الانقلاب الدستوري سنة 1908  وصداه بين المثقفين العراقيين

الانقلاب الدستوري سنة 1908 وصداه بين المثقفين العراقيين

أياد يونس عريبي
أسهمت العوامل الخارجية في مطلع القرن العشرين في بلورة وإنضاج الوعي السياسي والثقافي والاجتماعي في العراق عامة وبغداد على نحو خاص، اذ كان لصراع الثورة الدستوري في إيران(1905_1908)والمشروطية في الدولة العثمانية إثر على السكان , عن طريق تقوية لأواصر الترابط بين الطوائف العراقية الإسلامية، وأرهف الوعي الفكري لفئة المثقفين العراقيين.

كان لثورة الاتحاديين عام 1908 صدى واسع في العراق، فقد رحب المثقفون العراقيون بالثورة بحماس وبدأوا يشرحون للناس معنى الدستور ويوضحون الأسباب التي قادة الثورة الى احيائه عن طريق الصحف والمجلات.كانت "الحركة المشروطة" بداية عهد جديد في التفكير العراقي، فقد غيرت الاتجاه العقلي وفتحت الاذهان على مثل جديدة والفاظ حديثة لم تكن مألوفة لأهل القرن التاسع عشر وما نشاؤا عليه من استبداد مطلق، فالحركة المشروطية تتلخص دعوتها في تقييد الحاكم بشروط تحدد سلطانه المطلق.
كما ان استتباب الامن (1905-1911) مدة حكم ناظم باشا في بغداد أسهم في بلورة الوعي لدى الشرائح الاجتماعية، اذ استتب الامن وقمع الفوضى في جميع الارجاء المجاورة لبغداد، حتى صار اسمه يرهب الاشقياء, فضلا عن ذلك فان للثورة الحجازية (1916) تأثير عظيم في توسيع فكرة النهضة في البلدان العربية، واخذ الكثير من متنوري العراق يبذلون الجهد في داخل البلاد لتوسيع نطاق النهضة العربية في البلاد ولتحقيق الآمال والغايات.
أدت الكتب المطبوعة العربية والمعربة، التي بدأت ترد على العراق من الخارجدوراً مقارباً للدور الذي ادته الصحافة في تنبيه اذهان المثقفين العراقيين، وبلورة وعيهم الثقافي، وقد لقيت مؤلفات جمال الدين الافغاني ومحمد عبدة ورشيد رضا وقاسم امين وشبلي شميل وغيرهم رواجاً كبيراً في أسواق الكتب في العراق وقد اقام عدد من المثقفين البارزين صلات مباشرة مع رواد اليقظة الفكرية.
عرفت بغداد وعدد من المدن العراقية محافل , ومجالس خاصة تصدرت لمعالجة قضايا اجتماعية وسياسية الى جانب أنشطتها الأدبية والعلمية، ومن ذلك "الجمعية العلمية والأدبية" التي تأسست في بغداد عام 1907 لم يكن جدل الأفكار في عراق مطلع القرن العشرين يعبر على نحو واضح عن مصالح طبقات او فئاتقدر ما كان طريقة في الاعراب عن تداول الادبيات العالمية بين المثقفين أنفسهم وجلهم من الطبقة المتوسطة,وما يمكن استشفائه من شخصية الفرد العراقي انه على استعداد , للتطور اذ يتلقى بسرعة الموجات الفكرية العالمية بتفهم ومرونة , وهذا الاستعداد فطري تهبه البيئة والمناخ والتربية البيتية والاجتماعية, بوسائل التلقي والتلقين وبصورة اساسية تنتشر هذه الافكار في مراكز المدن بسبب التوجهات الفكرية لأهل المدينة واحتكاكهم بالمثقفين اثناء المداولات الفكرية التي تطرح في المقاهي والمجالس الادبية والصحف والمجلات.
وعلى العموم لم يكن في العراق قبل عام 1908 أي تنظيم سياسي ولكن بعد عام 1908 حاولت حكومة الاتحاديين فسح المجال لتأليف جمعيات ثقافية بشرط ان يتم اخبار سلطات الولاية بذلك وتتم الموافقة الرسمية، وقد كانت بداية التنظيمات الحزبية في العراق على شكل فروع لأحزاب قائمة في العاصمة العثمانية , ويعد فرع جمعية الاتحاد والترقي اول تنظيم سياسي بزغ في العراق عام 1908، ويمثل البداية الأولى لتبلور عملية التنظيم الحزبي، وقد افتتحت "جمعية الاتحاد والترقي" اول فرع لها في بغداد عام 1908الأ ان عضويتها كانت تقتصر في الأساس على الموظفين، وضباط الجيشوبعض اليهود, ألا انها حظيت بتأييد بعض المثقفين مثل معروف عبد الغني الرصافي وجميل صدقي الزهاوي.
