ثروات الأمم» لآدم سميث:  الاقتصاد شيء والأخلاق شيء آخر

ثروات الأمم» لآدم سميث: الاقتصاد شيء والأخلاق شيء آخر

ابراهيم العريس
من غير الممكن، طبعاً، أي باحث أو قارئ أن يتناول المصادر الفكرية التي انطلق منها المفكّر الاقتصادي كارل ماركس، قبل أن يغوص في الأيديولوجيا والنضال السياسي والحزبي، ليبني أسس نظريته الاقتصادية، في معظم كتب مرحلته الأولى، وصولاً حتى إلى كتابه الأشهر والأهم «رأس المال»، من غير الممكن له ألا يعثر على اسم آدم سميث - إلى جانب اسم ريكاردو - بصفته واحداً من المراجع الأساسية التي اعتمد عليها ماركس في البنيان الاقتصادي لمشروعه.

وثمة من بين المفكرين من يرى أنه لولا كتابات آدم سميث، لا سيما كتابه بأجزائه الخمسة «ثروات الأمم» لما كان في إمكان صاحب «رأس المال» أن يصل إلى تحديد واقعي ومعمّق لدور الاقتصاد في حياة البشر والأمم. ما يعني بالنسبة إلى هؤلاء أن كتابات سميث، أكثر من أية كتابات أخرى، تشكل الخلفية النظرية للنظرية الماركسية، في المجال الاقتصادي على الأقل.

