من تاريخ الصحافة العراقية.. محاكمة كامل الجادرجي في عام 1931م

من تاريخ الصحافة العراقية.. محاكمة كامل الجادرجي في عام 1931م

سعاد محمد مرهج التميمي
كان الصراع قائما بين كامل الجادرجي ورئيس مجلس الوزراء آنذاك نوري السعيد لأنّ الاخير يمثل السلطة الحاكمة والأول يمثل المعارضة وفق ما كتب من مقالات صحفية عبر الصحف الحزبية المعارضة انذاك اذ اشار في مقالة له بعنوان "العراق وعصبة الامم – فرصة سانحة للعراق لتعديل المعاهدة" الذي جاء فيه "فإنا وان كنا معارضين في دخول العراق عصبة الامم تحت ظل المعاهدة الجديدة، نعتبر رفع الانتداب عن العراق بالغاءه الغاء رسميا متفقا والمبدأ الذي نسير فيه، لكننا نشك في فوز البلاد بهذه الامنية".

فضلا عن ذلك، فقد نشرت الجريدة المذكورة مقالا آخر عنوانه "ضيق صدر الحكومة ورحابة صدرنا" جاء فيه "صدرت جريدة الأخاء الوطني تبث مبادئ المعارضة الشريفة فعاجلوها في اليوم الأول بالنقد، وفي اليوم الثاني عشر من صدور الجريدة قامت وزارة الداخلية باصدارها انذارها الثاني الينا، ان صحيفة المعارضة فهي قذى في اعينهم وشوكة في ايديهم".
غير ان الحكومة سلكت طريقاً آخر لمناصبة الصحافة الوطنية العداء فأقامت ثلاث دعاوى على المدير المسؤول لهذه الجريدة.

