غوستاف فلوبير

غوستاف فلوبير

ترجمة/ كاميل صبري
ينتمي الكاتب الفرنسي الكبير (غوستاف فلوبير) الى المدرسة الواقعية في الادب، وعادتا ما يتم النظر الى روايته المشهورة (مدام بوفاري) بعدها اول رواية واقعية وهو الذي تابع المشروع الروائي الواقعي الذي بدأه كتاب فرستيون اخرون، وارسى قواعده الا انه على الرغم من انتمائه الى المدرسة الواقعية يظل ذلك الكاتب الذي زاوج بين واقعيته وبين ميله الرومانتيكي، الذي ظهر جليا في رواياته الاخرى التي حملت عناوين:

(اغراء القديس انطونيوس) و (التربية العاطفية) فضلا عن روايته (مدام بوفاري)، وعلى خلاف الكتاب الروما نتيكيين الذين يعتمدون على الخيال والعواطف المتقدة في التعبير الادبي، تميز جوستاف فلوبير يقدرته على الملاحظة الدقيقة، والاستعانة بالعقل والرؤية الموضوعية بدلا من نظرتها الذاتية التي يتصف بها الكتاب الرومانتيكيون عادتا، والواقع انه الكاتب الذي لم يكن ينفر من الواقع، بل كان يعتقد ان الفن الحقيقي هو الفن الموضوعي، لكن الفصل بين الفنان كذات فكرية كموضوع ضروري ومع ذلك فانه الكاتب الذي يمثل المذهبين الواقعي والرومانتيكي بطريقة او باخر ففي رواية (مدام بوفاري) يصور جوستان فلوبير التطورات الطارئة على بطلة الرواية (ايما بوفاري) من الناحيتين السايكلوجية والاخلاقية وفضلا عنها كنموذج بشري انثوي عادي فانه يصور طبائع وامزجه عدد من الشخصيات الاخرى، وكلها نماذج عادية تحيا في الواقع الاجتماعي وتنتمي الى الطبقة الوسطى، ولها اهتماماتها واهدافها ومشاريعها العادية، ان وصف النماذج التي تحيي الواقع ليس عملية يسيرة، وجوستاف فلوبير وفق هذا المنظور روائي وفنان واقعي بامتياز وهو قادر على رصد الطبائع البشرية ومعرفتها معرفة عميقة على خلاف الرؤية الفلسفية التي تؤدي بالفيلسوف عادة الى معرفة الانسان ودوافعه وحوافزه ولكن جوستاف فلوبير لم يكن فيلسوفا بل روائيا وفنانا واقعيا.. ومما تتصف به رواية (مدام بوفاري) ميلها الى التعالي الذاتي على الطريقة الرومانتيكية وكانت قراءاتها في الادب الرومانتيكي واطلاعها على رواية (بول وفرحيني للكاتب الرومانتيكي) برناردين دوسان فضلا عن اشعار الفونس ودالامارتين العاطفية والتطلع بأمل الى المستقبل والنفور من الحاضر الذي يتصف بالافتقار الى الفاعلية وان زواج (ايما) من الطبيب (شارل بوفاري) ادى الى زيادة احساسها بالفراغ، ورغبتها في الانعتاق من القيد الاجتماعي الذي يكبلها ويمنع روحها من التعالي والارتقاء، والواقع ان (شارل بوفاري) على درجة كبيرة من المحدودية على كل المستويات الفكرية والشعورية وهو على دراية بان زوجته تتفوق عليه الى الحد الذي يرتبط بها ارتباطا وجدانيا وثيقا يبدو على حقيقته في اخر الرواية عندما تصل (ايما بوفاري) الى نهايتها التراجيدية، فتقرر الانتماء بعد اخفاقها في ايجاد الحبيب الذي تتطلع اليه نفسها وبناء العلاقة الغرامية التي تتوق اليها روحها المتعطشة للحب، وهو مايؤدي بزوجها (شارل بوفاري) الى الموت حزنا وكمدا على زوجته الراحلة هذا مع علمه بخياناتها المتكررة، وتجد الاشارة هنا الى انها تعلن قبل وفاتها حبها له، مما يدل على ان مشروعها الرومانتيكي قد خفق اخفاقا تاما الى الحد الذي جعلها تعود الى زوجها الشرعي عودة اشبه بصورة التائب الذي يحاول الانعتاق من الاخطاء التي ارتبكها وتحتم عليه ان يدفع لقاءها ثمنا باهضا ان اهم ميزة في رواية (مدام بوفاري) وفي مؤلفات جوستاف فلوبير كلها هو نزعتها الواقعية وفي هذا السياق يبدو الكاتب الفرنسي اقدر على الرؤية من الرومانتيكيين الذين ينظرون الى الواقع من خلال رومانتيكيتهم وهنا يمكن تفهم رؤية الكاتب جوستاف فلوبير اكثر فاكثر، وهو الكاتب الذي يرفض التهويمات الرومانتيكية ويعتقد انها تتمنى الى الخداع فالكاتب الرومانتيكي الذي يتجاوز الحدود الرومانتيكية المقبولة انما يموه على نفسه، وعلى قارئه ومع ذلك فاننا بحاجة الرومانتيكية التي تتهافت لتؤدي بنا الى اعناق الواقعية، وكل مايحدث تحت تاثير الرتابة السيكلوجية التي تستولي على السياق الحياتي الاجتماعي باكمله، وتدفع الناس باجمعهم الى التنقل من حال الى حال ولدى جوستاف فلوبير تظل السيول الرومانتيكية واقعة تحت تاثير سيطرة الميول الواقعية وغير قادرة على الاستبداد بالنموذج البشري الذي يمثلها والتحول الى اوليغاركية قائمة في دواخله وهو الكاتب الذي احب كوكبه من الكتاب الذين تمكنوا من التعبير في اثارهم الادبية عن النزعتين الواقعية والرمانتيكية في الوقت نفسه، ثم انه الكاتب الذي لم يتنكر للخيال العظيم، والذي احب المناظر التي تنطوي على الفخامة ولها علاقة وثيقة بطبائعه وحوافزه السيكلوجية الذاتية.