ثلاث نساء طويلات   مرثية ادوارد البي في ذكرى الحاضر

ثلاث نساء طويلات مرثية ادوارد البي في ذكرى الحاضر

على كامل
بعد فترة صمت عن الكتابة استغرقت عقد من الزمن ظن الكثيرون أن الكاتب المسرحي الأمريكي أدوارد ألبي قد أسلم قدره لشيخوخة الذاكرة ونضب المخيلة، لكنه فاجىء الجميع حين دخل قاعة مسرح Vienna's English في برودواي معانقاً المنتج والمخرج الأمريكي فرانز شافرانيك حاملاً في حقيبته ثمرة ذلك الصمت وكانت مسرحيته المدهشة «ثلاث نساء طويلات» التي تولى إخراجها بنفسه على ذات المسرح عام ١٩٩١

وكانت لها صدىً مدّو انتقل آنذاك كالبرق إلى مسارح نيويورك حيث باشر المخرج لورنس ساكارو في إخراج النص على خشبة مسرح ريفير أرتس ريبيرتوري وكانت المحصلة نيل النص على جائزة بولتزر للدراما عام ١٩٩٤ وبه يكون ألبي قد نال تلك الجائزة للمرة الرابعة. أما الثلاث السابقة فقد منحت لمسرحياته التالية:«الميزان الدقيق" ١٩٦٦ و «مشهد البحر» ١٩٧٥ و«امرأة من دابوكي» ١٩٨٠.

شهدت مسرحية "ثلاث نساء طويلات" عرضها الأول في لندن في العام الماضي على خشبة مسرح ويندام وحاز مخرجها أنتوني بيج جائزة لورنس أوليفيه كأفضل مخرج لذلك العام إلى جانب فوز الممثلة ماغي سميث بجائزة إفينينك ستاندرد للدراما كأفضل ممثلة لنفس العام عن دورها الرئيسي في العرض.
حالياً يعاد عرض المسرحية ثانية على نفس المسرح وتحل الممثلة ساره كاستيلمان وسامانثا بوند بدلاً من الممثلتين فرانسيس دي لاتور وأناستاسيا هيل فيما يُبقي المخرج بيج على ماغي سميث والممثل جوم إيرلند للعب دوريهما في العرض السابق.
المسرحية هي بمثابة أوتوبيوغرافيا يرصد ويتأمل فيها الكاتب سيرة حياة والدته بالتبني عبر ثلاث نسوة بأعمار مختلفة يجسدن ثلاث مراحل زمنية من حياة امرأة واحدة، بالتوازي مع حياة شاب أخرس هو على صلة وثيقة بتلك المرأة.
الشيخوخة والضعف البشري يصورهما ألبي هنا بعمق وفطنة بعيداً عن العاطفة، مُدخلاً بُعداً آخر لموضوع الصفح والتسوية لم نشهده من قبل في مرحلته المبكرة.
إن قارىء ألبي أو المتتبع لسيرة حياته يدرك تماماً العلاقة العدائية بينه وبين أمه بالتبني، تلك الصلة التي دفعت الصبي ألبي يوما إلى مغادرة ذلك المنزل ليواجه العالم وحيدا جائعا ومشرداً. يومها أدرك أن القرين الأكبر لذلك المنزل يتجسد بأميركا، حينها توسعت الدائرة وخرجت عن دلالاتها العائلية الضيقة لتدخل فضاء أوسع وأشمل طال تلك الرؤى والمواقف الفلسفية والسياسية للكاتب ازاء الوجود والمجتمع. فالمتبنى اتخذ صفة المواطن الأمريكي عموماً، والمتبني أصبحت أميركا، ويمكن أن نجد بوضوح مقاربة مثل هذه في مسرحياته الثلاث "قصة حديقة الحيوان" و "صندوق الرمل" و "الحلم الأمريكي".
في مسرحيته "ثلاث نسوة طويلات" يرسم ألبي صورة الشيخ، والده، بعين الصبي المتبنى بعد أن كبر وفقد رجاؤه العزيز في تحقيق مدينته الفاضلة فراح يستعرض ملامح تلك الصورة عبر سيرة والدته منطلقاً من نقطة التلاشي، أعني شيخوختها، متقهقراً صوب سنوات العنفوان والقوة متمثلة في مراهقتها وبلوغها، ولكن بتؤدة وأنفاس ثقيلة.
