غوغول وأسلوبه الساخر من كل أنواع الفساد الاجتماعي

غوغول وأسلوبه الساخر من كل أنواع الفساد الاجتماعي

جاسم المطير
في يوم من أيام بدايات الكتابة الساخرة التي أظهرها غوغول، بقوة ومهارة، وهو ما زال كاتبا صغيرا في مسرحية " المعطف " قال تورجنيف قوله الشهير:
إننا جميعا خرجنا من معطف غوغول..
في تلك الأيام كان تورجنيف يعني بـكلمة " إننا " كتابا كبارا من أمثال: غونتشارن ويسكيس و ديستويفسكي و تولستوي وتورجنيف نفسه.

أما بوشيكن فقال محذرا الكتاب الروس: يجب أن تكونوا حذرين مع هذا الروسي الصغير.إنه يسلبكم حقيبتكم بسرعة حتى أنكم لا تجدون وقتا لطلب النجدة.
لم يكن ما قاله تورجنيف أو بوشكين غير صياغة رأي معتمد لنهج غوغول القادم من أعماق المجتمع الروسي لـ"يسخر " من السفاهة والظلم والانحلال والحيرة والقمع والاستغلال والضلال ومن كل من عميت بصيرته من المتسلطين على المجتمع لنشر شرورهم وفسادهم ومفاسدهم. فقد كانت إعمال غوغول الأدبية جميعها خوضا جريئا في بحر الوقائع والحقائق داخل المجتمع القيصري الروسي، إذ اشتغل في تلك الأعمال الساحرة، لغة وأسلوبا، استنادا إلى موهبة الجمع بين منطقي الفلسفة والسخرية، مما اوجد تحركا لاحقا في الأدب الكلاسيكي العالمي عن كون ظاهرة الأدب الإنساني وظاهرة الكلمة الساخرة مترابطتين استنادا إلى وجودهما في تركيب وصياغة أفكار اغلب الأعمال التي أنتجها نيكولاي غوغول، الأديب الروسي، الذي امتلك معيارا كبيرا في مدارات الأدب الإنساني العالمي فهل اكتشف الآخرون هوية غوغول الساخرة قبل أن يكتشفها هو، أم أن ما قاله عنه بوشكين وتورجنيف كان استنتاجا ببزوغ حضارة أدبية من نوع ما في الثقافة الروسية الصاعدة آنذاك..؟ اعني به نوع الأدب الساخر.
في هذه المقالة أبين، بتركيز شديد، مظهر الصياغة الجديدة التي جاء بها أدب غوغول عند وقوفه على أعماق مأساوية الحياة الإنسانية، مذكرا القراء انه مرت اليوم الذكرى المئوية الثانية لميلاد هذا الكاتب العظيم، الذي غدت أعماله المسرحية والقصصية ومجمل أفكاره بمثابة برنامج عمل ثقافي وخريطة طريق الأفكار الأدبية لكثير من الأجيال العالمية التي جاءت بعده، فقد كان غوغول مصورا نظريا لإيجاد العلاقة المتبادلة بين النص السردي ووظائف اللغز التي تستند إلى مقولات ايجابية ذات أساليب ساخرة، كما عهد إلى نفسه بأساليب إلزامية هدفها خدمة الوطن والشعب. ليس هذا القول خلاصة من عندي أو من احد غيري وليست عرضا مجردا لبعض صفات غوغول الإبداعية التي أوجدت كنزا أكثر إنسانية في الأدب الروسي وفي الأدب العالمي كله بصورة مختلفة تماما عن الثقافات النظرية والتجريدية التي كانت تحفل بها الطبقات العليا المرتبطة بالقصور الحاكمة. لقد قدمت لنا قواعد المعرفة الموضوعية للدراسات الكثيرة في تقييم أدب نيكولاي غوغول أن هذا الكاتب احترم نفسه وفنه منذ نعومة أظفاره حين دعا نفسه بنفسه إلى تأسيس أدب جديد، أدب تطبيقي عن واقع اجتماعي مر قرر أن يكشف مفاسده بقلم السخرية وبكلام السخرية وبمشاهد السخرية ليكشف من خلال ذلك أيضا حجم الأضرار الناتجة بحق الشعب من قبل سلطات تعسفية، كبيرة وصغيرة، دنيا وعليا، في الهرم الحاكم. المراجعات حملت إثباتا واضحا منذ نعومة أظفاره حين تضمنت إحدى رسائله لأمه كيف انه اكتشف نفسه بنفسه واكتشف صفاته بنفسه أيضا وكيف اوجد منذ طفولته هدفا تفضيليا لعطائه المستقبلي إذ ورد في تلك الرسالة: ((يعتبرني الجميع غريبا، لغزا، لم يستطع أحدهم فك رموزه. لكِ أن تسمينني كيفما تشائين. ولكن، ثقي أن المشاعر النبيلة تملأ دائما كياني، وصدقي أنني سأبقى طول عمري نصيرا للخير.)).