وبالمقابل، ردت جريدة العراق التي كانت تعبر عن رأي السلطة الحاكمة آنذاك، بمقال على ما كتبته جريدة الآخاء الوطني اكدت فيه، وليس في الدنيا بريء يخشى المثول امام المحاكم وليس في العالم حكومة تلجأ إلى القضاء يمكن اتهامها باضطهاد الحرية المقدسة والتضييق على المعارضة ثم لم تعمد الحكومة ازاء دعايات المعارضين إلى اكثر من عقوبات ادارية للصحف.
كان مقال جريدة العراق اشبه بتحريض الحكومة على محاكمة الصحف التي لا تنسجم مع توجهاتها، فقد اقامت حكومة نوري السعيد الدعاوي على كامل الجادرجي. إذ احيل كامل الجادرجي إلى القضاء في 20/أيلول/1931م لأنه المدير المسؤول عن جريدة الاخاء الوطني، التي نشرت مقالا في العدد 19، في 1/أيلول/1931م بعنوان: "بيان محمد صالح القزاز معتمد جمعية اصحاب الصنائع المقفلة"، وقد زعمت الحكومة ان هذه المقالة تدعو إلى إهانة الحكومة معناها اهانة المجتمع وقامت الدعوى على اثر النقد الموجه اليها في جريدة الآخاء الوطني.
بدأت محاكمة كامل الجادرجي بتاريخ 21/ايلول/1931م، في محكمة جزاء بغداد الأولى برئاسة القاضي شهاب الدين افندي الكيلاني، القى المدعي العام التهمة الموجهة إلى كامل الجادرجي وجاء فيه:
نشرت جريدة "الآخاء الوطني" في 1 أيلول على الصفحة الثانية مقالا يتضمن اهانة الحكومة الحاضرة اذ جاء فيه، "وقبل الانتخاب السنوي الثالث قاموا بدعايات وتضليلات مستنكرة نشرتها لهم صحيفة ًصدى العهد , وهي جريدة يومية سياسية ادبية علمية صاحبها ومديرها المسؤول عبد الرزاق الحصان صدرت في بغداد 17/آب/1930م وقد ناصرت سياسة نوري السعيد وكانت خاصة لحزب العهد واستمرت ثلاث سنوات ثم حررها توفيق السمعاني لسان حال الوزارة الحاضرة".
اما الفقرة الثانية: "وعلى اثر لعبتهم هذه بلغت ورفقائي بغلق الحكومة الجمعية استنادا على هذه المشاغبات وبناء على طلب وقعه اناس لم يكونوا يوما من المنتسبين للجمعية – وهذا نوع جديد شهدناه من الحكومة الحاضرة".
وفي الفقرة الثالثة: "فلو كانت الوزارة تريد خير العمال والجمعيات لارسلت ممثلا عنها".
جاء في بيان الادعاء العام أنّ هذه العبارات الثلاثة اسندَّ إلى الحكومة امرين هما:
أولا: ان الحكومة اوعزت إلى اناس لكي يحدثوا هذا الشغب.
ثانيا: ان الحكومة لا تريد خير العمال.
فضلاً عن ان اهانة الحكومة معناها اهانة المجتمع. لان الحكومة هي الممثلة لكيان الامة الاجتماعي.
وفي الجلسة الثانية: القى المحاميان محمد علي أفندي محمود وسلمان أفندي الشيخ داود دفاعهما واستهلاه بقولهما "وقد كنا نفكر قبل ذلك باننا سنجد امامنا قضية لها من الأهمية ما يستلزم النظر والدفاع وقد خاب ظننا... ان هذا التأويل وليد الخيال وهي تخالف صراحة العبارة وتحوي مغالطة لا يمكن ان تخفى لا عن اعين من له اقل معرفة بالقانون بل وباللغة ايضا".
استطردت الجلسات فكانت عبارة عن مساجلات كلامية بين المدعي العام حمدي بك صدر الدين وبين المحاميان حول هذه الفقرات المتنازع عليها. فوجه المدعي العام سؤالا إلى الجادرجي هل يعتقد هو بحسن نية الحكومة.
القى الجادرجي اجابته "واذا كنت اعتقد بذلك فلماذا اعارضها واذا لم اعتقد بحسن نيتها، فأنه يجزم بأني استهدف الحكومة بكل ما انشره" واستطرد قائلا بأنه منتسب إلى حزب معارض يعتقد ان الوزارة الحاضرة لا تصلح للحكم وان الأعمال التي تقوم بها لا تتفق والمصلحة العامة، ولكن في الوقت عينه لا يضمر لها أي سوء ولا يقصد المس بكرامتها، وان الحزب في هذا الجدال لم يخرج عن حدود العرف والقانون.
ويبدو ان الجادرجي كان يبغي اطالة المحاكمة وذلك من اجل اثارة الرأي العام العراقي ضد أعمال الحكومة، فقد ادعى انه – مريض – الامر الذي ادى إلى تأجيل جلسات المحاكمة.
بعد ان استمعت المحكمة إلى طلب المدعي العام، وافادة المتهمين ودفاعهما الذي قدمه وكلاؤهم المحامون، اصدرت المحكمة في 14/تشرين الأول/1931:
حكمها ببراءة كامل الجادرجي، وتعطيل جريدة الآخاء الوطني لمدة شهر واحد وذلك بناء على امر وكيل وزير الداخلية، والغريب ان الوزارة لا تنفك في كل انذار توجهه بأنها تتهم الجريدة المعطلة بانها تنشر مقالات وأخباراً من شأنها اثارة الكراهية على الحكومة والاخلال بسلامة الدولة، ووضحت الجريدة في مقالها "يعطلون جريدة الآخاء الوطني" جاء فيه "قد يكون من السهل على وزارة الداخلية ان تختلق الأسباب التي تبرر تصرفاتها المخالفة للقوانين، خصوصا ما يتعلق منها بسد الصحف وخنق الحريات التي كفلها الدستور".
وما هي الا بضع ايام استأنفت زيارة جريدة الاخاء الوطني إلى سوح القضاء في صفحة الشعر، اذ عقدت محكمة جزاء بغداد محاكمة أُخرى لكامل الجادرجي المدير المسؤول لجريدة الاخاء الوطني، لأنه نشر قصيدة بعنوان "جرس الحرس" (ومن المفيد ان نذكر أنّ القصيدة منشورة في الصفحة الثالثة من هذه الجريدة في صفحة الشعر والبيان وقد خصصت الجريدة هذه الصفحة مرة للشعر وأُخرى للأجتماع وأُخرى للتاريخ وأُخرى للعلوم المختلفة أي كانت صفحة تخصصية).
، وقد رأت الحكومة وقتئذ، ان هذه القصيدة تثير الكراهية والبغضاء ضد الحكومة، والطعن فيها.
وكان مطلع القصيدة:
رن باذن الصبح صوت الجرس
وانتفض الناس ونام الحرس
ثرنا فاين النور، اين القبس؟