الشيخوخة هنا أشبه بالسجن أو في أحسن الأحوال مثل مطهر، والسيدة A (٩٠ عاماً) يضعها الكاتب في قفص اتهام لتعترف بكل ذنوبها وذنوب الآخرين كذلك أمام محكمة المنطق لتصبح تلك الاعترافات أشبه بعقاب ذاتي ولو بعد فوات الأوان. السؤال المحّير هنا، ترى، هل
بالإمكان أن يستيقظ هاجس الثأر عند ألبي بعد عقدين على وفاة والدته؟
في مقدمة النص كتب ألبي يقول:" أنا أعرف موضوعي جيداً. إنه عن والدتي التي تبنتني منذ الصغر، والتي أعرفها حق المعرفة منذ طفولتي وحتى لحظة وفاتها. لقد استطعنا نحن الإثنان أن نجعل من بعضنا البعض أناسا غير سعداء طوال تلك السنين، إلا إنني تجاوزت كل شيء ونسيت فيما بعد، على الرغم من ظني أنها لم تفعل ذلك. لم أكن أضمر لها أية ضغينة. صحيح أنني لم أكن أحبها كثيراً، ولم أستطع تحمل إجحافها نحوي واشمئزازها مني، أو ذلك الشعور الذي كان يهيمن عليها، أعني شعورها بجنون الاضطهاد. لكني مع ذلك كنت معجباً بزهّوها بنفسها وإحساسها القوي بشخصيتها.
حين بلغتْ التسعين من عمرها، بدأت تنهار جسدياً وعقلياً، يومها فقط أحسست بمغزى الوجود، حين رأيتها أشبه بغريق يتشبث بحطام سفينة رافضاً الموت.
كلا، إنها ليست مسرحية ثأر، وأنا لست مولعاً بالوفاق مع مشاعري الخاصة ضدها لأنني حين صممت على كتابة هذه المسرحية كنت مدركاً تماماً بالشيء الذي أريد إنجازه على الورق. ما كتبته هو أنني رسمت شخصية أدبية تشبه في كل شيء شخصاً أعرفه، ولذا فإنني حين حولت الحادثة الأصلية إلى حادثة أدبية كنت أرنو إليها بعين موضوعية، لكنها بعيدة عن التأويل.
أخيراً، حين انطلقت في رسم شخصية الجّدة في مسرحية "الحلم الأمريكي" و "صندوق الرمل" من سيرة حياة جدتي بالتبني، والتي كانت تربطنا علاقة قربى حميمة وسط أفراد العائلة، فإنني كنت قد خلقت شخصية مضحكة ورائعة في نفس الوقت، ولم تكن مجرد موديل.
والآن، هل إنني فعلت الشيء نفسه هنا؟ هل إن السيدة A هي إنسانة متعددة الوجوه مقارنة بالأصل؟ قليل من الناس ممن كانوا يلتقونها في العشرين سنة الماضية استطاعوا تحملها، ولكن العديد من الناس الذين شاهدوا عرض المسرحية وجدوا فيها شخصية رائعة. يا إلهي، ماهذا الذي فعلته!؟".
اعتمدت المسرحية على عنصرين هما "الشخصية" و "اللغة". أما الحدث والحبكة فهما عنصران ثانويان. الفصل الأول ارتكز على تداعيات السيدة A، أما الفصل الثاني، فقد اترتكز على ذاكرة المؤلف الذي عمد إلى شطر الشخصية الأساسية إلى ثلاث شخصيات، وأعاد لنا ذات التداعيات التي شهدناها في الفصل الأول، ولكنها منتظمة ومنطقية قياساً بتلك التي في الفصل الأول، فقد كانت مفككة، مشوشة وغير مترابطة لأنها كانت تتدفق من ذاكرة منخورة خرفة وهكذا يصبح الفصل الثاني هو بمثابة تصويب ومؤشر قياس لقوة الذاكرة.
أما العنصر الثاني وأعني به اللغة، فيمكن اعتباره العنصر الجوهري لبنية المسرحية وهي لغة إيحائية ومجازية أدواتها الجمل الناقصة والصمت والوقفات والتكرار، وكلها تفضي إلى فضاء فانتازي يسوده اللامعقول.
جل محتوى تلك التداعيات هو عبارة عن عرض لمسيرة السيدة A في فترة مراهقتها وبلوغها وغوص عميق لبعث صور الماضي وهي تستعاد بألوان مختلطة ومشوشة تتوزع بين الحرمان والكبت الجنسي والإجتماعي، وبين بضع ومضات سعيدة لكنها خاطفة وعابرة تنطفىء بتأثير ذكوري أبوياً كان أم زوجياً.
