«رسائل إلى آن»..  فرانسوا ميتران العاشق

«رسائل إلى آن».. فرانسوا ميتران العاشق

لا شكّ أن فرانسوا ميتران هو أحد أشهر الشخصيات الكبرى التي تركت بصماتها على الحياة السياسية الفرنسية في القرن العشرين. ومن المعروف أنه شغل مناصب وزارية عديدة ــ 12 مرّة ــ منذ فترة الحرب العالمية الثانية عندما كانت تسود في فرنسا الجمهورية الرابعة. ثم غدا عام 1981 الرئيس الرابع للجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958 في خضمّ حرب التحرير الجزائرية...ولا تزال قائمة حتى اليوم.

وإذا كان فرانسوا ميتران نال شهرة كبيرة على صعيد الحياة السياسية لبلاده فإنه اشتهر أيضا أنه كان ذا ثقافة عالية في مجالات الأدب والفكر والثقافة عموما. ولكن اشتهر أيضا أنه كان أب «مازارين بينجو»، ابنته من علاقة خارج مؤسسة الزواج استمرّت 33 سنة، والكاتبة المعروفة اليوم، التي تعمل في إدارة المؤسسة الثقافية التي تحمل اسم «معهد ميتران» الذي يترأسه «هوبير فيدرين» وزير خارجية فرنسا الأسبق.
وكان الفرنسيون قد عرفوا بوجود مازارين عندما كان الأب رئيسا للجمهورية الفرنسية، وأعلن ذلك، وحيث إنها رافقته في حلّه وترحاله خلال السنوات الأخيرة من حياته. وهي ثمرة حياة مشتركة كان قد عاشها منذ ستينات القرن الماضي حتى وفاته مع السيدة «آن بينجو»، التي عملت لسنوات عديدة في مجال الفنون الجميلة كمسؤولة في أحد المتاحف الباريسية.
لكنه في جميع الحالات لم يتنكّر أبدا لزواجه من السيدة «دانييل غوز» التي تزوّجها عام 1944 ولأسرته وولديهما «جان كريستوف وجيلبير»، ولم يلجأ أبدا إلى الطلاق. يضاف إلى ذلك أن زوجته كانت تعرف بوجود «آن بينجو» وتعايشت مع ذلك الواقع «على الطريقة الفرنسية»، كما يقال. ذلك، ربما، على خلفية أنها كانت تدرك الدورالسياسي الكبير الذي كان يلعبه زوجها في تاريخ فرنسا.
واليوم تعود من جديد حكاية الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران وآن بينجو إلى واجهة الأحداث في كتاب صدر يوم 13 تشرين الاول2016 تحت عنوان «رسائل إلى آن».
ويضم هذا الكتاب على مدى صفحاته، التي يقارب عددها الـ 1300 صفحة، الرسائل التي كان ميتران قد حررها على مدى 33 سنة منذ لقائه الأول مع «آن بينجو» عام 1962 وحتى عشيّة رحيله في الثامن من كانون الثاني عام 1996. والإشارة أن صدورهذا الكتاب أثاراهتماما كبيرا لدى الفرنسيين الذين يرون فيه وسيلة للتعرّف أكثرعلى رئيس كان باستمرار «مجهولا إلى حد كبير» بالنسبة لهم..
كان فرانسوا ميتران رجل سياسة فرنسيا من الصفّ الأول عندما التقى للمرّة الأولى وهو في السادسة والأربعين من عمره مع تلك الفتاة الشابة «آن بينجو» التي كانت في ربيعها التاسع عشر، كان ذلك في عام 1962. ويعود تاريخ الرسالة الأولى التي كتبها لها إلى التاسع عشر من شهر أكتوبر من تلك السنة. بلغ العدد الإجمالي لتلك الرسائل، المنشورة اليوم، 1217 رسالة.
ومنذ الرسائل الأولى «أدرك» ميتران، كما يكتب، أن حكايته مع «آن» سوف تذهب بعيدا «في الزمن وفي أعماق النفس». نقرأ في رسالة منها «أحاول أن أقرأ في ملامح وجهك ماذا ستكون عليه حياتي. لقد التقيت بك وعرفت مباشرة أنني سأشرع في سفر طويل.. أعرف أنه لن يكون في حياتي بعد ذلك ليل مطلق. وعزلة الرحيل ــ الموت ــ ستكون أقل عزلة».
وفي الرسالة الأخيرة التي حررها ميتران لآن بينجو بتاريخ 22 أيلول من عام 1995 ــ قبل ثلاثة أشهرمن رحيله ــ نقرأ:" ما تقدمينه لي في حياتي يتعاظم أكثر فأكثر. لقد كنتِ أكبر فرصة وهبتها لي الحياة. فكيف لا يتعاظم حبك في أعماقي أكثر فأكثر".
ومما يتردد في الكثير من الرسائل يفيد أن آن ساعدت كثيرا فرانسوا ميتران كي يستعيد الثقة بالنفس و الثقة بالحياة و إعطاء أفضل ما لديه وفهم العالم والأشياء والبشر مثلما نقرأ في بعض هذه الرسائل. وفي المحصلة يبدو ميتران عندما يخاطب آن وكأنه يخاطب نفسه، كما يشير.
تتمثّل إحدى السمات الهامة لهذه الرسائل بما تحتوي عليه من استعراض مسهب في الكثير من الأحيان حيث يتعدى بعض تلك الرسائل الصفحات العديدة بأنها ذات دلالة بالغة على السيرة الحياتية والسياسية للمسارالذي عرفه. وهو يكرّس العديد منها للحديث عن جولاته الانتخابية وما واجهه من خصومات عندما قرر أن يرشّح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية بمواجهة الجنرال شارل ديغول.
ولهذه الرسائل التي كتبها فرانسوا ميتران لآن بينجو وجه آخر يتعدّى كثيرا ما هو شخصي ويتعدى ما تحمله من قيمة أدبية عالية لرئيس كان كاتباً بارعاً كما هو معروف. إنها رسائل سياسية بامتياز .
الصورة التي يمكن رسمها للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران من خلال رسائله إلى آن هو أن ذلك الرجل الذي كان قد احتلّ مكانة سياسية خاصة لدى الفرنسيين من المؤيدين له كما من خصومه، وتمتع بالكثير من الجرأة في مواقفه وفي المعارك الانتخابية، التي خاضها وكانت الأولى منها ضد الجنرال شارل ديغول، وبثقافته العالية كان أيضا إنسانا له قلب يخفق... مثل بقيّة البشر.
عن/ البيان