جعفر الخليلي في  ايامه الاخيرة

جعفر الخليلي في ايامه الاخيرة

وحيد الدين بهاء الدين
شرعت الامراض تتعاورالاستاذ جعفر الخليلي، والصعوبات تلاحقه، والارتياب من المستقبل يساوره..
في اخريات اعوامه اصيب الخليلي بالنقرس: داء الملوك كما يقال بيد انه لم يكن ملكاً في يوم بالمعنى المتعارف عليه، كما لم يكن يطمح ان يكون كذلك في يوم ايضاً.. وانما كان ملكاً على عرش القصة العراقية في يوم شئت أم ابيت..؟!

واخذت يده في نهاية السبعينيات ترتعش على نحو ظاهر، اربكه، ثم زايلته هذه الرعشة، إلا أنها عاودته مرة اخرى لا تريد التزحزح عنه.. ثم وجدته يشكو ضعفاً في عينه اليمنى..
تستمر الحال على هذا الوضع العصيب الرتيب، ثم رحل الى لبنان ليصطاف ومن هناك لا يتردد في مصارحتي ((عيني اليمنى في تقهقر مستمر ينبيك عنه هذا الخط الصاعد النازل والمشرق المغرب المبعثرة كلماته وحروفه وان هنا بعض من اعرف من الاصدقاء ومن اطباء العيون يوصونني بعدم الاجهاد ووجوب الانصراف عن القراءة والكتابة وانت تعلم كم هو شاق لواحد مثلي ان لا يقرأ ولا يكتب وأسال الله العون ولعلي حين اعود الى بغداد تكون هذه العين قد تهيأت للعملية..)).
لولا تدارك ما انبى يتوعده بمداخلة جراحية ان اوانها بمستشفى الراهبات في بواكير صيف 1980 لما كان هناك نجاة من كارثة وامل في شفاء.
واتذكر انني عدته بعد يوم من اجرائه العملية، حاملاً اليه باقة من الازهار، وحينما وجدني اقبل وجنتيه حنانا وحامداً الله على سلامته انشرح صدره وانطلق لسانه.
- انت اول زائر.. لك الشكر!
- هذا واجب.. ((ومواصلاً)):
- ارجو ان تكون في خير..
- ان شاء الله..
قبل ازماعه السفر الى خارج القطر هاتفني غير انه لم يجدني..
غادر بغداد الى عمان لمتابعة فحص عينيه واستتمام علاجهما لدى الدكتور (هلسا) اشهر اطباء العيون في الشرق - كما ذكر هو – بناء على موعد، حيث انبأه ان عمليته نظيفة وناجحة وينبغي له استعمال النظارات الطبية وان عينه الثانية بحاجة الى عملية لم يحن وقتها..
ويبدوا ان مناخ عمان راق الخليلي وافاده من حيث لا يحتسب، فأثر البقاء بها محاطا برعاية محبيه وحسن وفادتهم ولاسيما روكس بن زائد العزيزي، هذا النادرة بين الرجال..
في صيف عام 1982 شخصت الى عمان لشاغل، وكان من امنياتي ان استجلي طلعة الخليلي مكحلاً بها ناظري، مستروحا واياه نسمات اللقاء والولاء.. لكن ذلك لم يتحقق لارتحاله الى لبنان نشدانا للراحة، فعدت آسفاً كاسفا..
اخطر ما اصيب به الخليلي ارتفاع ضغطه الدموي، هذا الذي اسلمه في ما بعد الى جلطة قلبية، ما لبثت ان خمدت سورتها.. وفي صيف عام 1984 سافر الى المانيا الغربية لاجراء فحوصات طبية على قلبه الكسير، وقد جعلت نوباته تروح وتجيء.. وكانت النتائج لا تبشر بالخير والتفاؤل.. ومن هنا اشار اشارة منطوية على التنكيت حتى على نفسه في رسالة بعث بها الى صديقه الوفي ناجي جواد قبل وفاته بثلاثة اشهر، فقال بالحرف الواحد:
(ومنذ اسبوع ذهبت هذه النوبة ولست ادري ايكون ذهابها بدون رجعة ام تعود؟ واذكر ونحن صبيان ان جحشاً نعق لأحد العلماء فشد بالحبال واجتمعنا نحن الاطفال نساعد الحمالين في جرهم له وكنا نهزج منشدين:
وداعة الله يا جحش والينا
هأي هية لو بعد تلفينا
والجحش ذهب ولم يعد طبعاً ولكني لا ادري ايكون مصير هذه النوبة مصير جحش مولانا الشيخ فيذهب لا رجعة، والنوبة إنذار بالموت لا ادري كم مرة انذرتني وانا لم امت وقد تجاوزت الثمانين بشهور).
ثم لبى الخليلي دعوة تلقاها لزيارة ابنته السيدة ابتسام وزوجها في دبي..
هناك باغتته نوبة صاعقة، رقد على اثرها بمستشفى راشد.. وفي خلال ذلك كان يتابع ما يتسنى له من صحف ومجلات، ويطالع وجوه الاطباء والطبيبات، حتى انه كتب على إحدى صفحات مجلة (الصياد) قصيدة بديعة موجهة الى الدكتورة (منى المريخي) الطبيبة المشرفة على رعايته واختتمها قائلاً وهاتفاً بها:
منى يا منى كل هذه الحياة
فما طاب عيش بلا امنيات
اذا داهمتك الشدائد يوماً
فليس علاج لها كالثبت
وان ضاق صدرك بالسيئات
فثمة دنيا من الطيبات!
اخذت من الدنيا احلى الاسامي
فكوني بدنياك احلى البنات
منى.. يا منى كل هذه الحياة
فلا عيش يحلو بلا امنيات
وقضى الخليلي بعد اسبوع نحبه.. شيع ودفن في تربة غريبة عليه..

((وما تدري نفس بأي أرض تموت)) صدق الله العظيم.
عليه واسع الرحمة..