عن حسين عبد اللطيف..  و «متوالية هايكو»

عن حسين عبد اللطيف.. و «متوالية هايكو»

جاسم العايف
في حوار أجرته مجلة الأقلام مع عدد من الكتاب والشعراء مطلع السبعينات، ذكر الشاعر فاروق يوسف عددا من الشعراء بينهم « «حسين عبد اللطيف» يمكن عدّهم الحلقات التي تربطهم بسلسلة شعراء الستينات مع اختلاف توجهاتهم وعطاءاتهم الشعرية ومنحاهم الكتابي وتوجهاتهم الفكرية. وقد صدر للشاعر حسين عبد اللطيف عن دار الشؤون الثقافيةـ بغداد ـ مجموعته الشعرية الأولى «على الطرقات أرقب المارة» عام 1977.

ثم صدرت مجموعته الشعرية الثانية « نار القطرب» عن ذات الدار عام 1995. وعلى قلة ما صدر له لكنه أثار اهتمام النقاد ومنهم طراد الكبيسي وعبد الجبار عباس، ود.حاتم الصكر ود. محمد صابر عبيد وياسين النصير ود. فهد محسن فرحان وجميل الشبيبي وحيدر عبد الرضا ورياض عبد الواحد ومقداد مسعود والشعراء مصطفى عبد الله وعبد الكريم كاصد وشوقي بزيع وأديب كمال الدين.
كما كتب عنه القاص محمد خضير وأستاذنا محمود عبد الوهاب. «أدونيس» كذلك احتفى بحسين عبد اللطيف ونشر له في العدد الثاني من مجلة (مواقف) مجموعة من القصائد التي أرسلها حسين عبر البريد وقد أكد «أدونيس» ومن خلال تعريفه بعبد اللطيف أن العراق بشبابه الشعراء يضيف نكهة خاصة متميزة لبيت الشعر العربي الممتد عميقاً في المكان واسع الأفق في التاريخ والزمان. في البصرة أدى حسين عبد اللطيف دوراً لم يُكشف، من خلال اهتمامه الشديد بالعديد من الأدباء الشباب في المدينة، شعراء وكتاب قصة ورواية، و بعضهم في بداياته، الخجول، كان يتوجه له ويعرض نتاجاته عليه ويسمع وجهة نظره فيها، مع تشدده في الحكم عليها، طموحاً منه نحو توجههم نحو الأفضل والتميز والمواصلة، وهو ما لم يتحدث عنه أحد ولا حتى عبد اللطيف ذاته. وحسين عبد اللطيف تمكن من إجراء حوار مع الشاعر «محمود البريكان» وهو أول حوار للبريكان، ينشر في مجلة ثقافية عراقيةـ الأقلام ـ وقد تمكن عبد اللطيف من استحصال موافقة البريكان على إجراء الحوار ونشره، مع ما هو معروف عنه من تمنع عن إجراء أي حوار معه، وذلك لثقة البريكان به كونه كان طالبه في معهد المعلمين وقد اطلع البريكان على كتابات حسين وشخص فيها جده وتميزه. وحسين عبد اللطيف هو الذي اقترح على القاص محمد خضير أن يطلق عنوان «المملكة السوداء» على مجموعته القصصية الأولى بعد أن كان الأستاذ خضير قد اختار لها ثلاثة عنوانين، و لم يكن ما اختاره حسين ضمنها. وقدم حسين عبد اللطيف، أوائل السبعينات تقريراً مطولاً نشره في مجلة «المثقف العربي» تناول فيه واقع الحركة الثقافية والأدبية في البصرة وتضمن تشخيصات دقيقة عن الواقع الثقافي في المدينة وفواعله حينها، مطالباً بعدم التمييز أو النظر بعين واحدة، وبعيداً عن المحاباة لأسباب لا علاقة لها بالثقافة والفنون، كما شخص بعض الأسماء التي توقع لها أن تغدو مستقبلاً فاعلة في المشهد الثقافي والأدبي والفني في المدينة والعراق وقد صدقت الكثير من تشخيصاته وتنبؤاته. ولحسين كذلك قراءات رصينة في بعض المنجزات