بنية الكتابة ..تقنية المذكرات وتنوّع المتون السردية وتقشير الواقع في رواية (مقتل بائع الكتب)

بنية الكتابة ..تقنية المذكرات وتنوّع المتون السردية وتقشير الواقع في رواية (مقتل بائع الكتب)

2-2
علي لفته سعيد
ممازجة وتوليف
تعتمد بنية الكتابة في الرواية على تعدد الفصول وآلية الاقسام بأرقامها داخل المتن كونها انزياح مكاني تارة وتغيير زماني مثلما تحويل المتن السردي من آلية الى أخرى من تلك الآليات التي تعددت في هذه الرواية.. وأول ما يصادفنا في الرواية انها تمازج ما بين الاستهلال والنهاية ان بعضها جاءت على شكل سيناريو وما يليها من متن سردي..

بمعنى ان الوصف السيناريوي هو عنوان المكان أو زمان يبدأ من منطقة الروي لزيادة كثافة الصراع.. وهو ما يتيح القدرة على أن تنتهج الرواية اسلوب تتبع خيوط خلفية الشخصية المحورية من خلال مشاهد روي من قبل الشخصيات الأخرى الملاصقة والمحايثة والمؤثرة والمتأثرة لتنبع من هذه الخيوط معرفة جمعية لماهية الشخصية التي تظهر انه سجين سياسي كما ذكرنا ومهاجر خوفا من السلطة ليواجه سلطة اخرى في معسكر يساري ولكنه سلطوي ايضا بسبب علاقة حب مع صديقة مشكوك بولاء والدها ثم يعود الى العراق بعد انتهاء الحرب مع ايران.. ان قشور هذه الشخصية تبدأ بالتقشير للوصول الى حتمية ان هذه الشخصية لا تمثل نفسها كونها مغمورة كما يقول هو عن نفسه في مذكراته..كما ان البنية الكتابية تعتمد على الممازجة بين السرد على لسان الراوي وبين السرد بما جاء بالمذكرات وباستطاعة الروائي ان يقطع لسان راويه لحظة يشاء والعودة إليه في الزمن الذي يحتاجه الصراع ليتحول الى فعل درامي.. وهذه الممازجة تعد جزءا من البنية الكتابية لإدارة الحدث والتوصيل بين النقاط واستكمال الخطوط المستقيمة بينهما وهي طريقة تتيح الربط بين مهمة الكتابة عن شخصية محورية أخرى غير شخصية الراوي ومهمة الروي داخل المتن وهو بهذا يحاول الاستمرار بتصاعدية مع الحدث حتى لو كان ذلك كجزء من كسر الرتابة... وهناك دلا لات عديدة من هذا النوع منها ما جاء في الصفحة 19حين يقطع السرد الخاص بالراوي ليخبرنا بما جاء على لسان حيدر حول الشخصية المحورية ليحددها بنقاط على شكل دوائر سود صغير ويسبقها ( من طرائف المرزوق التي حكاها الاستاذ حيدر في ليلتي الأولى بمنزله )
وكذلك ( قبل اسبوعين من الان.. بعد يومين من موافقتي على مشروع الرجل الهرم الغامض ) ص21 وربما أردها طريقة مبتكرة رغم ان المتن السردي كان بالإمكان ان يتحوّل من عملية تنقيط الى عملية سرد ينتقل فيها الراوي من حدث الى حدث آخر .. وقد تتكرر هذه التقنية السردية في مواقع أخرى من الرواية.. وهي جملة تعاد على الشخصية المحورية التي تبدو غير معروفة كما يقول ( تذهب الى مدينة غير آمنة لتؤلف كتابا عن رجل لا يعرفه أحد ، لماذا؟) ص21 وكذلك ( ما الجدوى من هذه اليوميات التي لا أتوقع أن يقرأها أحد.. لماذا يقرؤونها؟ ماذا فيها؟.. من أكون كي أكتب يومياتي.. ما المثير في حياتي كي يغري الآخرين بالاطلاع عليها ) ص75
كما اعتمدت على نوعين من الممازجة في روح المفردة وهذه الخاصية أولها المفردة الهادئة التي تسري مع المتن السردي وتعطي اندفاعا للصراع وبث حيثياته وترقبه وانفعاله وعشقه وتوقع والاخرى السريعة القافزة التي تعيد الخطوات بتكرار مبرر وغير مبرر في بعض الاحيان فتبدو الجملة متلاصقة تحاول اللحاق بركب السرد.. لهذا فهذه الطريقة سمحت بوجود اسهاب في المفردة تارة او داخل المتن السردي تارة أخرة لان الغموض الذي يغلف الشخصية وضياع الذي كلف بالكتابة عنه الا بذكره لمرات بسيطة والتيه عنه في نهاية الرواية.

