قادته الهندسة الى التاريخ...  العلامة الدكتور احمد سوسة عشق بغداد و غاص في الحضارة العراقية

قادته الهندسة الى التاريخ... العلامة الدكتور احمد سوسة عشق بغداد و غاص في الحضارة العراقية

عبد الحاج حمود الكناني
يعد الدكتور احمد سوسة احد العشاق الكبار لمدينة بغداد وان كان ولد في الحلة سنة (1900)، وقد تمخض ذلك العشق عن وضعه (أطلساً خاصاً ببغداد) عام 1952 ومشاركته في وضع كتاب - بغداد عرض تاريخي مصور عام (1969)، فضلاً عن كتب أطلس العراق الاداري (1952) والعراق في الخرائط القديمة (1959) والدليل الجغرافي العراقي (1960)

ودليل الجمهورية العراقية عام (1960) وكتاب دليل الري في العراق عام 1944 وفيضانات بغداد في التاريخ بثلاثة اجزاء عام (1963) الى جانب كتب اخرى تناولت الحضارة العراقية من بينها: حضارة وادي الرافدين بين الساسانيين والسومريين عام (1980) وتاريخ حضارة وادي الرافدين (1968) والري والحضارة في وادي الرافدين عام 1968).
دفعه هذا الحب لأن يكون احد مؤسسي جمعية المهندسين العراقيين سنة (1938) التي مقرها في بغداد واصبح سكرتيراً عاماً لها لاكثر من عشر سنوات وقد عرف هذا العالم الكبير بأنه من المؤرخين الأوائل الذين تناولوا الدين اليهودي وعلاقته بالتاريخ العربي واصدر في ذلك مجموعة من الكتب من اهمها كتابه الشهير (العرب واليهود في التاريخ)، (حضارة العرب)، وملامح من التاريخ القديم لليهود - يهود العراق..
وقد حاورت ابنته الدكتورة عالية احمد سوسة عن هذا الكتاب في وقت صدوره بطبعته الجديدة قبل عشر سنوات، حيث تتبع الدكتور احمد سوسة بهذا الكتاب الذي صدر للمرة الاولى عن مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد عام (1978)، بذات الجرأة وذات المنطق العلمي، تاريخ الوجود اليهودي في العراق منذ بدايته على عهد الامبراطورية الاشورية في القرن الثامن قبل الميلاد عندما جاء الملك الاشوري (سنحاريب) بالاسرى من اليهود من حملاته على فلسطين الى بلاد اشور في شمالي العراق، مروراً بالامبراطورية البابلية الكلدانية التي جاءت بمزيد من الاسرى الى بابل في عهد الملك نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد.
ثم عهد التطور في ظل الحكم الفارسي، وانتهاء بالعهد الاسلامي الذي جاء في فجره الكثير من يهود الجزيرة العربية الى العراق على عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) وتضمن الكتاب بحثاً مفصلاً في تاريخ المسيحية في المشرق، بما له من صلة بموضوع الكتاب والانقسامات التي صاحبت تطورها وبخاصة كنيسة العراق النسطورية، مؤكداً الدلائل التاريخية وتحول الغالبية العظمى من يهود السبي الاشوري الى المسيحية في القرون الاولى لظهورها. ويتضمن ايضاً بحثاً مسهباً في انتشار اليهودية في جزيرة العرب ليبين بالشواهد التاريخية بأن يهود الجزيرة العربية عرباً تهودوا عن طريق التبشير بخلاف الاعتقاد السائد انهم يهودها جروا من فلسطين...
وقد حوى الكتاب اضافات بخط يده في اوراق منفصلة بين صفحات الكتاب حملت بعض التصحيحات للاخطاء المطبعية في الطبعات السابقة.. وكان للكتاب اهمية في انه يوضح ويصحح مفاهيم خاطئة على مدى التاريخين القديم والحديث، ويراجع الكتاب الافكار من خلال المناهج التاريخية التي تدرس في اسرائيل وأوربا والتي تحاول اشاعة ونشر المفاهيم الخاطئة بشأن تاريخ اليهود وارجاعه الى عهود قديمة لم يكن لليهود فيها اي وجود ولا لليهودية مثل ارجاع تاريخهم وانتسابهم الى النبي ابراهيم الخليل عليه السلام، وادعائهم بأن ارض فلسطين ملك اليهود عبر التاريخ منحها لهم الرب في الكتاب المقدس.
في حين ان ارض فلسطين باعتراف التوراة ذاتها كانت ارض غربة بالنسبة الى آل ابراهيم وآل اسحاق وآل يعقوب، اذ كانوا مغتربين في ارض فلسطين بين الكنعانيين سكانها الاصليين، والتوراة تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على فلسطين... هذا اذا صح ان اليهود يرتبط اصلهم بأبراهيم واسحق ويعقوب كما يدعون وغيرها من الاداعاءات والتخرصات والمغالطات التي ارتكبها بعض الكتاب والمؤرخين الاوربيين مثل ولفنسو وبرنز...
