محمد مبارك... محاضرة على العشاء

محمد مبارك... محاضرة على العشاء

عبدالرزاق الربيعي
حين سمعت خبر رحيل الناقد والمفكر محمد مبارك تذكرت العديد من التفاصيل التي جمعتني بهذا الناقد والمفكر والباحث والإنسان العذب ومن هذه التفاصيل زيارة له قام بها لعمّان عام 1994 بدعوة من مؤسسة شومان لالقاء محاضرة لا يحضرني موضوعها الان , لكنني أذكر تماما كيف كان يضع أوراق المحاضرة بعناية ويراجعها بين حين وآخر ,وكأنه تلميذ ييتهيأ لإمتحان عسير ,

رغم تجربته الطويلة مع الحياة الثقافية التي أفرزت عن العديد من الإصدارات والمقالات والمشاركات في ندوات محلية وعربية فضلا عن تبوئه العديد من المواقع الوظيفية لكنه كان دقيقا مع نفسه وتاريخه الطويل لذا كان حريصا على ان يبدو بحثه بأفضل حالاته من خلال المراجعة والفحص!!
وأذكر كيف إنتفض من بيننا فجأة!! ونحن نتناول وجبة العشاء وأسرع الى ملف محاضرته ,وفتحه ثم جلس على حافة السرير ونحن كنا جلوسا على الأرض وقال ولو أثقل عليكم قليلا أتمنى أن تصغوا لي لألقي عليكم المحاضرة كنوع من التمرين «
قلت لمبارك الناقد اللامع والمفكر والأديب:وهل تحتاج الى تمرين؟
قال: ليطمئن قلبي
وراح يلقي المحاضرة وكأنه يقف قبالة جمهور كبير حتى التعليقات الجانبية والشروحات والهوامش كان يحرص على الإشارة اليها
وكان بين حين وآخر يصمت ويقول: تحملوني , لم يبق من المحاضرة سوى بضع صفحات!!!
هذا الموقف بقي عالقا في ذاكرتي عن هذا الرجل الذي بدأ حياته يساريا وله صولات وجولات في الوسط الثقافي العراقي وقد عرفته الصفحات الثقافية العراقية منذ خمسينيات القرن الماضي ناقدا لامعا وكان يدعو في طروحاته الى الحوار وقبول الرأي الآخر وكان يبني آراءه على الوقائع والمشاهدات شانه شأن الراحل مدني صالح , وبهذا الصدد أذكر اننا ذات يوم كنا نسير معا في شارع الجاردنز في عمّان وكان يحدثني بحماس حول التعددية الحزبية وضرورة سقوط هيمنة الحزب الواحد مستشهدا بالكثير من المقولات التي تؤيد رأيه حتى كاد الشارع أن ينتهي بنا وأمتد نظري بعيدا فرأيت فتاة جميلة ترتدي الشورت وكانت تتحدث الى رفيقتها التي كانت ترتدي النقاب فاستفزني المشهد فقاطعته وقلت له:أنظر الى هذا المشهد!! فالقى نظره على الفتاتين ثم قال: لماذا تستغرب!! هذا مثال واقعي حول التعددية!!!
وهكذا أثارت كتاباته من مقالات وبحوث وأعمدة أسبوعية الكثير من النقاشات في الادب والفكر وعلم الإجتماع والفلسفة و الكتب والدراسات التي نشرها وهاهو قلبه الطيب يتوقف عن النبض لتنطفيء شعلة الحياة في هذا الجسد الذي كان يمنح المكان الذي يحل به طاقة كبيرة من الحراك والجدل والحضور اللافت.