آيديولوجية الفكرة
ربما تحمل الكثير من الأعمال الادبية ايديولوجيات ومرجعيات خاصة بالشخصية الروائي أو شخصية المؤلف او هي ممازجة بين الاثنين وهذا يعتمد على المستويات التي تتناول الحدث مرة او على الفكرة ذاتها إذا ما ارادت ثيمتها ان تحمل مدلول ايديولوجي او ان بطلها ان صحت التسمية هنا له مثل هذه المرجعيات..وفي رواية مقتل بائع الكتب ثمة وضوح لهذه الايديولوجية فهي اضافة الى إظهار مرجعية الشخصية المحورية فان الشخصية الراوية ماجد البغدادي ايضا يحمل ذات التوجه من خلال التقاط علامات القراءة والافكار التي يبثها فضلا عن الاستعانة كما ذكرنا بأقوال المشاهير من الادباء والفلاسفة فيتم ضمنهم الى المتن كمحمول سردي على انه طرح معلوماتي لكنه في الحقيقة هو محمول قصدي حتى ان هذه الحالة ولأنها قصدية انتابت في بعض مراحلها تكرار الاسماء واعادة التفاصيل او اعادة ذكر المعلومة أو الولوج لها مرة أخرى بطريقة مغايرة تارة او متشابهة تارة أخرى لاستكمال الغوص في الشخصية المحورية عبر الراوي.والتاكيد على هذه الايدلوجية هو ما جاء في الحوار لحظة التحقيق " سيد مرزوق هل ما زلت تؤمن بالماركسية؟"." ولماذا ترى أنني هنا ولست في بلدي " ص172
لغة الروي
هي السلاح الأكبر في معمورة السرد وقد تكون أصعب من لغة الشعر لإن الشعر له لغة الايحاء ولغة التمركز في منطقة العبور نحو الفلسفة أو المخيلة المنتجة لتضادات عديدة او الوصول الى منطقة الدهشة..ولكنها في السرد وفي الرواية عموما تكون قاتلة إن لم تكن حصيفة الوجود ومهيمنة مخيالية ومزوقة شكلية ومختالة شعرية.. في الرواية تبدو اللغة بسيطة في جانب ولغة راقية في جانب آخر وهذه ليست سبة أو منقصة بل ان الروائي أرادها ان تكون كذلك فبدت في بساطتها تريد الإعلان عن مصيرها.. ولذا فان لغة الرواية بدت في بعض تفاصيلها تميل الى المستوى الاخباري التصويري وخاصة في تقنيات الرسائل التي يحصل عليها الراوي/ ماجد.. وهي طريقة يراد بها بث ما يراد بثه فتتخذ اللغة مفتاحا آخر أكثر جمالية وخاصة تلك المتعلقة بالنسوة والذاكرة والحب والعشق فتكون اللغة هادئة مركزة مستطيلة موسعة حاكية لا تحمل صعوبة تدوينها بل هي تحاول ان ترسم صورة متخيلة للقارئ وهو يقود الشخصيات المحورية الأخرى الى أماكن ما جاء بها الراوي ليكون جزءا من العالم والبث العام او الشخصية المحورية.. بمعنى ان المفردة قد تكون سردية متتابعة تصعد بالروي وتنزل..بهدف إحداث مفارقة ما بين السرد واليوميات أو المذكرات وهي بنية صراع ونقطة تحول بين الماضي وماضي الماضي وبين ماضي المرزوق قبل السفر وماضيه بعد السفر فيما تبع ماضي السفر ذاته من خلال المفردة التي تريد أن تتناسب مع الحالات الزمنية والاحالات المكانية والاهمية الذاكراتية التوثيقية.
ان اللغة في الرواية أعطت احقية في اختيار مفرداتها وطرق سردها داخل المتن فهي حين تكون على لسان الراوي تأخذ اللغة اليومية المحدثة والمتحدثة مع الآخرين وهي ان الراوي صحفي مكلف بكتابة كتاب عن شخصية تختلف عن كتابته للتحقيقات الصحفية التي يتميز بها ولكنها أيضا تحمل دلالاتها حين تضخ المستوى القصدي حين تجنح الى تدوينها من خلال المذكرات واليوميات فهي تقع بين إخبارٍ وتحليل وتلك الحوارات الفلسفية التي تملها الحوارات
( - اي نوع يتوافر وله مشترون..
- وكتب الإرهابيون؟.
- الارهابيون لا يحتاجون كتباً..
- كتب ضد أمريكا
- نصف كتب العالم ضد أمريكا ) ص54