الشعرية والقصصية، وله اهتمامات بفن الرقص الشعبي» إلهيوه والنوبان» في البصرة منقباً في جذورها التاريخية وواقعها وله عنها كتاب جاهز للطبع ومعزز بالصور، بعنوان (طقوس الرقص الزنجي في البصرة). عام 2010 صدر لحسين «أمير من أور» وهي مرثاة لصديقه التشكيلي أحمد الجاسم الذي توفي في برلين ولم يتجاوز الثلاثين عاماً وفي هذه المرثية شخص الناقد التشكيلي خالد خضير في كتابه» قيم تشكيلية في الشعر العراقي» أن «أمير من أور» في أي دراسة له تحتم أن ينظر إليه بصفته مجموعة من»النصيصات» ابتداءً من الغلاف الأول وكذلك الأخير الذي يعدّه الأول- أيضاً- كونه يحمل صورة «المرثي»، وتابع خضير الكتاب عبر ملاحق لم تعنون معتقداً أن عبد اللطيف أراد بهذا أن يكشف الصلة التي تربطه بالمرثي بصفة «احتفاء» فاحمد الجاسم لم يغادر عبد اللطيف روحياً بل هو في سفرة، حتى وان بدت طويلة للتغلب على هذا الرحيل الذي يجدد رحيل انكيدو عن كلكامش و الذي لم يقتنع به في البداية. ويكرر عبد اللطيف تلك الرؤيا متجسدة في فقدان القناعة بالأشياء الحياتية المحيطة به، لكنه من جهة أخرى يقر بواقعة الغياب الواقعي مرغماً وبانكسار يقود للهزيمة المحزنة:
«الآن.../ وقد انتهينا من كل شيء/ فلم يعد من طائل وراء السعي المحموم/ في هذا العالم/ حيث الغلبة للأفعى/ في اقتناص الأبدية وحيازتها منك/ الجهود، كلها، باطلة «. وخالد خضير رأى أن المرثية مشتركة بين الراثي والمرثي، إذ يقف الشاعر- الحي- في اللحظة الراهنة مستعيداً الماضي، مقتنعاً بما حصل بمرارة:» فالذي كان..كان / والذي قد جرى..قد جرى». ويذكر- خضير- بأن أهم خصائص الشعر عموماً لدى عبد اللطيف تنحصر في كبح الكثير من رومانسية الذات المتوجهة إلى الآخر وهو دائم الاشتغال بنصوصه من اجل كبحها قدر إمكانه. وهذا حكم في الواقع يثير جدلاً في شعر حسين عبد اللطيف السابق، فما كتبه في ديوانه الأول «على الطرقات ارقب المارة» نجد صوت الأنا عالياً لديه. ويؤكد الناقد خالد خضير إن حسين عبد اللطيف قد أثث نصه بحشد من أسماء الأمكنة والشخصيات التي تتعلق بالرسم، والرسامين، وأسماء اللوحات، وأماكن لعبت دورا مهماً في تاريخ الرسم العالمي الحديث. وبحث في القيم التشكيلية التي تثيرها تلك العناصر في «مرثاة من أور» والكيفية التي وظفت شعرياً عبر اللغة فيها. لكنه يحيل لعدم تأثر عبد اللطيف بشعراء آخرين، وهو ما لم يشخصه الناقد عبد الجبار عباس في كتابه «مرايا على الطرق»- وزارة الثقافة- بغداد- عاداً ذلك التأثر من الضرورات الشعرية لشاعر شاب، حينها، ويرى أن التأثر لدى حسين لا يعود إلى استلهام منهج هذا الشاعر أو ذاك بل تشبعاً بتيارات الشعر اللبناني الحديث التي تدين بالكثير لمفهوم الحداثة في الشعر الأوربي منذ الموجة الرمزية بجناحيها الفرنسي والألماني، حيث يكف الشعر عن أن يكون وصفاً أو سرداً لعاطفة مشاعة، بل رحلة تنشد كشفاً وعالماً سرياً، وهي لحظة هاربة، لكنها: لحظة الكشف والوهم والرؤيا. كما أصدرت دار الجمل مختارات شعرية لحسين عبد اللطيف عام 2005 بعنوان «لم يعد يجدي النظر».
