كارلوس فوينتس.. الصوت المتعدد المتجدد

كارلوس فوينتس.. الصوت المتعدد المتجدد

سعيد بوكرامي
1
مرت ذكرى وفاة الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس يوم الثلاثاء 15 مايو. الصحافة الثقافية العربية لم تشر إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد، بينما احتفت الصحافة الناطقة باللغة الاسبانية بذكراه أيما احتفاء. انتظر هذا الكاتب الأنيق والشهم والفذ طويلا جائزة نوبل لكن الجائزة خسرت كثيرا حينما قررت مرات عديدة استبعاده من التتويج الأدبي المستحق.

كتاب عالميون حصلوا عليها، بعضهم لا يصل إلى نصف قامة فوينتس الأدبية، التي يعترف بها النقاد والقراء المخلصون والعاشقون لأعماله الأدبية العميقة.
ولد فوينتس في بنما في 11 نوفمبر 1928 وتوفي عن عمر 83 عاما في مصحة أنجليس البدريغال بعاصمة المكسيك مكسيكو، كان واحدا من عمالقة الأدب الأمريكي اللاتيني، رفقة صديقه الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والبيروفي ماريو فارغاس يوسا أو مواطنه أوكتافيو باز. شكلوا جميعهم نخبة متنافسة وخصبة ومتميزة. كوكبة ذهبية أنتجت للعالم أبهى الأعمال الأدبية وأعظمها. روائيون نادرون لا تجود العصور بمثلهم إلا لماما.
كان كارلوس فوينتس شخصية متعددة الأوجه.شغل منصب سفير المكسيك في باريس بين عامي 1975 و 1977 كما مارس الصحافة، وكان كاتبا ومثقفا ملتزما.
كان يكره أن يعترف بتفاصيل حياته. وكان يكره اكثر فكرة سردها في سيرة ذاتية وربما هو الوحيد من العمالقة المذكورين سلفا من لم يكتب سيرة ذاتية. إذ كان يعتبر كتابتها مثل حفر كلمات على شاهدة قبر.
في وقت لاحق، سيحافظ هذا المحب للسفر، على شعلة الترحال والبحث عن المجهول. فقد نظم وقته بين مكسيكو وباريس ولندن، التي كان بشكل خاص يحب الكتابة بها، ومارس ايضا التدريس في عدد من الجامعات الأمريكية.. كان فوينتس رحالة وبلا انتماء جغرافي محدد بحيث كان يعتبر إقامة الشخص في بلده بشكل مريح، شيئا جيدا ولكنها ليست ذات اهمية كبيرة، أما الشخص الذي يحس بالراحة في كل مكان من العالم فهذا افضل، بيد أن الأفضل هو الشخص الذي لا يجد نفسه في أي مكان. يعترف فوينتس أنه عندما كان طفلا في الولايات المتحدة خلال الثلاثينيات تأثر تأثرا كبيرا بشخصية الممثل الأمريكي هنري فوندا وبالتحديد في فيلمه عناقيد الغضب. هذه الشخصية التي حاول استحضارها تركيبها في نصوصه الروائية.
2
لعب فوينتس، بما لا يقبل الجدل، دورا ثقافيا مهما، في النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث إنه كان قريبا من جميع الأحداث الحاسمة في تاريخ القارة الأمريكية اللاتينية. وعلى رأسها الثورة الكوبية. ذكاؤه وحضوره الساحر ومواهبه الإبداعية التي لا مراء فيها، جعلته في واجهة المناسبات الادبية والسياسية والاجتماعية، وهي ميزة لا يتوفر عليها جميع الادباء. كان هذا التاريخ أرضية أعماله جلها. فقد كان يقول دائما إنه لا وجود لرواية دون تاريخ، وأيضا لا وجود لتاريخ بلا رواية.