في ذمة المجد ضحايا الفرات
بغداد يا قبلة كل الجهات
غطت على حق البلاد الصريح
وفي سبيل الحق تلك الدما
كيف استباحوك وانت الحمى
سياسة الكيد وغمط الحقوق

وقد ادعى المدعي العام، كما رأت الحكومة وقتئذ ان هذه القصيدة طعنا في الحكومة وانها مما يثير الكراهية والبغضاء عليها وقد استشهد ببعض الأبيات ومنها "في ذمة المجد ضحايا الفرات... الخ" في "غطت على حق البلاد".
ذكر الجادرجي ان هذه ابيات لا تحوي غير الحماسة وتنبيه الأمة لتستفيد من الفرصة التي قد تحصل في المستقبل وان المسؤولين في المعارف يريدون ان يستحدثوا ادخال الغرور القومي في منهاج الثقافة في مدارس الحكومة فأنى لهذه الابيات ان تبلغ الوسائل التي سيتخذونها لايجاد الغرور القومي في نفوس الشباب.
تساءل الجادرجي: "فأنا في موقفي هذا اسأل المحكمة المحترمة متى كان الشعر الحماسي محرما في بلد من بلاد الله ولاسيما في هذا البلد، الم ننشر دائما في المجلات والجرائد كل يوم ما هو اشد حماسة بكثير من هذه القصيدة؟"
اورد كامل الجادرجي ابياتا من الشعر تدرس في المدارس العراقية وتنشد اناشيد اكثر صراحة من هذه لا ترى الحكومة بأسا في قراءاتها وانشاء التلاميذ لها مثلا جاء في الصفحة 26 من كتاب "الاناشيد العصرية الحديثة":
فانفضوا سيفكم
وانهضوا كلكم
واطردوا خصمكم
كلكم يا عرب