هل كان غوغول غريبا حقا ولغزا يصعب فك رموزه كما يشير إلى ذلك بعض الباحثين الروس عن أدبه..؟ هل ظل على وعده لأمه بأن يبقى طول عمره نصيرا للخير..؟
الغالب أن وعده لامه ولنفسه ظل ممثلا لإيمانه ولتطلعاته إلى جعل حماسته الأدبية جزءا من ثقة قراء الأدب في روسيا وفي كل مكان بأدب نيكولاي غوغول الساخر الذي استطاع منذ نعومة أظفاره أن يجعل الشعب الروسي محدقا بأدبه البكر، الذي كانت كل حركة فيه وكل تعبير في سطوره وكل كلمة صادقة قادرة على التفاعل مع القارئ وإنهاض جدله، ليس فقط في المحافل والمنتديات، بل حتى في شوارع المدن الروسية حين أرهق غوغول أدبه بنصرة الخير والدفاع عن المظلومين في المجتمع القيصري الذين كانوا يعانون المهانة والإذلال تحت أقدام الطغاة من الحاكمين والبوليس وحتى من رجال الكنيسة.
منذ بداية نشاطه الأدبي أدرك غوغول أن تفكيره ونمط حياته اوجدا عنده انفصالا وقطيعة بينه والدولة بينه والسلطة فقد وعى أن السلطة عالم شرس غريب وانه لن يستطيع تجاوز هذه العلاقة إلا من خلال السخرية برجل الدولة الذي لا يجد سعادته في العالم بغير ظلم الناس وقد كتب ذات مرة يقول:(لقد رأيت أن العمل في هذا اليدان سيكون الأقرب إلى نفسي.. إن جور القضاء والتعاسة الكثيرة في عالمنا تمزق قلبي أكثر من أي شيء).
هنا نجد في كلماته البسيطة ارتباطا وثيقا بين القضاء والتعاسة، أي بين السلطة القيصرية والتعساء الذين هم فقراء أبناء الشعب.
مرت اليوم الذكرى المئوية الثانية على ولادة هذا الكاتب وهو يستحق المزيد من الدرس والتمحيص لكشف موهبته العظيمة في معرفة أمزجة الناس وأهوائهم، وخياراتهم الحرة، وقسرهم، واستغلالهم ومفاجأتهم في الحياة والمجتمع، وغرائزهم الدونية والإنسانية، وقدراتهم الكاريزمية وغيرها من الصفات المؤثرة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، على العلاقات الإنسانية وعلى تغيير النفوس الإنسانية وعلى المساهمة في تغيير العالم أيضا.
ولِدَ نيكولاي غوغول في 19 اذار سنة 1809 من أسرة متواضعة عاصرت عهد الإقطاع القيصري الذي كان يعصف بروسيا وقتئذ وقد كان لانحداره العائلي اثر كبير على رحلة حياته الادبية التي لم تستغرق طويلا لكنها فاجأت الساحة الأدبية الروسية ليس فقط بإنتاج غزير بل بالتنوع والتركيز والتعدد في الافكار وفي الاساليب التي حددت فيها تأثيرات انحداره العائلي على ظواهره الأدبية وعلاماتها الفارقة المتميزة بمكنونات التحديث والتجديد:
أولا: كان انحداره من أسرة أوكرانية عريقة ظهر أسمها في تاريخ روسيا الصغرى منذ القرن التاسع عشر مقترن بشخصية جد محارب هو (أوستاب غوغول) الذي قاد القوقاز في معاركهم ضد البولونيين وأدت إلى انضمام أوكرانيا إلى روسيا القيصرية. هذا ما دفع نيكولاي غوغول الى البحث في تقاطيع التاريخ الروسي وكشف الحقائق عنها في مسرحياته وقصصه.
