حديقة بلا سياج: كارلوس فوينتس في رحلته الأخيرة

حديقة بلا سياج: كارلوس فوينتس في رحلته الأخيرة

آدم فتحي
ليس من الممكن التغافل عن رحيل كاتب مبدع وضمير يقظ بحجم الروائيّ المكسيكي كارلوس فوينتس صديق باث وماركيز ويوسا والرحّالة المتفاني في الشهادة على عصره الشغوف بالحوار بين الثقافات انطلاقًا من «مكسيكيّته» التي ما انفكّ يقولها ويبدعها مرتفعًا بها إلى أعلى الدرجات.

ترك كارلوس فوينتس أكثر من 70 عملاً بين قصة ومسرحيّة ومقالة وسيناريو دون أن ننسى روائعه الروائيّة التي منحته احترام النقّاد وحبّ القراء في مختلف لغات العالم. وهي روايات أهّلته لنيل أكبر الجوائز في أمريكا اللاتينيّة وفي غيرها باستثناء جائزة نوبل للآداب التي ظلّ يُرشّح لها بقوّة وباستمرار منذ عقود دون أن تعرف طريقها إليه.
ربّما لأنّه كان في أدبه وفي سيرته يساريًّا وثوريًّا أكثر ممّا تحتمل هذه الجائزة.
إنه ثوريّ الرواية بامتياز في المغامرة الجماليّة التي شرع في خوضها منذ سنة 1958 مع رواية «المكان الأكثر شفافيّة» والتي بدأت باستخدام موفّق لتقنية التيبوغرافيا التي عاد إليها في رواية «موت أرتيميو كروز» سنة 1962 ثمّ امتدّت إلى نهج خاصّ في ما سُمّي بتيّار الوعي إضافة إلى سخريته ذات المذاق المميّز وتمرّده على الواقعيّة السحريّة التي طبعت معظم أدب أمريكا اللاتينيّة لهذه المرحلة.
وهو روائيّ الثورة بامتياز من حيث اهتمامه الدؤوب بالثورة في مجمل أعماله بوصفها حلمًا كثيرًا ما يُجهض ولكنّه يظلّ ضروريًّا لتحقُّق إنسانيّة الإنسان. وقد انطلق من الثورة المكسيكيّة وانكساراتها ولكنّه اهتمّ بالإنسان الثائر حيثما كان وساند القضايا العادلة ولم يتوانَ في المدّة الأخيرة عن تأكيد اهتمامه الشديد بما حدث في تونس ومصر ملحًّا على أهميّة «اليوم التالي» في تحديد نجاح الثورات أو فشلها.
اتّضح هوس كارلوس فوينتس بالثورة منذ روايته الأولى حيث جعل أبطال روايته يعبّرون عن خيبة أملهم وهم يرون شعارات الثورة تنهار على أيدي انتهازيّين لا هَمَّ لهم إلاّ الحلول محلّ سابقيهم وكأنْ «لا نتيجة للثورة إلاّ ظهور شريحة جديدة من ذوي الامتيازات وهيمنة الولايات المتّحدة على البلاد وشلل كلّ محاولات التغيير الحقيقيّ».
هذه النظرة النقديّة ظلّت تتخلّل مُجمل أعماله وكأنّها جرس منبّه يشير إلى المزالق المحيطة بالثورات في تواريخ معيّنة وعلى امتداد التاريخ في المُطلق. وها هو في إحدى رواياته الأخيرة «الإرادة والثروة» يعود إلى الموضوع نفسه مجريًا على لسان رأسٍ بلا جسد كلامًا شديد المرارة، في كناية ساخرة عمّا آلت إليه الأمور في المكسيك من عنف يولّد العنف.
لم تدفعه هذه النظرة النقديّة إلى اليأس، ولم تمنعه من أن يظلّ في كلّ أعماله مدافعًا شرسًا عن الأمل على الرغم من كلّ ما يشهده العالم من فساد واستبداد وتضليل. كما لم تمنعه من أن يظلّ مدافعًا شرسًا عن دَوْر الثقافة والإبداع في المحافظة على هذا الأمل وفي الوصول به إلى التحقّق.
كان يرى في الكتابة ضرورة قصوى لا ترفًا وكان يرى في الكتاب شرطًا من شروط التحرّر والخلاص بدونه لا ذاكرة ولا هويّة ولا ماضي ولا مستقبل ولا حريّة لا مناص من العودة إلى مرتبة الحيوان.
وأذكر أنّي قرأت له قبل أشهر فقرة وردت في أحد حواراته الصحفيّة الكثيرة، شعرتُ للحظةٍ بأنّها قيلت فينا وتخصّنا في مرحلتنا هذه تحديدًا، وممّا جاء فيها قوله: «إنّ الأدب من أوّل الأمور التي تسعى الأنظمة الشموليّة إلى محاربتها. وإذا رأيت حكومة تسعى إلى فرض خيالها ولغتها على الشعب فاعلم أنّها بداية الديكتاتوريّة».
ولعلّي لا أجد لإجمال القول أفضل ممّا ذهب إليه أحد دارسيه حين قال: «كان كارلوس فوينتس يطمح إلى كتابة تاريخ الإنسانيّة في بعده التخييليّ ويريد لأعماله أن تشكّل ذاكرة الزمن. كان يرى للثقافة والإبداع دورًا مركزيًّا يتمثّل في ترتيب ال«كاووس» واقتراح بدائل عن اليأس وإضفاء معنًى على الكلمات. كان بمثابة دون كيشوت في مواجهة هاملت. يقول هاملت إنّ الأدب مجرّد كلمات بلا معنًى فيقول دون كيشوت إنّ في وسع الكلمات أن تغيّر الحياة.
عن صحيفة الأهرام