رواية  بلاد ساقطة  لباتريك فلانري.. تصوير فائق للجنون التحتي للحلم الأميركي

رواية بلاد ساقطة لباتريك فلانري.. تصوير فائق للجنون التحتي للحلم الأميركي

ترجمة: عباس المفرجي
بالنظر لطبيعته الجوهرية، لم يكن مفاجئا أن يتحول الحلم الامريكي بسرعة شديدة الى " كابوس مكيَّف الهواء " [ كتاب هنري ميللر ]. عدد كبير متنوّع من الكُتّاب، من ناثانيل هاوثورن الى هنري ميللر الى دون ديليلو وغيرهم، أراقوا الكثير من الحبر للتحقق من سبب وجوب تحوّل الاشياء نحو الأسوأ للكثير من الناس. الآن، على ظهر روايته الأولى الملفتة للنظر، التي تدور في جنوب افريقيا، "غفران"، يتبنى باتريك تحدّي ما يدعوه دون ديليلو بـ ’’ الغموض الامريكي ‘‘ في رواية جديدة،

تستكشف أيضا الظلال القاتمة التي ألقاها التاريخ والأكاذيب القديمة، بادئا بشغب عرقي ومنتهيا، بعد قرن من ذلك تقريبا، بتنفيذ حكم إعدام.

على طول الطريق، يتمعن فلانري في انهيار نظام القيم لرجل، نظام بسيط لكنه مقنع. في الواقع أن هذا الرجل، وهو من نواح عديدة من نوع الرجل الامريكي العادي، يكون لاذعا على نحو لا يُحتمل تقريبا – مذكِّرا بأن المأساة في لب "بلاد ساقطة" هي ليست تلك التي لفرد، إنما لأمة بكاملها.
الرجل المدان، بول كروفيك، هو بنّاء سابق ومعمِّر اراضي وعقارات. منذ أن كان صبيا، وضع كروفيك ثقته في مواعظ ’’ رجل عظيم ‘‘ وهمي، تُنقَل مبادئه الارشادية عن طريق والد بول: ((تذكَّر تعاليم الرجل العظيم، بول. ’ الندم هو لا شيء سوى صلاة كاذبة. ضع ثقتك في ومضة عقلك أنت. كن شجاعا: الله لا يريد للجبناء أن يُظهِروا عمله، يداك جديرتان بالثقة. المجتمع ما هو إلّا مؤامرة ضدك. إن كان البلد في حرب، فعلى المواطن العادي أن ينتبه على نفسه حتى أكثر مما يفعل في زمن السلم، فالحكومة ملعونة. ‘))
هذه الفلسفة نصف المحمّصة هي، على حد سواء، مغرية (لطفل نما في ظل والدين قويين) وسامّة للغاية: حتى قبل أن يصطدم الحلم الامريكي لبول بمصاعب مالية، هو مهيأ ((لا فقط لهجوم من إرهابيين أجانب، أو حكومات أجنبية، لكن ايضا لإحتمالية هجوم عدائي من مواطنيه الامريكيين، لحرب أهلية جديدة، أو حرب بيئية، تكنولوجية، أو كيمائية- حيوية منهية العهد البشري على هذا الكوكب)). بإختصار، بول كورفيك، الذي يُحتمَل أن يكون رجلا طيّبا، ((أحَبَّ زوجته، مازال يحبها، يحب أولاده كذلك، وكان دائما يريد أن يحميهم ولم يزل يفعل ذلك))، وضع نفسه على قدم الإستعداد لحرب مع العالم كله.
حين بدأت مساكنه المبنية برداءة بالتداعي وتراكمت عليه الدعاوى القضائية والديون، طلبت زوجته الطلاق وطارت مع الأولاد الى فلوريدا، تاركة إياه مع مشروع ملجأ حصين تحت الأرض لما بعد الكارثة متطورا جدا، كان وضع فيه بلا داع مئات الآلاف من الدولارات. هنا، يبدأ عقل بول بالإنحلال، والعنف الذي يتلو بدا محتوما.
مثل سابقتها، رواية " بلاد ساقطة " هي كتاب مفعم بأصداء شريرة، بتاريخ فاسد ينشأ عن أرض ملوّثة، ليست كثيرا بقدر ما تكشف التيارات السامّة التي تسري تحت مظهر العادية، وحتى تحت مظهر الحياة التقليدية. جنون الإرتياب والعنف المتأصّل للحلم السيئ لامريكا لا يدفعان بول الى التصرّف بيأس فحسب، بل أيضا يسمم ناثانيل، الزوج والأب القانع كما يبدو، الذي يشتري شارة منزل كروفيك، بعد ان يصاب الذي يدّعي انه ملك العقارات بالإفلاس. هؤلاء هم الرجال – والد بول المتسلط، بول كروفيك نفسه، وناثانيل – الذين يخضعون لعنف لم يتوقعوه، كما يقول الرجل العظيم، ((المجتمع في كل مكان هو في مؤامرة ضد رجولة أي فرد من أفراده.)) تلك الرجولة ينبغي أن يُدافَع عنها ضد كل تهديد، واقعي أو متخيَّل – وفي السلطة المصابة بجنون الإرتياب، التهديد هو في كل مكان.
في عبارة مقتبسة، يشير فلانري الى ملاحظة هاوثورن (في " المنزل ذو السبعة جملونات "، من عام 1851): ((في هذا البلد الجمهوري، وسط الموجات المتقاذفة من حياتنا الاجتماعية، أحدهم هو دائما على وشك الغرق.)) هذا هو السبب، كما يمكن أن نجادل على نحو معقول، الذي يجعل الحلم الامريكي فاشلا دائما: لأن ذلك الحلم مؤسَس على منافسة قاسية وعدوانية، تكون ملزمة بدفع لا فقط أحدهم، بل الكثير، الى حافة الغرق. في " بلاد ساقطة "، قدم فلانري الينا إثارة موجعة وتصويرا فائقا حول كيف يمكن للناس العاديين أن ينحرفوا نحو الجنون، لكن قوتها الحقيقية تكمن في إدراك الفشل المأساوي لحلم امريكي، الذي كان يجب أن يحاول، على الأقل، أن يبقى حيا حتى يتحقق مبدأ فرانسيز بيلامي في ((الحرية والعدالة للجميع)).

عن الغارديان