تجلت هناك معارضة لحركات الاتحاد والترقي من بعض علماء الدين، عن طريق انخراطهم في لجان وجمعيات معارضة، ومنها لجنة "المشورة" التي تأسست في بغداد , وكان غايتها هي تأييدالحركة الدستورية، ولكنها كانت تعمل سراً من اجل اقناع ابناء الشعب بالعودة الى الشريعة الإسلامية، ولكنها بالحقيقة كانت ترمي نحو مقاومة الحركة الدستورية. رافق عمل "جمعية الاتحاد والترقي" السياسي نشاط دعائي هدف الى كسب المواطنين الى صفوفها، اذ اهتمت بالتعليم والاهتمام بتربية الجيل الجديد تربية موحدة عن طريق التعليم.
ان المثقفين من العراقيين كانوا يناصرون جمعية الاتحاد والترقي , وهم كثيرون وحاولوا بكثرتهم ان يجدوا من يؤيدهم من الاتراك، وان يعملوا بنوع من التكاتف والتعاون للحصول على حقوقهم وإصلاح ادارتهم، ولكن لم تمض مدة حتى صار طلاب الحرية والمساواة من الترك لا يقصدون الا حريتهم وحرية شعبهم ولا يهتمون بحرية الشعوب الأخرى، واتجهوا نحو التعصب العنصري ومارسوا "سياسة التتريك".
لمس المثقفون العراقيون خطورة سياسة التتريك التي طبقها الاتحاديون غير الملتزمينبالمبادئ التي أعلنوها غداة ثورتهم الشهيرة على السلطان عبد الحميد الثاني، وانتقل الصراع على صفحات الصحف والمجلات وفي الاجتماعات والخطب وفيها تنديد بالمقصرين والمرتشين والمطالبة بالإصلاح الإداري والثقافي والقضائي.
بعد اعلان المشروطية حدثت نهضة ثقافية , اذ انتشرت المطبوعات ونبهت الافكار , وجرى انفتاح نحو العالم وخبر العراقيون ما في العالم من احداث ادت الى ما يزيل الغفلة , واعتبر المثقفون يوم اعلان المشروطية يوم الحرية ويوم اطلاق القيود عن الافكار, فظهرت الآراء الحرة وزاد الكتاب وكثر القراء.
ومن المفيد ان نذكر عندما فتحت المدارس الحديثة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، لم يدخل الشيعة ابناءهم فيها، وكان ذلك لأسبابأحدهما يؤول الى الدولة العثمانية والأخر الى الشيعة أنفسهم، فكانت الدولة العثمانية لا تحبذ دخول الشيعة الى المدارس، لكيلا يطمعوا بعد ذلك بالوظائف الحكومية، وكان الشيعة أنفسهم يحرمون المدارس ويعدونها مفسدة للدين والأخلاق، لذلك كان تعليمهم يقتصر على مدارس النجف وكربلاء وسامراء والكاظمية، حيث كان يدرس فيها علم الفقه وبعض العلوم الدينية واللغة العربية , المؤسسة الدينية في المدن اعلاه كانت واعية لما تقول لأن أغلب المدارس التي فتحت في بغداد ذات اهداف لا تصب في مصلحة ابناء الشيعة مثل المدارس اليهودية والمسيحية والالمانية والفرنسية والايرانية وبهذا فان هذه المدارس جاءت لتحقق تطلعات واهداف بلدانها , فضلا عن محاولة الانقضاض على الدولة العثمانية من الداخل كما هو مخطط اليه.
لمعت في بغداد عدد لا بأس فيه من الجمعيات والنوادي ذات الاتجاه الثقافي ما بعد الثورة الاتحادية فقد ظهر نادي "الترقي الجعفري العثماني"، اذتأسس في بغداد عام 1908، وغايته أدبية وعلمية عن طريق فتح المدارس الابتدائية والثانوية لأبناء المذهب الجعفري ومن اهم اعماله فتح مدرسة الترقي الجعفري العثماني، اذ قررت الهيئة المؤسسة للمدرسة رفع عريضة الى والي بغداد يطلبون فيها الاذن بفتح مدرسة باسم "مكتب الترقي الجعفري العثماني"، وانتدبت الهيئة كلا من علي جلبي العينة جي وجعفر ابو التمن لتنفيذ هذا القرار، اذ تقدم كل من جعفر أبو التمن وعلي البازركان، بعريضة الى والي بغداد موقعة من قبل "الشيخ شكر الله" للموافقة على تأسيس مدرسة باسم "مكتب الترقي الجعفري العثماني"، وقد جرت مناقشة بين مقدمي الطلب والوالي حول سبب فتح المدرسة واسمها، فالقصد من الاسم ان يشعر أبناء المذهب الجعفري ان المدرسة منهم واليهم , فيقبلوا على ارسال أولادهم اليها، فاقتنع الوالي بما عرضه جعفر أبو التمن ووافق على اجازة المدرسة.
