عبد الجبار البناء ؛ البحث المتواصل عن جماليات وأسرار النحت

عبد الجبار البناء ؛ البحث المتواصل عن جماليات وأسرار النحت

خضير الزيدي
قد تكون لمادة الخشب تركاتها البصرية المهمة لمن يتعامل بحذر معها، ذلك لأنها مأخوذة بفرادة تعبيرية قل نظيرها لما تكشفه من تعابير وتمدنا به من أثارة بصرية ورغبة كبيرة في إعادة وقراءة الذات التي تمجد مظاهر الطبيعة. وربما لهذه الأسباب وغيرها انصب اهتمام اغلب النحاتين العراقيين بتوظيف هذه المادة في العمل الفني،

فهي تكشف عن تحولات بصرية وخيالية تتماشى مع من يريد التأمل والتغني في نفس الوقت بعوالم النحت. ومن بين الكثير من الأسماء الفنية العراقية التي تسهم بإغناء المشهد الفني المحلي يبرز على سطح الواقع اسم الفنان القدير عبد الجبار البناء كواحد من الأصوات المهمة والتي تغني مشهدنا بزخم بصري وجمالي حيال ما تصنعه أنامله وما تعالجه أفكاره الحداثوية مع الخشب. ففي هذه الأعمال هناك اتساع حكائي يتفرد به هذا النحات من خلال رؤيتنا البصرية لهذه الأعمال فهي على سعة شمولها تمثل خطا متوازيا ومتينا يخلف لمن يراه للوهلة الأولى شعورا بعمق وأصالة ما تذهب به منحوتات هذا الرجل وما يتركب فيها من بنائية تشي برمزية تخلد من قيمة الإنسان عبر متوالية الجسد أو التقديس الأسطوري لمحاولة الإمساك بخيوط مظاهر التاريخ / والمكان ومثل هكذا رؤية جمالية وفكرية تبدو غنية بمعالجاتها لما تهرع إليه الذاكرة وهي تعمق فكرة تطويع مادة الخشب لتستسلم لخطاب الجمال الذي يذهب به عبد الجبار البناء وهو يربط بين محيط البيئة العراقية ومسوغات نسيج الذاكرة فربما تكون إشارات أية أعمال تغني عن تصورات لم تظهر ارتخاء حيال الاواصر البنائية المركبة للمنحوتات لكن مع هذه الأعمال المستقلة برؤيتها البصرية والفكرية تجعل من رسالتها تدخر ما يكفينا من رؤى وامتثالات نقدر رجاحتها ومكانتها ليس لأنها تحمل شفرات بيئة عراقية بل لسبب يبدو بسيطا لنا جميعا وهو إنها تحاول أن تدمج بين واقع تتمثل فيه الأشياء بحسية كبيرة. بعيدا عن غموض في الأسلوب أو التنظير وهذا ما يجعل رسالتها التعبيرية عصية على الابتعاد عن مؤشراتها ومرجعياتها وهنا يبدو لي أهمية السر الذي يميز كل فنان عن غيره وهو أنها تستنطق ذاكرة زمن ما وتاريخ ما يعود إليك وليس لغيرك ليتحول أساس وصفك للأشياء إلى امتثال مرئي تقصده الذاكرة والخيال معا وهذا التجاور لا تضاهيه حمولة الشكل من خلال ما تراه العين مؤقتا سواء عبر تعرجات العمل المقصودة في البناء الشكلي أو مسايرة البنى التصويرية لعالم النحت من حيث التركيب الداخلي والخارجي بل لأن المنظومة الفكرية والجمالية لهذا النحات التي أعطى أكثر من نصف قرن للفن أهمية قصوى من حياته هي السبب وراء هذا الفن الموجه للإنسان واعتقد أن العمل المتواصل دون انقطاع وكثرة الممارسة الفنية والتخطيط المسبق لها ولدت أسلوبا جماليا لهذا الاسم البارز في النحت العراقي بحيث نستطيع أن نستدل على منحوتاته من خلال أسلوب واضح ومميز دون أقرانه سواء الذين يتعاملون مع المرمر أو الخزف أو البرونز وحتى أولئك المتعاملون مع مادة الخشب فكثير من الممارسة وقدرة عالية من التركيز الفني ومحاولة الإمساك ببنية شكلية هي الأساس في تكوين الأسلوب إضافة إلى مميزات ثانوية تتفاعل مع روافد أساسية قد تشكل في نهاية المطاف خيارا لا تزعزعه رؤية الشك وراء من يقف خلف هذه الأعمال؟ ربما تصعب علينا الإحاطة برؤية كل أعمال هذا النحات لنميز خياراته أو نعثر على مواضيعه لكن في تداخل بصري لرؤيتنا لبعض أعماله نعثر هناك على أساس بنائي يرشدنا لمعرفة الأسلوب والرؤية الفكرية لهذا النحات فكأن الإنسان بكل إمكانياته الوجودية والفكرية محل اختيار لفكرة النحت لديه فكل عمل له يمتلك دينامكية فعالة وسفرا من الحياة فماذا يقصد عبد الجبار البناء من رؤيته هذه؟ إذا كانت الأعمال العراقية القديمة تزاوج بين فكرة المرأة والثور والإنسان والحيوانات ذات التركيب والبنية القوية وخاصة المفترسة منها فان منحوتات عبد الجبار ذهبت إلى ابعد من تلك المرموزات التي تعادل بين ثنائية الخير والشر إلى ثنائية القبح والجمال فمنحوتات تتخذ من الإنسان دليلا لها. تكفي أن تعطينا تصورا لنتدارك شكنا حيال رؤيتها التعبيرية فهو يشكل داخل منظومته التعبيرية جوا وبناء روحيا لقيمة الإنسان وهذا ما جعل تلك الأعمال ذات رمزية خالدة لينبثق منها التعبير الخلاق والفعال مع ألفة حقيقية لمضمون العمق الإنساني والانخراط بأفعال حياتية تحمل من سمات الإنسانية الشيء الكثير فأعمال فنية خيالية امتد بها الزمن لخمسين عاما تعالج في رؤيتها التكوينة والجمالية عوالم الإنسان العراقي لكفيلة بمدنا بمقياس لحظة الزمن والمكان مع الاهتمام بعلاقات كونية محيطة ترتبط بوحدات تعبر عن الجسد وديمومته وأنساقه الروحية والمادية فالجسد الآدمي المنحوت له يشي بكيان تمثيلي مجرد من تحولات لعبة الشكل والمضمون حتى كأن علامات الجسد في هذه الأعمال ترتبط بعوالم البنى الخلقية التكوينية دون الولوج إلى رؤية مجهرية ونتوصل من خلال هذه الرؤية الفنية إلى ثلاثة مؤشرات بنائية تعتمدها الرؤية الجمالية خيارا فنيا وفكريا الأولى أن منحوتات هذا الفنان تعالج وفق رؤيتها مدارك اللحظة الخاصة بالإنسان سواء ارتبطت بتحولات زمنية أو ابتعدت برؤيتها عن إثبات ذلك وثانيا يخصص النحات مجالا واسعا لحركة المنحوتات في الشكل الخارجي وهو ما يخلف رؤية حداثوية من خلال رصدنا للشكل الخارجي الغاية منها إعطاؤنا نتائج واضحة المعالم لرصد صورية الجسد الخارجي وثالث المؤشرات أن الإنسان كتعبير جوهري هو أساس لعبته الفنية ويبدو واضحا من خلال التركيز المتواصل للاهتمام بهذا الكائن دون غيره.