهب الكانطي الذي بموجبه يجب أن أن يكون الانسان دائما غاية في ذاته وليس (أبدا وسيلة لغاية) ص 71. وكأنما يعيد ثورة أباء الكنيسة الاوائل الذين انطلقوا من تحطيم الأوثان أولا لانها تحول عبّأدهم متلقين وحسب، سلبيون، ممتقعون، خمص الفكر و الروح، لا شعور لديهم بالاصالة وا لحق في الحياة.
ليس العامل البروليتاري وحده يخاف مما ينتج بل كل إ نسان يترقب خطر ما ينتجه في هذه الحياة، وهل البيروقراطية التي صاغها واجترحها سوى غول يريد التهام كل شي؟
طبيعة الإنسان
ليس سرا أذا قلنا إن مصطلحات مثل (الطبيعة، الغريزة، القانون...) وغيرها من مصطلحات أخرى تحولت إلى لغز شديد الغموض، بل ربما رفضت في ظل التحوّلات الهائلة في الفكر البشري، حتى على صعيد العلوم الط بيعية، فلم تعد مثل هذه المصطلحات عادية التناول، وكثيرون يستاءلون عن معنى طبيعة وإلى أي شي تشير، سواء الطبيعة بالاشارة إلى الكون أو الإنسان.
مصطلح طبيعة الانسان يغري بالثبات، السكون، الفوقية على التحول والتغير، ولكن ماركس يرفض تصورات ا لكثير من علماء النفس والاجتماع الذين يرفضون ما يسمى بطبيعة الإنسان، ويصر إن الإنسان كينونة، أي يمكن التعامل معه معرفة واكتشافا، ويؤكد أن معرفة ما يفيد الإنسان يتوقف على معرفة طبيعة الانسان! ولكن طبيعة الانسان ليس مفارقة زمنية بالمطلق، وهنا متفرق الطرق بين ماركس والفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات التي أكدت على طبيعة الانسان كجوهر ثابت، وبالفعل يتناول الموضوع في ضوء هذه الكلمة، أي في ضوء مصطلح (جوهر). على أن ماركس يفرق بين (الطبيعة البشرية بشكل عام) و (الطبيعة البشرية كما تحوّلت) في كل مرحلة تاريخية.ص 44. وبالتالي لم يسلم المفكر الكبير من القول بالثبات ولو على نحو ما! فهناك ميول ثابتة مثل الجوع والدافع الجنسي، ولكنها تشكل جزءا (مندمجا في الطبيعة البشرية) ص 44. على أ يضا هناك الميول النسبية التي هي (تعود بإصولها إلى بنى إجتماعية محدّدة، وأوضاع إنتاج معينة،وشروط الإنتاج، والتواصل الاجتماعي) ص 44... ولكن لم يذكر إريك فروم لنا أمثلة على ذلك.
يجرد ماركس الجوهر من تعاليه الزمني، ويخضعه لحركة التاريخ، فإن [ الشي يكون بالنسبة لذاته فقط، عندما يموضع كل تحديداته ويجعلها لحظات عملية تحقق ذاته، كما أنه، بالتالي، يكون، في كل شروطه المتغايرة، في حالة (رجوع إلى الذات) وفي هذا التطور، فإن (عمليّة الدخول في ا لذات تصير جوهرا) ] / ص 46 وما بين قوسين متوسطين تعبير لماركس نفسه /
هذه المحاولة تذكرنا بمحاولة الفيلسوف المسلم الملا صدر الشيرازي صاحب كتاب (الاسفار الاربعة) ا لذي كان قد أرسى مبدا الحركة الجوهرية، حيث رفض أن يكون الجوهر ثابتا، بل هناك حركة خا صة به، لا تخرجه عن هويته الاولى ولكن تجدد حضوره في الوجود بفاعلية أكثر وأعمق.
خاتمة
هذه أبرز النقاط في هذا الكتاب القيم الذي ادبجه متخصص بعلوم النفس و الاجتماع وله باع طويل في تثوير الفكر البشري على طريق تحرير الإنسان من وثنية الا ديولوجية والاقتصاد والسوق والمجتمع، إنه إريك فروم. والواقع أن الكاتب لا يسجل إنتصار ا للفكر بشكل مطلق وحيادي، بل يشم القاري أن هنا ك انحيازا لماركس والماركسية، ولكنه الإنحياز الذي يريد تمحيض ماركس و الماركسية لصالح الانسان. ويشن هجوما عنيفا على أعداء الماركسية بشكل عام موعزا سبب التشويه إلى سوء الفهم أو سوء الطوية. ولم ينس أن يتطرق إلى مرار ة التجربة الحزبية في كل من روسيا والصين ودور ذلك في اعطاء صورة مشوهة وفاقعة عن أكبر إنجاز عرفه القرن التاسع عشر، ذلك هو الفلسفة الماركسية، ليس على مستوى التفسير الفلسفي للكون بل على مستوى الانتصار للإنسان.