وعلى رغم هذا التأكيد، قد لا يكون من الصعب اكتشاف شتى أنواع التناقض بين ما يذهب إليه سميث، وما ذهب إليه ماركس من بعده بنحو قرن من الزمن. غير أن دراسة معمّقة ومقارنة لأعمال المفكرين معاً ستؤكد لنا أن هذا التناقض لا يمكن إلا أن يكون شكلياً، لا سيما بالنسبة إلى من يجد في «رأس المال» تفسيراً للواقع الاقتصادي كما كان سائداً منذ قرون وحتى زمن كتابته، لا نظرية ثورية أو دوغمائية تبني للمستقبل، من النوع الذي تبنته الأحزاب الشيوعية طوال القرن العشرين وقبله محوّلة ماركس من مفكّر اقتصادي كبير إلى مناضل أيديولوجي. إذاً، في هذا الإطار فقط يمكن فهم الذين يرون في ماركس مؤرخاً للاقتصاد، أكثر منه صاحب برنامج عمل ثوري، لا سيما في كتاباته الاقتصادية الأساسية على الأقل. ما يجعله هنا مكملاً لآدم سميث وكذلك لريكاردو.
> يبني سميث نظريته الأساسية، في الأجزاء الخمسة لكتابه «ثروات الأمم»، انطلاقاً من تأكيدين في غاية البساطة، يقول في أولهما إننا لا نعيش في المجتمع بفضل كرم الجزّار أو الخبّاز، حتى وإن كان هذان - وغيرهما - يوفران لنا الطعام الذي نقتاته ويمكّننا من العيش، بل إننا نعيش بفضل نظرة هذين إلى مصالحهما الخاصة، تماماً كما أننا نحن بدورنا لا نقدّم «الخدمات» التي توفرها مهننا للآخرين إلا بالنظر إلى مصالحنا المرتجاة من تلك الخدمات سواء كانت مادية أو غير ذلك، علماً أنه تكون في الغالبية العظمى من الحالات، مصالح مادية. فنحن، يقول سميث، عندما نسعى إلى الحصول على خدمات الجزّار والخبّاز وغيرهما من أصحاب المصالح والمهن، كما عندما نقدّم خدماتنا إلى الآخرين، لا نتوجه إلى ما لديهم من حس إنساني، بل إلى إدراكهم مصالحهم الشخصية. وبالتالي، فإننا حين نسعى للحصول على إنتاجهم، لا نخاطبهم انطلاقاً من رغبتنا في أن يتفهموا حاجاتنا، بل انطلاقاً من توجهنا إلى مصالحهم الشخصية. ووحده الشحاذ يمكنه أن يعتمد في عيشه على كرم الآخرين... أما التأكيد الثاني فهو ذاك الذي يقول إن الفرد «في سعيه إلى تحقيق مصالحه الخاصة، غالباً ما يحقق مصالح الجماعة في شكل أكثر فاعلية ما يمكنه أن يفعل حين يعمل باسم المصلحة العامة. وأنا - والمتكلم هنا هو بالطبع، آدم سميث - لم أصادف في حياتي أي عمل خيري من لدن أولئك الذين لا يكفون عن الإعلان بأنهم إنما يعلمون من أجل المصلحة العامة».
> والحقيقة أن آدم سميث احتاج، من أجل شرح هاتين الفكرتين اللتين تبدوان بسيطتين شكلياً، إلى وضع ذلك المؤلف الضخم والأساسي الذي عرف اختصاراً، باسم «ثروات الأمم» علماً أن اسمه الكامل هو «بحوث حول طبيعة ثروات الأمم ومسبباتها». وسميث وضع مؤلفه هذا ونشره في لندن عام 1776، في أكثر من ألف صفحة. وهو، إذ ينطلق فيه من تلك التمهيدات التي ذكرنا، إضافة إلى محاولته الذاتية لإعطاء الاقتصاد - والتاريخ الاقتصادي بالتالي - استقلاليته، من دون أن يزعم أنه يجب أن يكون ثمة فصل تام، على أية حال، بين الاقتصاد والأخلاق - مع أنه يؤكد مراراً وتكراراً في الكتاب أن الاقتصاد شيء والأخلاق شيء آخر تماماً - يبني منظومته الفكرية التي يتجاوز فيها، أساساً، نظريات أصحاب النزعة الطبيعية - الفيزيوقراطيين - في الاقتصاد. فإذ يرى هؤلاء أن الأرض هي أم الاقتصاد، يرى سميث أن العمل هو الأصل. كما يرى أن الأساسي في العمل هو تقسيم العمل، حيث إن الإنتاجية المتزايدة في المجتمعات الحديثة (في زمن آدم سميث) ترتكز أساساً على تقسيم العمل، أي على تقسيم سيرورة إنتاج سلعة ما إلى مراحل عدة يتولى كل منها عامل مختلف عن الذي قبله. من هنا، فإن منظومة تقسيم العمل تقوم على أساس المبادلة (واحد ينتج قبعات، والآخر أحذية، والثالث خبزاً) ويرى سميث أن هذه المبادلة (التبادل) تؤدي إلى ولادة النقود وانتشارها. وبالنقود يمكن كل واحد أن يحصل على ما هو في حاجة إليه. وهنا، إذ يفرّق سميث بين «القيمة الاستعمالية» للسلعة، وبين «قيمتها التبادلية»، إنما يكون قد رسم الخلفية التي بناء عليها سيتحدث ماركس عن «فائض القيمة».
> مهما يكن، فإننا مع آدم سميث، نكون لا نزال في مرحلة «ما دون ذلك الوعي» بنظرية فائض القيمة ومدلولاتها ذات الأهمية الكبيرة، وربما الحاسمة أيضاً، في الممارسة الاقتصادية. فسميث، إذ يستبعد ترجيح كفة الأخلاق في هذه الممارسة هنا، لا يرى غضاضة في تحقيق ما يسميه هو نفسه ومنذ وقت مبكر بالتراكم الرأسمالي الذي تقوم إحدى مهماته الرئيسة في خلق ما سيحمل لاحقاً اسم «فائض القيمة». صحيح أن سميث يتبدى في الأحوال كافة، معادياً للنزعة «التجاروية» لكنه في الوقت عينه لا يجد غضاضة في مناصرة حرية التجارة. كما أنه يرفض النظرية التي تماهي بين الثروة العامة وحجم كمية النقد المتداولة، تلك النظرية التي تقوم - بالتالي - على أساس توازن الميزان التجاري. وفي طريقه إلى تفسير هذا كله لا يتورع سميث، غير المتحمس أصلاً لمبدأ تدخلية الدولة في الاقتصاد، لا يتورع عن المناداة بمبدأ «دعه يعمل، دعه يمر» الذي ستقوم عليه الرأسمالية الحديثة، لا سيما منذ أواسط القرن التاسع عشر.
> غير أن المهم لدى آدم سميث، ليس هذه الاستنتاجات العملية، بل البعد النظري في عمله، ذلك البعد الذي يجعل منه أول عالم اعتبر الاقتصاد علماً مستقلاً. أما خطأه الأساسي، وفق الباحث ت. إف. غيومين فيكمن في أن عمله لم يلتفت إلى المستقبل أيما التفات. وتبدو غرابة ذلك مضاعفة انطلاقاً من واقع أن سميث وضع مؤلفه في وقت كانت بريطانيا بدأت ثورتها الاقتصادية، وفيه نوع من الدعوة لمواطنيه لكي يعودوا إلى الأرض والطبيعة.
> مهما يكن، فإن الباحث الاقتصادي المصري د. حازم الببلاوي - الذي شغل رئاسة الحكومة المصرية أخيراً في واحدة من أصعب لحظات تاريخ مصر، اقتصاديا بالتحديد - يرى أنه من المفيد الإشـــارة الى أن «آدم سميث، إن كان يدافــــع عن الحرية الاقتصادية، فإنه لم يقـــصد فــقط معارضة التدخل المـــتزايد للدولة، بل إنه هاجــم في الوقت نفــسه القيود التي يمكن أن يفرضها التجار والحرفيون على حرية النشاط الاقتصادي».
> ولد آدم سميث عام 1723 في اسكتلندا التي سيموت فيها بعد ذلك بسبعة وستين عاماً، وهو تلقى علومه الأولى في بلدته كيركالدي، قبل أن يتوجه إلى جامعة غلاسكو حيث درس الفلسفة الأخلاقية، ليعود بعد ذلك ويستكمل دراسته في جامعة أوكسفورد. وهو عيّن عام 1751 أستاذاً للمنطق، ثم أستاذاً للفلسفة الأخلاقية في غلاسكو. وكان أول كتاب مهم نشره مؤلفه حول «نظرية المشاعر الأخلاقية» الذي بحث فيه في الطبيعة البشرية. وهو عاد في عام 1767 ليعيش في مسقط رأسه حيث أنفق تسع سنوات في وضع مؤلفه «ثروات الأمم» الذي استكمله في لندن.
عن صحيفة الحياة اللندنية