تغير اسم "مدرسة الترقي الجعفري العثماني" الى "المدرسة الجعفرية" فيما بعد لقد كانت المدرسة مجمعا للأدباء والمثقفين وعين العلامة الشيخ شكر الله، يعاونه علي البازركانلإدارة المدرسة , اما الاشراف على المدرسة فقد تشكلت هيئة من اشراف بغداد وقد قامت هذه الهيئة بجمع التبرعات , لإنشاء بناية خاصة للمدرسة , وقد تم تشييد البناية فعلا , فانتقلت اليها المدرسة وقد توسعت المدرسة من ابتدائية الى رشدية ثم اعدادية , وفتحت هذه المدرسة فروعاً مسائية في الديوانية والناصرية والعمارة والكوت وثانوية في الحي,كما فتحت مدرسة الحسينية الاهليةوهي مدرسة تابعة الى الجمعية الجعفرية, والتي كانت لها مدرستان الهاشمية والحسينية التي تأسست عام 1908 برئاسة الشيخ شكر الله.
وفي يوم 9 تموز1921زار الأمير فيصل المدرسة الجعفرية، وقد نظمت احتفالية بهذه المناسبة، وحال دخوله المدرسة استقبله الناس بالتصفيق, واثناء الحفل القى الشعراء والخطباء كلمات الإشادة بالأمير الهاشمي، وقد طلب الأمير فيصل احضار سجل المدرسة , لتسجيل نفسه ضمن هيئتها التدريسية اذ دون ما نصه "يسعدني وبكل اعتزاز ان اسجل اسمي ضمن الهيئة التدريسية مدرساً في هذه المدرسة، التي أتمنى لها ان تعيد مجد هذه الامة في العلم والثقافة ومن الله نستمد التوفيق"، وقد تقدم الأمير فيصل بصك الى صندوق المدرسة بخمسة الاف ربية كما تبرع الحاضرون كل حسب قدرته, ثم قام الأمير فيصل الى منصة الخطابة وقال:"ان الشعب يجب ان يتعلم كثيرا قبل ان يحكم نفسه، وأكد انه لم يأت الى العراق بهدف فرض نفسه على الشعب، وان أبناء الشعب العراقي يجب ان يكونوا أحرارا في اختيار من يرغبون فيه باعتلاء عرش العراق" , كانت زيارة الامير فيصل خطوة ذكية وذلك لكسب ود المجتمع العراقي وبالتحديد الطائفة الجعفرية , وايجاد قاعدة قوية يرتكز عليها الحكم اما تنصيبه على العراق فقد اتى دون ادنى شك برغبة بريطانيا.
نهضت جمعية المدارس الجعفرية فسعت في سبيل تحقيق اهدافها سعيا حثيثا اذ وسعت ابنية المدارس الجعفرية , وانشات لها بنايات واسعة ومختبرات ومكتبة وساحات رياضية , وقد انشأت هذه الجمعية متوسطة مسائية في بغداد وفيما بعد انتهت الى ثانوية مسائية كاملة.
ان المتتبع لتاريخ اليهود في العراق، يجد ان الطائفة اليهودية عدت نفسها دوماً جزء من الشعب العراقي، وذلك بفعلقدم وجودها في العراق، وضخامة نسبتها الى بقية السكان من جهة أخرى، ورغم نسبتها وتأثرها بالعادات الغربية، لكن لغتهم الام بقيت اللغة العربية من جانب اخر وجد اليهود في قيام ثورة الاتحاديين عام 1908، وما رافقها من شعارات تدعوا الى العدل والمساواة والحرية بين جميع فئات المجتمع، ذريعة لتحقيق المزيد من الاندماج في المجتمع بعدما ضمنت السلطات الجديدة لهم أخذ دورهم من أوسع ابوابه وكان من ثمار هذا الاندماج تأسيس "جمعية التعاون" عام 1909التي أسسها الشباب اليهودي المستنير، واخذت على عاتقها تأسيس مدارس مسائية تتيح للعمال الدراسة فيها بقصد رفع مستواهم الثقافي, فضلا عن فتح مكتبة عامة توفر الكتب بكافة مستوياتها,لأبناء الطائفة ليعززوا مستواهم الثقافي وتأهيلهم وصولاً الى خلق الأجواء المناسبة للاندماج بشكل اسرع في حياة المجتمع المحلي،كما أسست جمعية التعاون مدرسة "راحيل شحمونالابتدائية للبنين" عام 1909 وكانت في بغداد مكتبة يهودية بقيت أبوابها مفتوحة لغاية عام1927 أسمها "مكتبة الجمعية الأدبية العبرية" تتوفر فيها مجموعة من الكتب اليهودية التي ترد من الخارج.
