يوسف العاني.. نغمة لامعة في تاريخ المسرح

يوسف العاني.. نغمة لامعة في تاريخ المسرح

د. ماهر الكتيباني
يمتد تاريخ المسرح العراقي بامتداد حياة الرواد الكبار من الرعيل الأول المؤسس للخارطة المسرحية، الذين كان لجهودهم الصادقة الدور الرئيس في إرساء دعائم رصينة لمعمار المسرح بشكله المعاصر، ليس في العراق فحسب، بل والعالم العربي، ويشكل الفنان المسرحي «يوسف العاني» حلقة هامة في سلسلة الأسماء التي تزين القائمة الذهبية لأوائل العاملين في ترسيخ ثقافة المسرح،

بوصفه سلوكا ثقافيا يحمل قدرا من الثورية، والوطنية، بل وعبره يمكن أن توجه سهام النقد لتقويض أي وضع خاطئ يجثم على صدر الوطن في مراحل عدة مرت على العراق.
ومنذ ارتقائه خشبة المسرح عام 1944، وحتى ذلك اليوم الذي كرم فيه مع نخبة من الرواد في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، الذي أقامته دائرة السينما والمسرح، عام 2013، حين تناسى العاني وهو مبتهج كل أوجاع المرض الذي أبعده عن معشوقته خشبة المسرح، وراح يحلق راقصا في أرجائها مشفوعا بتصفيق حار من الجمهور، بين التاريخين عقود من المنجزات التي تراوحت، وتحركت، في فضاء المسرح تأليفا، وتمثيلا، ونقدا مسرحيا، وسينمائيا فضلا عن تجسيده العديد من الشخصيات في الدراما التلفزيونية، ومشاركته في بطولة عدد من الأفلام السينمائية، ولعل أشهرها تجسيده لشخصية «سعيد افندي» في الفيلم الذي حمل الاسم نفسه في خمسينيات القرن الماضي، ناهيك عن اسهامته الرئيسة في تأسيس فرقة المسرح الفني الحديث مع مجموعة من عمالقة الإبداع المسرحي، هذه الفرقة كانت اثراءة نوعية في نضج الحياة المسرحية في العراق.
وقد تسنم العاني وظائف عدة، أسهم عبرها وبما يمتلكه من حنكة وذكاء في الارتقاء بواقع الفن المسرحي بخاصة بعد ان شارك في تأسيس مصلحة السينما والمسرح، وتولى إدارتها ليكون عنصرا في وضع الخطوط الحديثة لخارطة الثقافة والفن العراقي المعاصر، ولدوره ذلك وتاريخه الذي تلمع فيه سطور نتاجاته، اختير العاني مرات عدة ضمن لجان التحكيم في مهرجانات مسرحية وسينمائية، في العراق وخارجه، فضلا عن متابعته ومشاركته في التعقيب على العروض التي تشارك في المهرجانات، وبخاصة مهرجان منتدى المسرح العراقي في تسعينيات القرن الماضي، وغيرها من العروض في مهرجانات أخرى، وبخاصة عروض الشباب، فهو لا يترك عرضا من غير أن يعلق عليه، ويبدي ملاحظاته للمشاركين باختلاف تخصصاتهم.
شكل العاني علامة فارقة في أسلوبه الأدائي، الذي يعد نغمة خاصة به لا يجاريه فيها أحد، إذ يعتمد على تفعيل الإيماءة الشعبية «الجست» عبر ما ينتجه من علامات أدائية، فضلا عن امتلاكه الاسترخاء العالي، وتحكمه بماكنة متحركة من المشاعر التي تتدفق في إنتاج الشخصية، وانفعالاتها، واللوازم الخاصة والمميزة لها، باختلاف مزاجاتها، وتكوينها النفسي، وطبيعة العلاقات الرابطة بينها وبين الشخصيات الأخرى، التي تشكل شبكة العلاقات التي تحقق وحدة الموضوع، ولعل تلك الجماليات التي يرسخها في ذاكرة التلقي، تنبع من وعيه المتقدم، والمتمرد على الساكن في المشهد الثقافي، مما تسبب له بمضايقات عديدة، ولعل منعه من إكمال دراسته في معهد الفنون الجميلة بعد أن أمضى سنوات أربع فيه، ليس إلا دليلا على وعيه المتمرد الذي يمتزج مع حبه المترسخ في ذاته لقضايا وطنه، والدفاع عن الحاجات التي تفرضها معطيات الحياة آنذاك، يعبر عن تلك بتناوله للموضوعة التي يصنع عبرها حلقات نصوصه من نسيج الواقع، كما في مسرحية «انا امك يا شاكر» و»فلوس الدوة»، او من مكتنزات التراث، كما في مسرحية «المفتاح»، والتي تعتمد قصتها على أغنية فلكلورية، يسبك عبرها موضوعته التي ينهيها بولادة، يفتح عبر دلالتها ولوج عالم جديد على أنقاض عالم قديم غير مجد، وبرؤية استباقية، لما ستؤول اليه الوقائع مستقبلا، ذلك له ارتباط آخر بطبيعة ميوله الدراسية، بوصفه دارسا للحقوق، وما انتماؤه للشعب وقضاياه سوى تمثله للمدافع عنه، يتجلي ذلك عبر ما يجسده من شخصيات، أو ما يكتبه من مسرحيات، أن يوسف العاني فنار يدل المتعطشين للفن المسرحي الراقي، المنزه عن الأغراض النفعية، الممتزج بصدق النوايا، الذي يعكس طبيعة الجيل الذي ينتمي إليه.