ثانيا: تركت الثقافة البولونية أثرها على حياة الأسرة فاعتنقت الكاثوليكية وهذا ترك دورا في ثقافة غوغول نفسه.غير أنها ما لبثت أن عادت إلى الأرثوذكسية. وكان الجد الأسبق نيقولا غوغول راهبا وقد قدم التسلسل العائلي موضوعات هامة لغوغول كانت كفيلة بتوفير موضوعات شاملة لفتت نظره الى تعددية بحثه في العلاقة بين الميتافيزيقيا والواقع الاجتماعي المر. كان يسطر الكثير من الرسائل إلى أصدقائه وأمه يحدثهم عن همومه الشخصية. ومنها قوله: لقد تتبعت الإنسان من المهد إلى اللحد فلم أجد في ذلك ما يمنح السعادة.إن قلبي يتعذب حين أرى خطايا الناس. إنهم يتحدثون عن الفضيلة وعن الله ومع هذا لا يفعلون شيئا. أريد أن أساعدهم ولكن... قلائل لأولئك الذين يملكون من الذكاء المشرق ما يتيح لهم أن يتبينوا حقيقة كلماتي.
ثالثا: لم تكن مسيرة حياته الدراسية والتعليمية الأولى منتظمة برغم أن طفولته كانت متميزة بالحيوية والنشاط والرغبة بقراءة الكتب والتعلم منها فأرسله أبوه إلى المدرسة مع أخيه الأكبر وهو في سن العاشرة. مات أخوه. عاد وهو يعاني من مرض أضطره إلى الانقطاع عن الدراسة طوال السنة. وفي العام التالي أرسل إلى مدينة صغيرة تدعى بيجن حيث أتم فيها الدراستين الإعدادية والثانوية خلال سبعة أعوام. ولم يكن في سلوكه المدرسي ما يدل على موهبة سوى تفوقا ملحوظا في درس الديانة.
رابعا: لعبت الصدفة دورها في تنمية ثقافته حين تعرف خلال فترة دراسته في الثانوية
على احد أقارب أمه وهو النائب الثري تروتنشكي. والذي كانت لديه مكتبة كبيرة أتاحت لغوغول الفتى أن يجعل منها ومن مطالعة محتوياتها هوايته المفضلة. ولم تمض فترة حتى أصبح يتحدث عن موجة الشعر الحديث في ذلك الحين والتي يمثلها بوشكين وجوكونسكي وباتيوشكوف.
خامسا: شيء آخر ساعده وشجعه على التعاطي مع العمل الإبداعي هو نشوءه داخل ساحة منزلية ثقافية ساعدته في تبادل التأثير مع والده الذي كان مولعا بالمسرح والأدب، مما اوجد عنده منذ البداية مقدمة مشابهة، فربطته في الحال قرابة فكرية – فنية مع هذا النوع من الأبوة الراغبة أن يكون الابن غوغول فرعا منها ومن معانيها ومن حساسيتها. أراد الأب أن يربي أبنه على هذا العشق الذي يستمد عنفوانه من (الإحساس العالي بمسؤولية الحرف وعذابه) فأرسله إلى مدرسة " بولتافا " ثم إلى كلية الآداب في مدينة نيجين التي قضى بها نحو سبع سنوات ساعدته على قراءة روائع الأدب العالمي ونتاج السوق الثقافية الروسية آنئذ، وخلال هذه الفترة اشترك في تحرير المقالات لمجلة الكلية وإحياء الأنشطة الثقافية والمسرحية خصوصا لعبه لدور البطل في مسرحية " الجاهل " لفوغيزين. كان من سوء حظ غوغول أو ربما حسن حظه أنه نشر عمله الأدبي الأول الذي كان قصيدة أو أسئلة عن مصير الإنسان في مجلة " النحلة الشمالية " في مدينة بترسبورغ فقوبلت بالسخرية اللاذعة، الشيء الذي جعله يشتري نسخ القصيدة من المكتبات ويسلمها للنار كما سيفعل لاحقا قبيل مماته بأيام قليلة، غير أن هذا الحدث لم يكن إلا حافزا قويا يجعل حياة غوغول الأدبية (خلال عمره القصير البالغ ثلاثة وأربعين عاما) حافلة بالروائع التي هزت روسيا من أقصاها إلى أقصاها مؤكدة عمق موهبة هذا الكاتب وأصالته وحبه لوطنه. في خريف عام 1828م, رحل إلى بترسبورغ وأكتشف هنالك افتقار الأدب الروسي إلى الأجواء التي يمثلها الشعب الأوكراني في تقاليده وأساطيره وقصصه وأغانيه وفنونه.فنشر مخطوطة من الشعر القصصي باسم مستعار(ف ــ أفلوف) متوقعا أن تحدث ضجة. وفوجي بأنها لم تلق أي اهتمام وكتب عنها اثنان من النقاد المرموقين تحت عنوان: " متأدب ناشئ لا يجيد كتابة الشعر". وكانت صدمة عنيفة مست كبريائه في الصميم. فأستعاد جميع النسخ وحرقها.