المخرج بيج عالج النص بأسلوب واقعي ذو نكهة سيكولوجية مفككاً الشخصية كما لو أنه يقوم بتحليل نموذج مصغر لتكوين الذاكرة الخرفة. فسيل تداعيات السيدة A (الممثلة ماغي سميث) لابد أن يتوقف تدفقها لغرض تفحص طبيعة المعلومات الواردة فيها وإرجاعها إلى منطق السبب والنتيجة. وهذا الدور موكل إلى المرأة B والفتاة C اللتان تُخضعان السيدة A وربما بشيء من العنف والقسوة، إلى نوع من الاستجوابات العسيرة والدقيقة التي منشأنها أن تفاقم شدة إحساسها بجنون الإضطهاد، معيدة إياها إلى الحاضر الذي تود الزوغان منه لأنه يضعها في مواجهة مع حقيقتها كإمرأة كهلة ومعلولة، ويعيد لها أيضاً صورة الآخرين الذين هم بمثابة رسل لموت بالنسبة لها.
السيدة A لايمكنها أن تطيق الحاضر لذا فإن عملية وقف تلك التداعيات يعني الحكم عليها بالموت. وبالفعل فهي تموت بالسكتة الدماغية في نهاية الفصل الأول ومعها ينتهي الاختبار الأول.
يبدأ الاختبار الثاني في الفصل الثاني والمكان لايزال ذات المكان. غرفة نوم بسرير واحد تستلقي عليه السيدة A "يستبدل ضع المخرج الجثة الحقيقية بدمية شبيهة بالسيدة". أما السيدة A، أعني الممثلة ماغي سميث فإنها تظهر ثانية وهي تضع على وجهها قناعا أشبه بأقنعة الغوص وتستأنف دورها الأول، أي دور السيدة العجوز A وهي إلى جانب الفتاة C التي تلعب دور السيدة A في مراهقتها، فيما تجسد المرأة B فترة بلوغها. (تلعب الدوران الممثلتان ساره كاستيلمان وسامانثا بوند).
نحن الآن أمام عرض مسرحي مرّكب تلعب فيه الشخصيات الثلاث أدوارها بطريقة تغريبية وهي تستعد لإجراء الاختبار الثاني. أما المتفرج الوحيد الذي سيشهد هذا العرض فهو الشاب الأخرس الذي يصل متأخراً لزيارة والدته ويجلس مقرفصاً قرب الدمية المستلقية على الفراش وعيناه تتطلعان نحو المشهد الذي يجري أمامه.
في هذا المشهد تحاول A و B إخضاع الفتاة C (السيدة A في مراهقتها) إلى نوع من الإقرار بالشيخوخة وشاهدهن الوحيد هو الدمية، رمز الموت. إلا أن C ترفض ذلك وتطلب منا نحن المتفرجين أن لانصدقهما.!
في هذا الفصل تشرع الأبواب المغلقة بين الشخصيات الثلاث ومعها ينفتح جدلاً صريحاً ولاذعاً. إنه جدل الذات الواحدة وهي منشطرة إلى ثلاث شخصيات، تنفصل وتتحد في كل لحظة، بل تبدأ بتبادل الأدوار.
الجدل هنا متخم بالمشاحنات والإدانات، بالقبول والرفض، لدرجة يصعب معها التمييز بين المواقف، أو لنقل تغيم الحدود تماماً بين الشخصيات الثلاث ويصبحن كما لو أنهن شخصية واحدة بوجوه ثلاثة.
الكاتب والمخرج على حد سواء يضعاننا ونحن نقترب من نهاية العرض، أمام سؤال محيّر يصعب حله وهو: ما الذي يجري؟ والإجابة بالطبع غامضة وملغزة دائماً عند ألبي لأن المؤلف لا يطالب المتفرج بأن يبدد تفكيره بهذا السؤال التقليدي، بل يطالبه فقط بأن يتحسس الحالة التي تجري أمامه، عندئذ ستبدأ العدوى فعلها لتنتقل معاناة الشخصية إلى المتفرج. وحين يتحقق ذلك يكون العرض قد أنجز وظيفته بأكمل وجه.
ومع ذلك فأدوارد ألبي وفي معظم مسرحياته يرجىء خطابه حتى اللحظة الأخيرة وقبيل سدول الستارة، إلا إن ذلك الخطاب يتطلب من المتفرج استعادة العرض كله من جديد. أما المتفرج الذي استطاعت أحاسيس الشخصية ملامسة عقله وروحه فهو ليس بحاجة إلى كل ذلك الجهد على حد قول ألبي نفسه.
في المقطع الأخير من العرض يتهادى إلينا صوت الكاتب مثل موجة متعبة على لسان بطلته وقد استعادت عافيتها من جديد بعد الاختبار الثاني. صوتاً رزيناً حكيماً وهو يجمّل الموت ويسّلم بحقيقة أن القامات الطويلة لابد أن تتقوس وتتكور وتنحني يوماً لتدخل نفق الشيخوخة المؤدي إلى الضفة الأخرى.