التملك والكينونة  لـ  إريك فروم

التملك والكينونة لـ إريك فروم

لطفية الدليمي
عشت وجيلي متشبعين بالماركسية المتصلبة ثم- اكتشف ذلك الجيل الحالم عجزها عن تلبية طموحاته الكبرى وأوهامه الرومانسية الثورية عندما قدمت له تصورا يوتوبيا صارما ينكر فرادة الإنسان ويذيب وجوده الشخصي في الجموع، فتحول إلى استكشاف الفكر الوجودي ومؤلفات كولن ويلسون وسارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو والفرويدية

وما بعدها عند كارل يونغ حتى استنفد ذلك الجيل قدرته على التمرد وسكن توقه في مديات الحلم، فكان على الكثيرين منا المجازفة بمغادرة قناعاتهم السابقة لاستعادة البعد الإنساني لوجودهم وهم في مواجهة الانكسارات والمتغيرات العالمية.
في تلك اللحظة الفارقة ظهر كتابان مهمان: “المعذبون في الأرض” لفرانز فانون و”الإنسان ذو البعد الواحد” لهربرت ماركوز، فانبهرنا بهما وأزاحا لبرهة مفهوم الثورية الكلاسيكية واقترحا نمطا مختلفا للتغيير، غير أني لم أجد ما أتوق إليه في طروحات فانون وماركوز المفصلية بل واصلت البحث لدى مفكرين آخرين واعين بمجمل الخسارات التي منينا بها وتواقين لاكتشاف معنى جديد ترتبط به هويتنا الإنسانية، فعثرت على بغيتي عند إريك فروم وكتبه الثمينة التي كانت كشفا مبهجا للعقل والروح: كتابه الهروب من الحرية، ثورة الأمل، أن تملك أو أن تكون، اللغة المنسية، فن الوجود، إلخ وفي تلك البرهة بدأ يتشكل موقفي الواضح من الحياة والوجود والأفكار.
عمل عالم النفس والاجتماع، إريك فروم، على نظرية أصيلة كرس لها عددا من مؤلفاته لتغيير حياتنا باتجاه نمط إنساني يتسم بالسمو والحب والاكتفاء والمشاركة عندما طرح فكرة “أن تملك أو أن تكونTo have or to be”، وركز في بحثه القيم “فن الوجود” على أفضلية أن ننجز وجودا إنسانيا بدلا من تحقيق ثروة تفتقر إلى القيم وتستبعد المشاركة والحب، بمعنى أن يقوم العيش على بعض المبادئ ومن أهمها أسبقيّة الكيف على الكمّ، وأفضلية الوجود -الكينونة على التملك، وأهمية أن تكون الحاجة إلى الاستقلال الذاتي والحاجة إلى الجماعة البشرية مجتمعتين، مع التركيز على شاعريّة الحياة والحب الذي يشكل قيمتنا وحقيقتنا الأسمى.
أعلن إريك فروم حالة الطوارئ في مجتمعنا الإنساني الذي أنهكه الاستهلاك المفرط والاقتناء اللاعقلاني من أجل إثبات الذات، وهي حالة تشبه استخدام عكازات خشبية بدل القدمين، فتضمر عندها الأقدام وتصاب بالعوق وتضمر معها الروح فلا يطور المرء إمكاناته النفسية والعقلية والروحية مستسلما لعكاز التملك، اكتشفت لحظتها ما كنت أبحث عنه في غابة الأفكار والفلسفات وعلي أن أختار بين قطبين متقابلين: التملك أو الكينونة وهما شكلان متباينان من النزوع نحو الذات والعالم.
ولكوني اختبرت أفكارا كانت تتنافذ في ما بينها وتتكامل أو تتصارع في سنوات التشكل الأولى استطعت مع أفكار معلمي، إريك فروم، أن أكيّف حياتي لأسلوب مختلف عما كنت أفكر فيه وأعيشه في فوضى التجاذبات الفكرية ووضعت نفسي على خط تماس يتضمن المجازفة في جوهره: فإما أن أختار الكينونة، وهي ليست فكرة يسيرة ولها اشتراطاتها الصعبة وبها أحسم ماهيتي كشخص ووجود وإما أن اختار التملك، وهو النزعة التي تتصارع فيها الإرادات مع بعضها البعض في تنافسية متواصلة مرهقة، فاخترت أن أكون لا أن أملك، فأنا بما أكونه – كينونة مستمرة أدرك ذاتي بفكري ونتاجي ومواقفي ومراجعاتي اليومية للنفس، أما في نزعة التملك التي تعتنقها غالبية البشر فإن الحياة تتمحور على ما يملكه المرء وما يسعى للاستحواذ عليه ويُعرّف الأشخاص بما يملكون وما يهيمنون عليه من ماديات وبشر وسلطة.