هل كانت صدمة هذه السخرية الأولى التي واجهها غوغول من نقاده دافعا له إلى أن يكون هو أيضا كاتبا ساخرا..؟
هل أحدثت السخرية بقصائده تحولا مباشرا في عملية إبداعه إلى ترك نظم الشعر..؟ خاصة بعد ظهور كتابات نقدية ايجابية لباكورة قصصه " أمسيات قرب ضيعة ديكانكا " التي لاقت نجاحا كبيرا لكونها جسدت حالة مواءمة مبدعة بين العالمين الروسي والأوكراني، وتجلت فيها عمق معرفة الكاتب بالثقافة الأوكرانية الفلكلورية. وتفتحت موهبة غوغول على فن جديد يتمثل في السرد بلغة عذبة وبأسلوب يمزج بين " الفكاهية اللاذعة " و" الخيال الخصب ". هذه المجموعة من القصص – رفعت غوغول إلى مصاف كتاب روسيا الكبار حتى أن بوشكين نفسه أعرب عن إعجابه الشديد بها. ثم جاءت مسرحية "المفتش" لتعزز الأسلوب الساخر لدى الكاتب بعمق.
برغم أنني أجد إمكانية الفصل بين الغرضين من أسلوب السخرية ــ اقصد بذلك سخرية النقاد بقصائده الأولى وسخريته من الإقطاعية ــ لكنني لا استبعد احتمال امتلاك غوغول لناصية النقد الساخر، نوعاً وكماً، من خلال رؤيته الثاقبة في تحليل السخرية بـ" شعره " ليتحكم بـ" أدبه " اللاحق كله بنموذج ساخر رائع ومؤثر في المعالجة الاجتماعية.
يرد أمامي سؤال آخر: لماذا أحرق شعره بيديه حينما سخر النقد من شاعريته؟ هل أراد بذلك أن ينقطع عن الشعر وان يجد بديلا له كبداية لمرحلة كبرى في الكتابة القصصية والمسرحية. أظن أنه كان يبحث عن مقاصد معينة لتحديد هويته الأدبية. كان يبحث عن مسارات فكرية مجسدة بأسلوب خاص في إبداعه النثري لكي يتيح لقرائه ومحبيه النظرة النقدية للأوضاع القائمة في أيام الحكم القيصري بما فيها من صعوبات ومواجهات ومقارعات متضمنة ظلم العلاقة بين السلطة والشعب، بين الفرد والمؤسسة الاقطاعية والكنيسة. لا اشك أن لكل تغيرٍ أساليبه ومفاهيمه ودوافعه، وليس من المستبعد خضوع تجربة غوغول لها أيضا رغم انه كان يحب الشعر وشديد الإعجاب بالشاعر الروسي بوشكين الذي ارتبط معه بصداقة قوية مبنية على الثقة وعلى الاحترام برغم اختلاف نمط حياة كل منهما، إذ كان غوغول مستاء من حالة انغمار بوشكين في شرب الخمر ولعب القمار، معتقدا ان هذا الانغمار يؤثر بالضعف والهزال على نتاج الشاعر، لكن نصائحه لم تجد نفعا مع بوشكين الذي كان نجمه صاعدا في الساحة الأدبية الروسية إلى حدها الأقصى حتى بلوغها قرص الشمس.
أقيم أول عرض لـمسرحية " المفتش " عام 1836 في المسرح الإمبراطوري بمدينة سان بترسبورغ. وهي مسرحية ساخرة تتعرض بالنقد المتهكم للموظفين الفاسدين المعتاشين على الاختلاس والرشوة. وقد أسقطت المسرحية كثيرا من الأقنعة عن الوجوه الإقطاعية، فقد تعرضت للنقد اللاذع إلى حد أن السلطات منعت باقي اعمال غوغول من النشر لفترة طويلة فاضطر لمغادرة سان بترسبورغ متوجها إلى إيطاليا حيث قضى سنوات عديدة في منفاه.