بنية المذكرات
الرواية كشف لمستور وإعلاء لمطمورٍ لشخصيةٍ مغمورة غير معروفة.. حاول رجل هرم أو( الشيخ الغامض الذي رفض الكشف عن هويته عبر الموبايل انه كان يعرف المرزوق ) ص6 ان يستعين بصحفي للكتابة عنها لسبب غير واضح المعالم لكنه يرتبط بأيديولوجية انارت بعض مفاصلها المتون السردية (من أكون كي أكتب يومياتي.. ما المثير في حياتي كي يغري الآخرين بالاطلاع عليها) ص75 ولكنه وبحسب الشيخ الهرم واتصالا بتلك الأيديولوجية اراد تحويلها الى عنصر درامي. وهو ايضا اي المرزوق يقول عن نفسه ( أنا اشد الناس عزلة في هذه المدينة.. كأنك تسأل ضفدعة مستوحدة عن أسماك قرش ) ص55
ان بنية المذكرات ليست خريطة توضيح ابعاد الشخصية بل هي ايضا خريطة لواقع سياسي متغير، توضح خلفية يوميات متضاربة قافزة سريعة متأخرة بطيئة بالاعتماد على لغة راوية لتروي ما حصل في مدينة بعقوبة بعد الانهيار وما يتصل فيها من مدن اخرى على خارطة العالم ما قبل الانهيار العراقي بوجود انهيارات عالمية سابقة.. المذكرات رؤية خاصة توضح فكر الشخصية المأزومة والمقصودة سواء التي صدرت منها كيوميات او من الاخرين كرسائل مقابلة او حوارات سابقة من ذاكرة معاشة وهي اي المذكرات لا تنتمي الى زمن محدد آني بل زمن ماضوي عميق او طافح بالقرب بحسب صلة الاخر به فيأتي التحليل والقصد كمستويين مشحونين ليكونا في إناء واحد من أجل إعطاء أبعاد واقع لا يزيد من غلة الصراع ولا يفتح آفاقا أخرى لترضية المسار السردي الخاص للشخصية المحورية بقدر ما يقشر الواقع الذي يحيطه عبر مساراته الحياتية وهي مسارات اجتزأها الروائي على لسان راويه.
أن ما لا يلاحظ على المذكرات ان بعضها بتاريخ محدّد ومدوّن وبعضها منفلت من زمن معلوم وهو ما يعني أما انفلات الزمن من ذاكرة الروائي اثناء التدوين او ان الراوي نسِي ان يتعقب تحديده وهي يوميات تحمل رؤى ورؤية لان المذكرات وخاصة تلك المتعلقة بيومياته التي لو كان قد وجدها بأوراق متفرقة لما قلنا الذي ذكرناه ولكنها جاء مدونة بسجل كبير بمعنى هناك قصدية ان يكون المرزوق يريدها ان تكون يوميات معلومة وغائية وملمّحة ولها هدف لكن هنا مع ضياع بعض زمنها وقفزاتها السريعة التي تمتد لسنوات عديدة فجاءت قافزة وكم كان افضل لو ترك الراوي كل المذكرات بلا تاريخ الا بما هو متعلق بالحادثة لكي يتم تعيين المتعلقات من قبل المتلقي.. ولكن هنا جاءت على انها موزعة على خارطة الروي ولها علامات دالة وإذا ما أخذنا القفز على التاريخ سنجد أن هناك فراغا لأشهر عديدة بلا تدوين وهناك أحداثا مهمة تبين ما حصل وهو ما يعني ان الهدف هو زيادة شدة الصراع وهو ما جعل التاريخ غير مهم في تسلسله وإن جاء على شكل يوميات بل المهم هو تصاعدية الاحداث وان قضمت أحداثا او معلومات.