من الجدير بالذكر ان الدكتور احمد سوسة كان يهودياً عربياً من العراق، وانه اعتنق الاسلام لشدة حبه للعرب ولبلده العراق، واصدر كتباً عدة بهذا الخصوص وسمى ابنه الاكبر علي وابنته عالية وحفيده باسم احمد.
ولذلك فقد بذل جهداً كبيراً لاثبات او ابراز حقيقة ان يهود الجزيرة العربية هم من القبائل العربية المتهودة، ولم يأتوا من خارج الجزيرة. منهم عرب اقحاح تهودوا.. ومع ان الاية الكريمة (لا اكراه في الدين)كشفت عن امر آخر غير ان الكثير من اليهود اسلموا ودخلوا الاسلام، فهؤلاء يثبت في كل تفاصيل حياتهم يلتقون وقبائل عربية تهودت ولم تأت من خارج الجزيرة العربية.. وقد وضع كتاباً عن (الصهيونية) يتضمن حقائق جديدة يبغي منها التفريق بين (الصهيونية) واليهودية.
وذكرت لي ابنته المرحومة الدكتورة عالية ان هذا الكتاب: قد اقتبست اغلب الحقائق التي جاءت فيه وصدرت في كتاب حمل اسماً آخر.
ان الحديث عن هذه الشخصية المهمة في تاريخ العراق يطول ويتسع، وقد اقام العام الماضي مجلس الصفار الثقافي جلسة خاصة عنه تحدث فيها عدد من الادباء والباحثين وكانت بمثابة استذكار جميل لحياته وسيرته واثاره الادبية والتاريخية. فهو اتم دراسته الاعدادية في الجامعات الامريكية وحصل على البكالوريوس في الهندسة المدنية من كلية (كلورادو) في الولايات المتحدة سنة (1928).
وحصل على الدكتوراه بشرف من جامعة (جون هوبكنز) سنة (1930) وقد استثمر طاقاته الهندسية في العراق حيث عين بعد عودته الى البلاد مهندساً في دائرة الري العراقية، وبعد عمل ثمانية عشر سنة في هذه الدائرة اصبح معاوناً لرئيس الهيئة الفنية، ثم عين مديراً عاماً للمساحة سنة (1947) ومديراً عاماً في ديوان وزارة الزراعة سنة (1954)..
وعد اقدم مهندس عربي تخرج من الجامعات الغربية. ومثل العراق في اغلب المؤتمرات الهندسية التي عقدت في عدد من الدول العربية.. وتكللت حياته العملية بالعديد من الاوسمة الرفيعة والجوائز تقديراً لانجازاته وافكاره الهندسية وفي مجال الري سواء عن مؤلفاته بهذا الخصوص ام بما انجز من مشاريع اشرف عليها وجوائز اخرى حيث منحته جامعة واشنطن جائزة (ويدل) سنة (1929) والتي تمنح كل سنة لكاتب احسن مقال يحمل افكاراً تخدم قضية السلم بين العالم.
ومنحه ملك المغرب وسام الكفاءة الفكرية عام (1976) عن كتابه (الشريف الادريسي في الجغرافية العربية) ومنح وسام الرافدين من الدرجة الثانية عن خدماته في دوائر الري والمساحة عام (1953).
وحصل كتابه الموسوم (فيضانات بغداد) على جائزة احسن كتاب سنة (1963) وجائزة المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة عام (1975).
وكرم من قبل وزارة الثقافة والاعلام سنة (1977) اعترافاً بخدماته المتميزة للثقافة العربية عبر مؤلفاته واصداراته التي بلغت زهاء الخمسين توزعت بين الكتب والاطالس والابحاث فضلاً عن المقالات التي نشرت في المجلات العلمية والصحف..
واختير عضواً في المجمع العلمي العراقي منذ تأسيسه سنة (1946).. وبقي عضواً عاملاً فيه حتى وفاته رحمه الله في السادس من شباط (1982) وكان من ابرز الاعضاء في نقابة المهندسين منذ عام (1962) واصبح مستشاراً للنقابة (1970-1974).
ومن مؤلفاته الاخرى علاوة على ما ذكر آنفاً: سدة الهندية (1945) بالانكليزية.
وري سامراء في عهد الخلافة العباسية بجزئين سنة (1948) والخرائط القديمة عام (1959).
بقي ان نقول: ان الدكتورة عالية احمد سوسة ورثت عن والدها حب بغداد بحيث طلبت في احدى المرات من الباحث التراثي رفعت مرهون الصفار مصاحبته في جولة بين احياء ومحلات بغداد القديمة للتعرف اكثر عليها، ولكنها استشهدت في حادث تفجير مقر بعثة الامم المتحدة في فندق القناة بسيارة في عام (2003) ولم تكمل مشروعها عن مدينة بغداد، واعادة وطبع مؤلفات والدها التي نفدت من المكتبات بطبعات ثانية وثالثة جديدة.