في مسرحية "المفتش" يعري غوغول معاصريه ويكشف عن أعماق محيطه، فيصور العوالم الداخلية لموظفين شباب بسطاء تخيلوا أنفسهم أنهم عباقرة. في هذه المسرحية قدم غوغول مشاهد متحركة داخل المجتمع الروسي بتفاصيل غريبة وساخرة حين يصل شاب إلى مدينة روسية نائية قادما من سان بترسبورغ. تستقبله السلطات المحلية بوصفه " المفتش العام " إذ كانت تنتظر بالفعل قدوم مفتش كان يتوجب عليه أن يحل في المدينة.
يصبح هذا الشاب مرغوبا فيه لدرجة العبادة من بعض العائلات والمتسلطين. تفتح الأوساط المخملية أمامه الأبواب الموصدة على من سواه حتى يسمح له بمغازلة زوجة وابنة حاكم المدينة.
يستغل الشاب حماقة الإقطاعيين ووضاعة نفوس الموظفين الذين استقبلوه كمفتش. ولكن يرسل قبل سفره خطابا إلى صديق له يكشف فيه حمق أهل المدينة. وما أن يفتح مدير البريد الرسالة ويقرأ ما فيها حتى يذهب إلى حاكم المدينة وينذره بالفجيعة.
يأخذ الموظفون يتصارعون فيما بينهم بعد أن ينكشف أمر الشاب – المفتش – ويبدؤون بتبادل الاتهامات لكن القضية برمتها تحسم بشكل نهائي لدى دخول الخادم الذي يعلن أن المفتش المنتظر قد حل فعلا في المدينة..
هذه المسرحية تدور أحداثها حول " الفساد " الذي كان غائرا جدا في المجتمع الروسي والذي ينتج أسيادا وعبيدا تستلب منهم إنسانيتهم، وقد قدمت هذه المسرحية في أول عرض لها على خشبة المسرح الملكي في التاسع عشر من أبريل 1834، ويقال أن القيصر الذي تابع العرض هتف بعد انتهائه قائلا: الجميع ملومون وأنا أولهم!
أتيح لغوغول العمل كموظف حكومي براتب ضئيل. لكن هذه الوظيفة ساعدته على الصعود السريع وإثارة انتباه القصر الإمبراطوري حيث اعتنى به بعض رجالاته كما اعتنت به الإمبراطورة نفسها التي أعجبتها بعض كتاباته ومواهبه وهدوئه فساعدته بالتوسط لنقل وظيفته إلى (المعهد الوطني لدراسة التاريخ) حيث اغتنى بالكثير من المعارف إذ كان ميله للتاريخ قد أصبح عنده أكثر من ميله للفلسفة والنظريات والتجريدية الأدبية وقد وجد نفسه مع هذه الميول مرتبطا بالتاريخ الذي ساعده في ما بعد إلى استخدام بلاغياته وأحداثه في وضع القيم الأصيلة لآدابه وفنونه كلها. عموما يمكنني القول أن غوغول اوجد لنفسه قاعدة معرفية خاصة بفنونه، ملحا ًعلى استخدام أسلوب خاص يقوم على السخرية كسبيل لإدانة كل اعوجاج في العلاقات الاجتماعية. في عام 1832م نشر كتابه (سهرات الضيعة) فكان من " الأحداث الخارقة " في تاريخ الأدب الروسي وقد أعاد صدى هذا الكتاب تقديرا لغوغول في الأوساط الأدبية الروسية بما فيها وساط النقاد الكبار ثم تفاعلت وتداخلت أعماله اللاحقة في اتجاهات مختلفة لتحقق له نتيجتين ايجابيتين. الأولى: هي الشهرة السريعة بنطاق واسع، والثانية هي الاستقرار المالي.
غير أن هاتين النتيجتين لم تستطيعا تخليصه من حالة سأم تسربت إلى داخله من حياة روسيا المليئة بالتناقضات التي كان يعيشها هو شخصيا في هذه الفترة من تطوره ونجاحه فراح يفتش عن بيئة أخرى يحيا فيها بنوع من العزلة والبساطة متفرغا للكتابة التي يشعر بغزارة انطلاقها في أعماقه. كانت فترة صعبة ومعقدة في حياة غوغول وكان يسوده نوع من شعور انه ربما يتوقف عن العطاء لو استمر من دون تغيير " المكان " الذي يحيا فيه متجها بنوع خاص نحو اعتبار " تاريخ " التطور الإنساني معرفة ضرورية لا بد منها لتغيير حياته وصارت عنده رغبة لدراسة التاريخ وتدريسه.