تقنية اليوميات
تعتمد بنية الكتابة كما أسلفنا على المذكرات واليوميات ولكن في الرواية تعتمد على طريقة اخرى وهي انها تأخذ من التقنية مجالا تدوينيا.. بمعنى انه لم يجعل المدونات متنا سرديا لراوٍ في استمرارية رويه وقراءة المذكرات او اليوميات او الرسائل بل جعلها باستخدام تقني كما جاءت فهو ينتقل من السجل الى الانترنت الى الرسائل التي وجدها من المرزوق وإليه وكذلك الرسائل التي تأتيه عبر البريد الإلكتروني.. وهذه تقنية تحمل بين طياتها المستوى التحليلي للشخصية.. هذه التقنية قد تبدو للوهلة الاولى انها إجبارية تسويقها الحالة الكتابية التي يراد ان يصل إليها المؤلف الراوي كونه صحفيا وليس أديبا مما يعني انه يضع ما يحصل أمامه على انه تحقيق صحفي فيندرج في إدارة الحدث بذات التفكير الصحفي ولكنها ايضا تقنية غائية ارادها ان تبدو تجريبية من حيث البناء الدرامي للنص من جهة وتجريبية من ناحية الشكل العام لرواية..لكن هذه التقنية شابها البعض من الهنات على مستوى البناء والادارة وليس على مستوى الاكتمال مع الفكرة او الحدث وهو أمر يعاب عليه في المتن السردي وهي في الاستطراد الذي جعل بعضها اي هذه التقنيات مترهلا رغم انه بالإمكان مثلا العودة الى السارد وجعله يقرأ ليروي بدلا من جعلها كاملة مذكرات او رسائل بمعنى تحويل التقنية الى لسان الراوي خاصة وإن الراوي نفسه يستخدم طريقة المتكلم مما جعل ادارة الحدث تنقلب في بعض فقراءتها من منطقة ضوء الى منطقة ظل لان التحول من سبيل الى آخر شيء مرهون بقدرة الروائي وهي خاصية يمتلكها المبدع سعد محمد رحيم ولكن كما يبدو هو ان الروائي أراد استخدام هذه التقنية لتكون مخالفة في طريق الروي الأخرى فوقع بالاستطالة فضلا عن الوقوع بدهشة السرد واللغة التي هي اقوى في الرسائل المتبادلة او اليوميات او الرسائل التي بعثها آخرون وخاصة من هو في اليمن والتي تكشف عن وجود لغة عالية لم تكن متوافرة لدى الراوي/ ماجد رغم ان النفس الخاص قد يبدو واحدا بين ما كتبه المرزوق وما كبته الروائي وما جاء في الرسائل.. وهذه التقنية جلعت هناك قطعا بين المقاطع حين يتم الانتقال بين فقراتها داخل المتن السردي الواحد على اعتبار ما نقراه هو رواية وحكاية البحث عن خلفيات شخص مجهول ليتبين الواقع المحيط.. وهذه التقنيات توزعت ايضا الى تقنية الصور التي لم نشاهدها لكن الروي قربها للمتلقي وهي مواصلة تقشير شخصية المرزوق وعلاقته بالفن والمثقفين سواء في الداخل او الخارج وهي كانت افضل من تقنية الرسائل التي كانت فيها ثمة هروب من تماسك المتن السردي كونها تعطي مجالا لسرد أحداث ليس وفق ما يمكن ان تدلّه عليه سردية الراوي وهو ما جعل بعض الاحداث تتكرر دون ان يكون لهذا التكرار مسوغ او قصدية من مثل تكرار حادثة قطار الموت واعتقاله في براغ او وجوده في فرنسا.
أن ما يشير الى تقنية الرسائل والمذكرات خاصة هي ان الروائي سكبها على لسان البؤر الاخرى وليس على لسان راويه الذي كان مجرد مرتب لها او قاطعا لبعض فقراته ليفصح عن وجوده او يقرب مشهدا ما للمتلقي وهذه التقنيات العديدة يضاف اليها تقنية ما اسماه المرزوق بكتاب يحمل عنوان ( كشف حساب ) وقد جاء احد فقرات الفصل الخامس الطويل بهذا الأسم ايضا في حين نكتشف ان المتن السردي الذي جاءت بح حلمه وسعيه لكتابة الكتاب (ص149 ) انها تحمل نفسا روائيا أكثر منه تأليف كتابٍ عن ماضيه وهو امر يتكرّر قوله ( لماذا تراني أخاف الكتابة؟ أعني المباشرة الجادة بكتابة كتابي ( كشف حساب) ص176

طرق الروي
مما تقدم يبدو لنا ان طرق الروي كانت وفق أربعة متون سردية.. أولها الراوي الذي اناب عن الروائي وثانيها المحور الرئيسية وهي شخصية المرزوق في رسائله وثالثها الرسائل المقابلة له من صديقته فيما كان المتن الرابع رسائل الصديق من اليمن الذي ظهر في الفصل الثامن ويستوضح لنا من طرق الروي ان بنية الكتابة اعتمدت على تقشير ما احتوته هذه المتون من نقطة الانطلاق التي وفرها الروائي في حركة الراوي الاخبارية وهو المحرك والمسيطر والقائد والمتخيل والمقرب للواقع الذي يريد إزاحة المخيلة باتجاه الواقع او تحويل المخيلة الى واقع ليكون الحقيقة هي الملهمة والقابضة على روح التلقي.. لذلك فان المستويات السردية تعانقت مع المفردة وانتجت ما يراد من فعل روي ليقترب من مهمة الصراع وهي ايضا اختلفت مع الزمن مثلما هي متفرقة في دلالة المكان.. لكن ما يلاحظ أن هذه المتون تشابهت فيها روح اللغة فتحولت السبل الى حقلٍ واحد كأن كابتها واحد رغم انه يردّد انه لم يغير شيئا فبدت الحكاية استماعيه قرائية صورية تنوعت فيها سبل الروي واختفت فيها متون السرد.