كما تجلت جمعية يهودية أخرى هي "جمعية الاتحاد العثماني"، وهي جمعية يهودية أسست في بغداد, وقد أصدرت صحيفة التفكير باللغة العربية والتركية والمحفل الكاثوليكي الذي أنشئ في بغداد, وكانت له نشاطات أدبية وعلمية واجتماعية لأبناء الطائفة الكاثوليكية, ولا يختلف نادي اتحاد الشبيبة الذي أسس عام 1910 في بغداد والذي ضم الشباب الأرثوذكسية في نشاطاته الثقافية والاجتماعية عن الجمعية الأدبية الكلدانيةالتي تأسست في البصرة التي تميزت بنشاطاتها الأدبية والاجتماعية لأبناء الطائفة الكلدانية.
خصص لأعضاء نادي اتحاد الشبيبة غرفة للمطالعة تم تزويدها بعدد من الكتب العلمية والأدبية والتاريخية وغيرها، وفتحت أبوابها للجميع لقاء اجر زهيد، ولا شك في أن تخصص غرفة للمطالعة كان خطوة نوعية جديدة في أسلوب تعامل المثقفين , ولا عجب في ذلك ان يدخل ضمن العوامل التي ساعدت "نادي اتحاد الشبيبة" البغدادي على الاستمرار في نشاطه حتى الحرب العالمية الأولى، وقد جعل هذا النادي شعاره الأساس الاهتمام بالعلم والمعرفة، وحب الوطن والتضحية من اجله، وكان اغلب أعضائه من المثقفين البارزين في بغداد ومن المعهم"يوسف غنيمه".
ورد في منهاج النادي بأن غايته هي تهذيب الشبيبة البغدادي بتأسيس المدارس والمكتبات والأندية الأدبية، والقاء الدروس الليلية والخطب الاجتماعية , وانشاء صحيفة تهذيبية، وقد ورد في منهاجها أيضا بانه لا غاية سياسية لها، لقد تمكنت الجمعية من تحقيق بعض أهدافها كإقامة الندوات الثقافية والقاء الخطب.
ومن تلك الجمعيات مثلاً التي أسسها بعض المثقفين هو "النادي العلمي في بغداد" عام 1911ولكن علينا ان نلاحظ ان الجمعيات القومية في العراق، كانت تعطي الحقوق القومية بعداً اجتماعياً خاصاً، فليست هذه الحقوق مجرد اقرار باللغة العربية لغة للإدارة والتعليم وإدارة بلدية ذاتية، وانما هي مزيج متوازن من المبادئ القومية والحرية الاجتماعية , وكانت غايته بالدرجة الأولى هو نشر العلم وفتح المدارس وتسهيل سفر الطلاب للدراسة في الخارج، وقد تبرع طالب النقيب لهذا النادي وأمده بالمال , وعلى الرغم من نشاط النادي الثقافي غدا فرع بغداد من الفروع الناشطة الداعية الى اللامركزية غير ان شعار اللامركزية هو الذي أعطاه بريقة , ومنحه التأييد المادي والمعنوي من قبل العديد من الشخصيات العراقية ذات النفوذ.
اصدر النادي الوطني العلمي صحيفة "النهضة" بعد ان تفاقمت النعرة القومية في العراق بعد انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس من 18-23 حزيران 1913، اذ ظهر العدد الأول منها في بغداد في الثالث من تشرين الأول عام 1913أعلنت عن نفسها في واجهتهابانها صحيفة سياسية عمرانية اجتماعية موقوته تصدر مرة في الأسبوع ,كما شهد عام 1912 تأسيس "النادي البغدادي" الذي جعل شعاره تنظيم المجتمع، وتعويد المواطنين على سماع الأحاديث الأدبية، وحضور الندوات الثقافية.
عن رسالة (الجمعيات الاجتماعية
والدينية والفنية 1933 ــ 1958)