وأُخرى جاء في الصفحة 11 من "المحفوظات الحديثة":
خسرت صفقتكم من معشر

شروا العار وباعوا الوطنا

واشارت احدى الصحف، ان جريدة الاخاء الوطني تكللت بتاج الظفر ونجت من قفص الاتهام عالية الرأس، موفورة الكرامة.
والمحاكمة الأُخرى عقدت بعد ما نشرت جريدة العراق مقالا بعنوان "يكفرون عن سيئاتهم بالمغالطة والتضليل ولكنهم مفضوحون" جاء فيه "وهذه الفضيلة التي يتحراها الشبيبي الصغير (يقصد بـ محمد باقر الشبيبي: ولد في مدينة النجف 1889م وهو من اسرة آل الشبيبي من الاسر التي لها في تاريخ النجف الاشرف، بل العراق كله سجل حافل في دنيا الادب والكفاح الوطني، درس العلم والادب وبعدها درس مقدمات العلوم وتعنى دراسة اربع مجموعات من العلوم وان كل مجموعة منها تضم عددا من العلوم المختلفة لذلك يدرس الطالب الأسس الثقافية التي يستند اليها بعد تلك المرحلة والمعلومات التي يحصل عليهااليوم بين الناس)، وكان قد حصل عليها حضرته من زوايا الصحون والمساجد بالامس، يجب ان تكون آخر ما يطمح اليه الكاتب فيما اذا كتب وعالج قضايا وطنية تتعلق بسياسة البلاد".
ذكر الجادرجي ان رزوق غنام هو صاحب جريدة العراق ومديرها المسؤول منذ تأسيسها حتى صيروته نائبا في المجلس الحالي.. القانون لا يساعد ان يبقى النائب مديرا مسؤولا لجريدة ما كما أن المدير المسؤول الرسمي الآن لجريدة العراق هو غير رزوق افندي غنام واستطرد قائلا "مع اني انتسب إلى الصحافة اؤكد بأني اجهل المدير المسؤول لجريدة العراق الآن ولم اسمع باسمه".
بعد ان صدرت جريدة العراق بهذه المقالة المملوءة، طعنا بالسيد باقر الشبيبي، طلب بعض كبار النجفيين ان نتوسط لدى الحكومة كحزب لتأديب مدير جريدة العراق اذ ليس من شأن مديرها الطعن في ثقافة المساجد والصحون.
كتبت جريدة الآخاء الوطني في عمود المحليات مقالَ "الزوايا والصحون المقدسة" جاء فيه "فماذا اراد الكاتب بهذه الاهانة العظيمة وماذا تريده جريدة العراق ومن ورائها رجال الوزارة يشدون ازرها ويشجعونها... غير مبالين بعواطف الشعب ولا بمواطن شعوره واحساسه العميق هل تريد ان تمس الشعائر المحترمة بأسوء الاساليب ففي كل يوم لهم موقف غير مشرف".
اتهم الحاكم المدير المسؤول لجريدة الآخاء الوطني كامل الجادرجي في هذه القضية ولكنه حول التهمة من حيث المواد القانونية من قانون العقوبات البغدادي وفق المادة 89 إلى المادة 30 من قانون المطبوعات.
وقدم وكيل المتهم المحامي سلمان الشيخ داود دفاعه ان المادة التي جرمت موكله فيها بعض الثغرات القانونية، مشيرا إلى ان تطبيق المادة (30) من قانون المطبوعات رقم 82 سنة 1931م بتهمة نشره كلمة في العدد 38 الصادر 14/أيلول/1931 من جريدة الآخاء الوطني إذ أنّ التهمة لا تأتلف وواقع الحال إذ أنّ كلمة اهانة هي من الكلمات العامة التي لها مدلول خاص ومنها تقريبا السب والشتم والقذف ولا يجوز للقاضي ان يحكم بجريمة النشر المسندة إلى مادة القذف او الاهانة الا بذكر الجمل والكلمات التي فيها اهانة او سب.. إذ لا جريمة دون نص قانوني فأصبحت المادة المتهم بها موكلي لا تنطبق على ما نشر واصبح من الواجب الغاء التهمة قبل كل شيء من هذه الجهة.
والنقطة الاُخرى التي افاد فيها المحامي هي وضع الجريدة، التي نشرت هذه الكلمة انها جريدة لسان حال المعارضة للحكومة الحاضرة والمهيمنة على مراقبة الأعمال التي تقوم بها والتي تعدّ من واجباتها تنبيه الحكومة إلى امور فيها ضرر للصالح العام.
واستطرد قائلا ان من العيب ان يضيق صدر الحكومة لدى ابسط الانتقادات الموجهة للحكومة لارشادها إلى الصالح العام، وكما تعلمون ليس للمعارضة مرمى سوى الصالح العام وسعادة البلاد وارشاد القائمين بالامر إلى مواطن الخير والفلاح.
وأخيرا حكمت المحكمة على كامل رفعة الجادرجي بالحبس البسيط لمدة شهر واحد، وحيث وجد انه من ذوي الاخلاق الحسنة وله منزلة اجتماعية ولم يسبق له محكومية بالحبس قبلا، تقرر ايقاف تنفيذ هذه العقوبة بحقه، على ان يؤخذ منه تعهد بدون كفيل لمدة خمس سنين، تبدأ من تاريخ صدور الحكم بأن يحضر ويمضي مدة عقوبته متى طلب منه ذلك وان يحافظ على السلام وحسن السيرة والسلوك وفق المادة 30 من قانون المطبوعات المرقم 82 لسنة 1931م والمادة 69 من قانون العقوبات البغدادي.

عن رسالة (كامل الجادرجي والعمل الصحفي)