الشاعر حسين عبد اللطيف: في عداد الذكرى

الشاعر حسين عبد اللطيف: في عداد الذكرى

لؤي حمزة عباس:
إنها واحدة من اللحظات الفارقة في حياة البصرة، أن تكتب عن مدينة رحل عنها حسين عبد اللطيف إلى الأبد. سيكون الأمر أكثر وضوحاً إذا ما تصوّرنا البصرة الراهنة نسيجاً بشرياً بخيوط محدودة جمعت بينها حبكةُ الثقافة والفن وصاغتها صنعةُ الأدب، نسيجٌ بدأ يتآكل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مع حرب الثمانينيات التي فتحت أمام المدينة بوابات الجحيم التي لم تغلق حتى الآن،

في سنوات الحرب يمكن أن ترى حسين عبد اللطيف بقامته القصيرة الممتلئة وكيس أوراقه يتنقل من مقهى إلى آخر حسب مزاج القصف وهوى القذائف.
ليس ثمة حيرة أو نكوص بين إيمان الشاعر بمراقبة المارّة الذين لا يستطيع إلا أن يكون واحداً منهم، وغياب جدوى النظر، إذا ما تأمّلنا المسافة الزمنية الفاصلة بين ديوانه الأول(على الطرقات أرقب المارّة، بغداد 1977) ومختارات قصائده (لم يعد يُجدي النظر، ألمانيا 2005)، بين منتصف ستينيات البصرة وباكورة سبعينياتها، وقت كتابة قصائد ديوانه الأول، حيث المدينة تتنفس سعادتها وتُنصت لبشائر مدنيّتها، تعيش حلم مستقبلها محملةً بصور ماضٍ حميم، وباكورة الألفية الثالثة وقد أجهزت البربرية الوطنية على الحلم وداست العشيرة وهي تردس للحروب، بعد فصول هزائم مهلكة وعقد حصار مرير، على كلِّ أمل بالعدالة والسلام، أضحت المدينة خراباً والمدنيّة رماداً تذروه رياح العنف والدناءة، لقد أُنجزت المهمةُ على أكمل وجه وانقضّت الكواسر على أخضر البصرة ويابسها، ولم يعد حلم الشاعر غير خيط واهٍ يشدّه على اصبعه لعلّه يتذكّر أمنياته الغاربه، كلُّ شيء غدا في عداد الذكرى، وهو ما قاد حسين عبد اللطيف، في خلاصة يأس بيّنة، لقصيدة الرثاء ومنها للقصيدة الموجزة، لينجز فيها كتاباً، متوالية هايكو، في جلستين متعاقبتين (بين آونة وأخرى، يُلقي علينا البرق بلقالق ميتة، دمشق 2012)، وقد انتقل من ريلكه ولوركا وإليوت وأراغون وأبولينير وبيرس ولوتريامون، أحبته القدامى، إلى الشعراء اليابانيين، يعدّهم في مقدمة ديوانه كما يعدّ أصابعه، باشو وشيكي وبوزون وريكوتو وسيري وكوثي وسواهم، ” الشاعر جمّاع أسلافه، يحدّثني حسين عما يقوله إليوت. ويعني بأسلاف الشاعر: أولاء الذين ينحدر من صلبهم مباشرة فضلاً عن شعراء العالم الآخرين الذين لا يمتُ لهم بصلة مباشرة إلا بكونهم شعراء من صنفه، على حد سواء”، إنهم الآن رفاق نهايات الرحلة وأطيافها الساحرة في كتابة قصيدة “تُعنى باللباب وتقتصر على الجوهري الذي فيه ومنه كفايتها”،. مثلما سينُصت، في خاتمة عطائه الشعري، لتساؤلات بابلو نيرودا مدوّنا إجاباته على بياض صفحاتها، (بابلو نيرودا، كتاب التساؤلات، حسين عبد اللطيف، كتاب الإجابات، ترجمة وإعداد سحر أحمد، عمّان 2014)، يوقّع نيرودا أسئلته، ويدوّن حسين عبد اللطيف عليها ومض اجاباته في تجربة يكتب في مقدمتها عن الشاعر وهو “يزمُّ شفتيه على بعضهما لئلا يترك بينهما فراغاً أو مهرباً للكلمات لتفرَّ وتفلت من بين أسنانه المطبقة”، مواجهاً بإجاباته أسئلة نيرودا، مدركاً أن كلَّ إجابة، في الشعر، طيف واحتمال، طامحاً، على الرغم من إدراكه، أن تعلق بسنارته سمكة. الأجوبة المفترضة تستدعي، هي الأخرى، أسئلة مفترضة مثلما يستدعي الليلُ النهار، ليس ثمة جملة تامة أبداً، ليس ثمة سؤال منجز وإجابة وافية.
في السبعينيات كان حسين عبد اللطيف يؤسس امتياز قصيدته، يختبر أدواتها إذ يعيش لحظة الشعر الفارقة التي لم تكن تعني له أقل من وجهة حياة، في الشعر والنثر على السواء، حيث المطابقة تامة بين صورتي الشاعر داخل القصيدة وخارجها، إحساسه وهو يؤآخي بين الكلمات هو الاحساس الذي قاد خطواته في دروب أيامه، من بغداد حيث ولد، وصولاً لقصائد الرثاء وقد أخذته للمدن القصيّة التي لا يعود زوّارها، وهو يحقق عبر مرثيّته (أمير من أور، الينابيع، دمشق 2010) واحدة من أجمل مراثي الشعر العراقي،” لقد هزّني وضعضع كياني موت صديقي الفنان “أحمد أمير الجاسم”، ومن بعده ولدي، يحدّثني حسين مرّة أخرى، الأول يكبر الثاني بعشر سنوات، كذا رحلا سريعا، فشعرت بالفقد وانطفاء كل إشراق، وبانتهاء حفل الألعاب النارية هذا لم يتبق لي سوى الخواء والظلمة، فقد أمست الحديقة مظلمة وسكت الزنوج في المونومارتر، وأطلَّ عليَّ الموت من أربعين نافذة كما يقول أراغون”.
الشاعر الذي اختار (الطريق) ميدان تجربة ومختبر صياغة ومادة خيال فاضت به اللوعة وضاقت بخطوه الطرقات، ببساطة قولٍ تشبه بساطة حياته، وبساطة ما اختار لها من طرائق تعبير لن تجد العراقية الدارجة في غير قصائده حيّة بارقة مثل فص من زمرد، ذلك لأنها لم تأت من خارج احساسه بعالمه ورصده الدؤوب لما حوله، فقد قاسمه لحظة الكتابة عامل المسطر وقاريء المقاييس وبائع الصحف وسائق باصات النقل العام، أعطوه من لوعتهم وأنصتوا إليه، من دون أن تُبتذل قصيدته أو يسفّ بها الجناح. ليس ثمة طرق مقفلة بين الشاعر وأقرانه، إنه خدين الأيام الموحشة وصديق الأعوام المرّة، في كلِّ قصيدة من قصائده يختار الرسيل بحنو ودقة وأناة، فتغدو قصيدته، منذ البدء، أقرب لنقلة حاسمة في لعبة شطرنج، نقلة بعد نقلة يتقدّم الموت فيها ماسحاً الرقعة ومخلياً الطرقات، طرقات حسين التي لم تؤدِ، يوماً، لغير القصيدة الناصعة، قصيدة جوّابين تقودهم الريحُ، بكل أسف، إلى الريح.