وبدأ يشعر بالحنين إلى ذويه. فالشهرة والاستقرار المادي لم يبعثا في حياته إلا القليل من الطمأنينة. ولذلك عاش في تقشف وزهد. وبعد شعور من هذه المعاناة التي كان غوغول يدعوها بالكارثة في حياته التي يشعر بأنه أصبح عاجز عن العطاء. شرع في كتابة مجموعته القصصية الثانية (ميغورود). إلا أنه كان يعتبر التاريخ العام هو الشيء الأساسي وما عداه لا أهمية له. ولذلك صمم على تدريس التاريخ. فطلب من صديقه ماكسيموفيتش الذي يدرس علم النبات في جامعة موسكو أن يعمل على تعيينه مدرسا للتاريخ في جامعة كييف. فكان له ما أراد لأن شهرته طارت في الآفاق. وخريف 1834م ألقى أول محاضرة كانت مثارا للدهشة والإعجاب. لكن رغم بلاغته في الأداء وحرارة عباراته غير أن محاضراته التالية بدأت تفقد تأثيرها. ومع هذا دعا بوشكين إلى حضور إحدى محاضراته وكانت عن الخليفة المأمون وعصره فحاز على إعجاب بوشكين الذي وجد فيه معلما نموذجيا للتاريخ.ومع هذا فغوغول بدأ يسأم من مهمته ويتذرع بالمرض إلى أن علقت الجامعة محاضراته في نهاية عام 1835م. لكن خلال هذه الأعوام الثلاثة المضطربة من حياته (1832ـــ1835). أنجز عددا من القصص الرائعة كروايته (تاراس بولبا) و(زخارف عربية) و(ميغورود) و (اللوحة) و(المعطف).
كذلك فإن غوغول كان يرغب في أن يصبح ممثلا في المسارح الإمبراطورية ربما تحت توجيه من والده وقدم فحصا عام 1830م رسب فيه دون أن ينبئ أحدا.ولكي يثبت جدارته كاتبا كوميديا فأنه أتجه فورا إلى كتابة المسرحيات مثل (سان فلادمير) و(الخاطبون) والتي حور فيها بعض المشاهد ودعاها(الزيجات). وأرسلها إلى بوشكين عام 1833 ليبدي رأيه فيها فأعادها إليه في خريف 1835م مع توصية بتمثيلها. وبسبب تسلط الرقابة على المسرح فلم يتمكن من عرضها إلا في 19/4/1836 وبعد تدخل من القيصر الذي حضرها وأوصى جميع وزرائه بضرورة مشاهدتها. ثم سافر إلى ألمانيا وسويسرا وباريس و روما. وفي روما تلقى النبأ الفاجع بموت بوشكين في مبارزة. وفي خريف عام 1841 غادر روما إلى موسكو وهو يحمل الجزء الأول من مخطوطته (النفوس الميتة) والتي بقيت رهينة أجهزة الرقابة حتى 21/5/1842 لكنه أنجز رواية (النفوس الميتة) كاملة في أوائل عام 1850.
(الوقوف إلى جانب الخير نصيرا له). هذا هو مبدأ من المبادئ الأساسية التي آمن بها والتزم بها، قولا وفعلا، نيكولاي غوغول و حفزته إلى التفكير جديا بممارسة مهنة" المحامي " للدفاع عن المظلومين واستعادة حقوقهم المغتصبة أيضا خاصة وأنه انشغل بفكرة العمل في مجال القضاء والتشريع.
كتب غوغول ذات مرة يقول: لقد رأيت أن العمل في الميدان الحقوقي سيكون الأقرب إلى نفسي.. إن جور القضاء والتعاسة الكثيرة في عالمنا تمزق قلبي أكثر من أي شيء.
لكن غوغول لم يستطع مزاولة أي نشاط في هذا المجال، فما أن أنهى المدرسة حتى أصبح يشتغل موظفا في مدينة سان بترسبورغ فقد انغمس في مهنة التعليم حيث عمل مدرسا في معاهد المدينة ثم في جامعتها حتى خاب أمله في ممارسة إي نوع من الخدمة في مؤسسات الدولة.
بمعنى ان كل الوظائف والاهتمامات الأخرى تضاءلت في أعماق غوغول حين وجد نفسه ان قلمه وعقله قادران على الوفاء بكل التزاماته لنصرة الخير والدفاع عن المظلومين من خلال ممارسة مهنة الأدب وخاصة مع بدء حيازة كتاباته الأولى على اهتمام كبير في الأوساط الثقافية الأدبية.
