عبود وموليير.. الراين ودجلة

عبود وموليير.. الراين ودجلة

د.عباس العلي
الفن رفيق الوجود الإنساني منذ أن وطأت قدماه الأرض، جعل أول فنونه تشكيل الطين، صار البعض من لبناته الأولى أربابا، زوق هذه الأرباب وحاول أن يجعلها بأجمل الصور، ثم رتب مراتب لها حسب جمالها، لكنه أفرد للأنثى من هذه الأرباب صورة خاصة ومنزلة فريدة، لأنه يرى في ألهته هذه جمالا يعانقه كل ليلة أو حلما بأن يعانق كل الجمال المكنون في صورة الرب،

كل هذا من الطين، رقص لها، عزف لها بالقصب الأول ثم طور آلاته، أنشد لها كل أغاني الحب مصرا على أن الجمال أنثى، لأن الجمال هو الحياة والأنثى سر الحياة، لذا عشق كل ما يذكره بها، بنى أول مسرح في بيت الآلهة لينشد لها ويترنم بأحلى كلمات الحب والغزل ما لبث أن خرج بمسرحه في الهواء الطلق ليحكي للناس قصة عشقه للآلهة الأم الآلهة التي ذاب في حبها فعبدها حتى القداسة.
عندما وجد الفنان الأول أن الناس قد تفشى فيها الولع بحب الآلهة وأن مجرد الظهور على المسرح يعطي الأمل بالسلام والمحبة والحرية، أبتكر نمطا أخر من الفنون أقرب لطبع الإنسان الفضولي بمعرفة الأسرار وتقصي الأخبار وتمثيل معطيات الذات من قبل الأخر أمامه صار محبا للمسرح وعاشقا للفن، فولدت قصة الفن المسرحي خليطا بين الغناء الديني ثم الوجداني مع الرقص مع الحكاية مع الشعر مع كل مفردات البوح الإنساني، عظم المسرح في واقع الإنسان وأصبح الفنان رسول الآلهة ونبي الجمال ليومنا هذا.
كما في باريس الحاضر الذي مضى عن قريب بعد روما وأثينا وبابل والإسكندرية وتدمر كان كبار أنبياء الفن وفناني الشعب مولير، كان هنا على موعد مع دجلة وطينها والفرات وبغداد وألف ليلة وحاناتها الفقيرة ودروبها الضيقة «عبود العربنجي» فنان الشعب الذي جعل من مفردات الفن الشعبي بآلامه وأماله ومعانات الإنسان العراقي المستلب الكادح الباحث عن ذاته بتغييب وعيه عن إدراك حجم إشكالية وجوده مع التمايز الطبقي والقهر الاجتماعي مفردة يخشى طغاة الحكم وجلاوزة السلطة أن تتبلور وعيا جماهيريا يطيح بأسس الثقافة البرجوازية القائمة على التنكيل بالإنسان البسيط عبود العربنجي بثورته المعهودة على (أبو جورج) الذي يمثل المستغل لكل أماله وطموحاته.
يوسف العاني الذي انحنت له قامات السياسيين ليس إذلالا بل تقديرا وتعظيما لا لأنه يستحق الاحترام فقط ولكن لأنه يمثل جوهر الإنسان العراقي الذي لا تتوقع ثورته ولا ما يحمل من قهر طبقي واستلاب روحي متفجر قد لا يمكن أن يبوح أو يظهر كل هذا إلا عندما بفقد وعيه المصطنع من خلال خمرة الهروب من واقع مر إلى واقع أمر وقد لا يخسر فيه أكثر مما خسر في طول وعرض حياته لكن يوسف العاني وهو في نزاعه من أجل الحياة الخالدة الإنسانية بالعنوان رفض أن ينحني له تلامذته ومحبوه وعشاق الفن وطلابه برغم أننا جميعا نستحق أن نبقى في انحناءة تكريم له فهو معلم الحب والسلام والحرية ونبي جمال هذا الزمن.
العاني يوسف قد أسدلت عليه التسمية من القديس يوسف هذه الروح المحبة للإنسان الساعية بلا هوادة من أجل الآخرين لا لشيء يبتغيه فمهما ملك ومهما صار في السلطة أو انحازت له السلطة لا يرى في نفسه إلا ذاك المصلح البسيط في تعبيره في روحه المتواضعة برغم أنه عاني وعانى وعاش المعاناة فصار خبيرا بها ناقلا لنا بالفن والإحساس المرهف مستخدما كل فنون المسرح والسينما وعموم الدراما والكوميديا كيف تتحطم النفس الإنسانية عندما تواجه المعاناة وتخذلها الظروف كما أباح لنا في صور كثيرة أخرى كيف للمعاناة أن تنتصر عندما يجعل منها الإنسان صوتا للحياة وسوطا على الظالمين.
في هذه الذكرى قد لا أتمكن أنا ولا غيري أن نستقيم مع كلماتنا للتعبير عن روح المحبة لهذه القامة العراقية التي ولدت في شواطئ دجله وسكنها عفريت الحب لبغداد السلام بغداد ألف ليلة وليلة بغداد الكرخ التي نامت على نواعيرها وكراداتها لتستفيق على صوت صديقة الملاية وزكية جورج ومحمد القبانجي وعمالقة الفن ليعبر إلى رشيد العاصمة وسوق السراي وأكاديمية الفنون ومسارح بغداد، معلما وتلميذا وواعظا وصديقا في محراب الفن المنحاز لقضية الإنسان، قضية الشعب الذي لم يمنح حقه كما ينبغي في الحياة وهو الذي قاد مسيرة البشر، يوسف العاني في وجه من وجوه فنه وحياته الواقعية يمثل كلكامش كما يمثل (أبو ذر) في غربته وصوت الحسين في كربلاء من دون العبور لانتمائه إلا الالتصاق بدجله وطينها ونوارسها التي غنت:» يا صياد السمج صدلي بنيه».