2
مؤخراً صدر لحسين عبد اللطيف مجموعته الشعرية المعنونة «متوالية هايكو»
* من المعروف أن لا تراث يعتد به لهذا النوع من الشعر في الخارطة الشعرية العراقية والعربية حتى، ولكن توسع الترجمات عنه وعولمة الاتصالات الحديثة جعلت تلاقح الثقافات المحلية و العالمية متيسرة بسهولة لا مثيل لها سابقاً. يضع حسين عنواناً موازياً لكتابه وهو» بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميّتة»، عن المجموعة هذه يذكر حسين في المقدمة أن هذه «الومضات» أو ما يطلق عليه ثانية بـ» التوقيعات» تتشابه مع المُعجب بهم لمعجبيهم في الاوتوجرافات الخاصة، وأنها تمت خلال جلستين متعاقبتين، دون أن يحدد مكان وزمان ذلك وكيف ولماذا؟. ويؤكد اقترابها الحميم من قصيدة»الهايكو» اليابانية ويذكر عدداً من أهم الشعراء اليابانيين، والعالمين كذلك، كتبوا هذا الشعر ومنهم عزرا باوند، ويتيس وايمي لويل وكونراد وفروست وولاس ستيفنز واكتوفيو باز وايلوار وداج همرشولد، أمين عام الأمم المتحدة في فترة ما، وتوماس ترانسترومر، الحائز على نوبل للآداب عام 2011، وغيرهم، ويقرر أن هذا النمط من الشعر، الذي احتوته المجموعة، ينطلق من منظور ثقافي آخر له أعرافه وتقاليده الخاصة به، وطابع توجهه العام والشخصي، ونسقه اللغوي الخاص الذي هو اللغة العربية بكل سياقات نحوها المتحكمة بطرق المعالجة، عند الكتابة، كما يلحقه بمجموعة من الإيضاحات (ص232 -233). تأسيسا على ما ذكره حسين في المقدمة نرى إن إلحاق صفة (الهايكو) بهذه المجموعة يخضع لمسألتين أراد حسين توضحيهما، بقصديةٍ، أولهما احترام القراء الذين ربما سيربطون بين هذه المجموعة وقصائد(الهايكو)،وثانيهما النجاة من مآخذ بعض النقاد الذين لابد أنهم سيأخذون عليه في أن ما جاء في هذه المجموعة ليس سوى صدى أو تشابه مع قصائد (الهايكو) وبذا فهو يقطع الطريق على سوء الظن الذي ربما سيحدث، أليس حسين هو مَنْ أورد في المقدمة خصوصية هذا النمط، عربياً، في مجموعته؟. لذا كنت أتمنى ألا يلحقه، بـ»الهايكو» بل يكتفي بما ذكره كونه»ومضات» أو ما أطلق عليه بـ»التوقيعات»، ولحسين في ما فعل اجتهاده وهو حر فيه، ولا يقلل ما تمنيته من قيمة هذه المجموعة مهما اتخذت من أسماء. عن هذا الجانب ورد للأستاذ (نجاح عباس رحيم) / في دراسته عنها و نشرها على حلقتين في جريدة /الصباح الجديد/ ما يلي:
«في هذا النمط الجديد من الكتابة يتعيّن على أي شاعر أن يستحضر كلّ أعماله الشعريّة السابقة ويستخلص الفهم الدقيق لقراءاته قبل الشروع في كتابة ما يحاكيها. ويضيف: كتابة قصيدة الهايكو وفقاً لما نتصوره من تطبيق لجميع شروطها (معاييرها) هي عملية مواجهة Confront على أن هناك رسائل في قصيدة الهايكو خاصة بالمتلقي هي التي تشكل البنية الحقيقية للقصيدة. الابتعاد عن هذه المعايير تعني فض المواجهة (التحدي) بين ما نكتب - نحن العرب- وبين ما يكتبه اليابانيون». ونُظيف هنا بالضرورة غيرهم أيضاً. يعطي حسين عبد اللطيف في مجموعته هذه حيزاً واسعا ويبدو مفتوناً ومتماهياً معها عندما يخص صغار ما تنتجه الطبيعة من حيوات مهتماً بها اشد الاهتمام:
كل ليلة على مدى الخريف
احضر الحفل الموسيقي
الذي تقيمه.. الجعلان»
«هلا سمحتِ لي بإطفاء السراج
فراشتي العزيزة
أريد أن اخلد إلى النوم»
«آه يالمشط(الواوي)
من مشط
يرجَل به
ريش الدجاج»
«بعد الأقحوان
لا خزامى
ولا رند
ولا أرجوان.»