كان غوغول يمتلك موهبة البحث الدائم عن وسائل أدبية أرقى كي يستطيع بها المرور في غابات النظام الإقطاعي والدولة الفاسدة وكشف معاناة الناس فيها لتحقيق هدفه في نسف الفساد في الواقع وفي الدعوة إلى تغييره من خلال أعماله القصصية والروائية والمسرحية، التي لا تغيب عنها محاولاته في تجديد أساليب ومناهج تصوير وتحليل الواقع الاجتماعي مبتعدا عن الرومانسية التي كانت سائدة آنذاك في الأدب الروسي. استطاع خلافا لمعاصريه من الكتاب أن يكتب عن " الحياة المعاصرة " ويجعل من بسطاء عصره ومن الفقراء المعدمين أبطالا.
هذا ما نراه جليا في قصته "المعطف"، وتحديدا في شخصية بطلها أكاكي أكاكييفيتش. وأثرت قصة المعطف أساليب القص الفني في الأدب الروسي والعالمي وأثرت فيه إلى حد أن دستويفسكي اعاد القول عنها: حقا إننا خرجنا جميعا من "معطف" غوغول..
المعطف ليست مجرد قصة فيها اشتقاقات اجتماعية متشعبة مضمرة في مجتمع روسيا في تلك الأيام، بل هي خلاصة تجربة إبداعية مهمة في دعوة القراء والمشاهدين إلى تأويل عناصرها وأبعادها مستخدما قياسات فنية – فكرية عالية المستوى حين تبدأ القصة بأن صديق أكاكي أكاكييفيتش ينصحه بشراء معطف لأن منظره بمعطفه الباهت غير لائق. وأكاكي أكاكييفيتش عجوز وحيد لا تجد السعادة في بيته وحياته مكانا لها. يفكر أكاكي أكاكييفيتش في خياطة المعطف الجديد بضعة أشهر. أخيرا يشتري قماشا لخياطة المعطف ويصبح انتظار خروج المعطف من آلة الخياطة بالنسبة إليه سعادة كبيرة لا توصف. حين خرج المعطف، وخرج أكاكي أكاكييفيتش إلى عمله بالمعطف الجديد وبدأ زملاؤه يمدحون المعطف، غمرته السعادة، وأصبحت للحياة نكهة جديدة لم يعهدها.
تملأ السعادة نفس أكاكي أكاكييفيتش حين يدعوه رئيسه إلى بيته للاحتفال بالمعطف الجديد. لكن سعادة الرجل تقتل على أيدي سارقين تعرضوا له في الطريق واغتصبوا منه معطفه الجديد.
بعد إلحاح على رؤسائه ورجال البوليس من أجل استرجاع المعطف الجديد المسروق، وبعد أن تيقن أكاكي أكاكييفيتش أنهم لن يرجعوا إليه سعادته (أي معطفه المسروق) فهم من هذه الواقعة أن المعطف لم يعد لازما وأنه أصبح مدعاة للسخرية، ولم تستطع روحه تحمل هذه الإهانات فمات..
أصبحت قصة "المعطف" مثالا فنيا كشف أيضا عن سر ولغز شخصية غوغول الإبداعية التي أذهلت القارئ بروحها الإنسانية وتعاطفها الحاد مع هموم الإنسان البسيط الكادح ومحنه. لكن روايته الخالدة "النفوس الميتة" عززت هذه اللغزية، مما دفع الناقد غيرتسين للقول: "لقد زلزلت رواية " النفوس الميتة " روسيا كلها. وقد اقترح بوشكين على صديقه غوغول فكرة كتابة هذه الرواية لكن لغز جزئها الثاني مات مع الكاتب الذي رحل في الرابع من آذار (مارس) عام 1852. فقد أحرق غوغول مخطوطته عام 1845 لعدم رضاه عنه وبتأثير من أحد رجال الدين.
استمر غوغول في معظم أعماله بتوجيه النقد الساخر إلى كل ظواهر المجتمع الإقطاعي – القيصري كاشفا بصورة عميقة أسباب وظواهر الفساد والاستبداد المنتشرة في المجتمع الروسي الواسع الأرجاء وقد قال عن روايته " النفوس الميتة ": ربما أكون قد أغضبت بعض من يدعون الوطنية، الذين يقبعون قرب النار مهتمين بأعمالهم الصغيرة التافهة ويزيدون ثرواتهم، ويبنون سعادتهم على حساب الآخرين، ولكن ما إن يقع حدث يسيء في رأيهم إلى الوطن وما إن يصدر كتاب يعرض لحقائق قاسية حتى يهتزوا ويجن جنونهم كالعناكب حين ترى ذبابة عالقة بخيوطها ويصيحون: ما الفائدة من كشف هذه الأمور؟ إن هذا كله يتعلق بنا فقط.. وماذا سيقول الأجانب؟ إنهم سيكونون رأيا سيئا عنا.. يا للمصيبة! لقد انعدمت الوطنية..!
نجد من خلال وفاة غوغول عام 1852 مقدار الطبيعة الحاقدة لصحافة النظام الإقطاعي القيصري على هذه العبقرية الروسية الفذة فعندما مات هذا المبدع لم يسمح لأي صحيفة بنشر نبأ وفاته وهذه هي قمة الجحود والإقصاء إلا أن تورغنيف أبى أن يمتثل لهذا الأمر السخيف فقال:
مات غوغول
أي نفس روسية لا تحضرها هاتان الكلمتان.
غير أن هذه الكلمات العميقة لم تمر دون موقف متصل بالحقد إذ سرعان ما هوجم تورجنيف بالمخلفات الفكرية الرجعية للنظام القيصري وقادته هذه المهاجمة إلى المنفى ليجازى بمعاناة شديدة لأنه نشر نبأ موت غوغول، وبالرغم من ذلك فقد كانت روح غوغول الساخرة مرفرفة باستمرار في جميع الأنحاء الروسية بل في العالم أجمعه لما تنطوي عليه كتاباته من حس فني في التصوير وإبداع كاريكاتوري في التهكم الأسود من خبث الواقع وخذلانه، مات غوغول فعلا ولكن " لمفتش " و " النفوس الميتة " ستظلان وإلى الأبد نموذجا مثاليا لتعرية الفساد ومقاومته.. هذا الفساد الذي يهتف الجميع بضرورة استئصال جذوره!!
أما اليوم 2 – 4 – 2009 فان روسيا كلها تمجد غوغول وتعيده إلى واجهة الثقافة الروسية من جديد عبر إنتاج فلم تاريخي ضخم عن مأخوذ عن رائعته "تاراس بولبا" للمخرجِ الروسي الشهير فلاديمير بورتكو. وتـُـعدُ هذه التجربة تحـدّياً بكل المقاييس لهذا المخرج المخضرم في التصدي لواحدة من أشهر إبداعات الكاتب نيقولاي غوغول الذي يـُعد قمةً في الأدب الروسي.
بعد ثلاثِ سنوات من العمل المتواصل، وبمشاركةِ ألف ممثل، بينَهم نجومٌ من السينما الروسية، حيثُ سُخر لهم أكثرَ من ألفي زي تاريخي، أُنجز أخيرا فيلم " تاراس بولبا ". هذه تحكي القصة عن فترةٍ صعبة من تاريخ شعب القوزاق حين هبَ أبناؤه للتصدي لهجمةِ النبلاء البولنديين. ومن قلب الصراع ظهرت عائلة القوزاقي "تاراس بولبا" لتسطـُر فصولَ الملحمة،ولكن ليس بمعزلٍ عن الرياحِ الدرامية التي ستعصِف بأفراد هذه العائلة. إذ يقع الإبن الأصغر أندريه في غرام أميرةٍ من الأعداء فينتقل إلى صفوفِهم، فيما يَعدِم العدو الابن الأكبر أوستاب، وهو المصير نفسُه الذي يقع فيه الأب تاراس بولبا ولكن مرفوعَ الهامة.
اختم مقالتي بالقول: إن مسار أدب غوغول يعلم الأجيال كلها، وفي العالم كله، أن تمارين الكتابة الإبداعية يجب توجيهها ضد الفساد والفاسدين الرجعيين والخرافيين المتسلطين على رقاب الناس الفقراء لأن مثل هذه التمارين تملك قوة سحرية تحرك المجتمع وأبنائه، خاصة إذا كان الكاتب مثل غوغول تلميذا مخلصا بروح التواضع التام حين كشف نفسه في رسالة كتبها إلى الشاعر جوكونسكي: إن ما تتميز به أعمالي عن آثار الكتاب الآخرين هو أن الجميع يستطيعون أن يحكموا عليها، جميع القراء دون استثناء، ذلك أن هدفي من هذه الأعمال حياة جميع الأنام وجميع الناس. ما من شيء عندي أثمن من معرفة أخطائي ومظاهر ضعفي. بذلك يصبح الإنسان متفوقا على نفسه.