كانت أعماله الروائية متعددة الأشكال والثراء. يمكن أن نتذكر روايته موت أرتيميو كروز التي صدرت عام 1962، حيث يصف بلاده المكسيكية المخدوعة بثورة الانتهازية.
وكذلك رواية أرض نوسترا التي نشرت في عام 1975، التي تعد ذاكرة تاريخية حقيقية للمكسيك. في الشيلي، سيقرأ غابرييلا ميسترال وبابلو نيرودا، ومن خلالهما سيدرك مبكرا وإلى الأبد المصاهرة بين الأدب والسياسة في الأرجنتين، حيث كان يرفض الذهاب إلى المدرسة بسبب الفاشية العسكرية المتحكمة في البلاد، سيكتشف متع الحياة والتانغو وبورخيس، يقول عن هذا المعلم قدم لي بورخيس درسا مباشرا وهاما، المنجز الادبي يحتاج بشكل اساسي الى حداثة من الماضي، في السادسة عشرة عاد إلى المكسيك يحمل رصيدا مذهلا، من العنفوان والثقافة الانسانية. في البداية درس في الثانوية الفرنسية، ثم درس القانون في جامعة المكسيك، ثم انضم إلى معهد الدراسات المتقدمة في جنيف وبعد ذلك سيعمل لصالح الدولة المكسيكية لدى منظمة العمل الدولية في جنيف. وفي الوقت نفسه، بدأ يكتب قصصا فنشر عام 1954 باكورته يوم الكرنفال، ثم سرعان ما باشر كتابة الروايات. تميز أسلوبه في الكتابة باسترجاعات ذكريات الماضي أو بتقنية لصق العناصر السردية المتنوعة وتركيبها بشكل بوليفوني.
النقاد في ذلك الوقت اكتشفوا تأثيرا واضحا لدوس باسوس وفولكنر. كما يمكن أن نرى أثرا لجداريات الفنانين ريفيرا وسيكويروس. سعى فوينتيس من خلال تجربته السردية إلى تقديم وجهة نظر عن صراعات الواقع المكسيكي والعنف المستبد داخله. لهذا، كان عليه أن يكسر القوالب العتيقة للغة الإسبانية مانحا إياها حيوية وحياة جديدة.
في منتصف الخمسينيات كان عمره سبعا وعشرين سنة فقط حينما أسس فوينتس مع مواطنه أوكتافيو باز، مجلة الأدب المكسيكي ودار النشر سيغلو القرن الحادي والعشرين. ومن هنا سيبدأ عطاؤه الأدبي الغزير الذي بلغ ثلاثين كتابا ترجمت إلى معظم لغات العالم.
من بينها اللغة العربية التي تصدى لها المترجم البارع صالح علماني بحيث نجح في نقل اللغة الاسبانية لأدب أمريكا اللاتينية وروحها الابداعية إلى اللغة العربية بتفوق لا نظير له جعلته في مقدمة كل من حاول ترجمة أدب أمريكا اللاتينية إلى اللغة العربية.
3
لم يمنعه الاهتمام بالأدب من الاستمرار في مساره الدبلوماسي. في وقت من الأوقات كان قريبا من فيديل كاسترو، لكنه سيبتعد عنه محتجا على اعتقال وسجن الشاعر الكوبي هيربيرتو باديلا سنة 1971. وقد جلب له موقفه هذا انتقادات وعداء من طرف كثير من المثقفين الموالين لكاسترو. ما بين 1974 و 1977 سيشغل منصب سفير المكسيك في فرنسا. وقد حظي داخل المجتمع الثقافي والسياسي الفرنسي خاصة والأوروبي عامة بوضع اعتباري متميز.
منذ السبعينيات تمكن كارلوس فوينتيس من تحقيق شهرة عالمية بروايات مثل أرض نوسترا (1975)، ورأس هيدرا (1978)، قرابة معينة (1980)، والحال نفسه، بالنسبة، لرواية الصديق العجوز (1985) التي تحولت إلى السينما بواسطة المخرج لويس بوينزو، بطولة غريغوري بيك وجين فوندا. هذه الأعمال كلها تشير مباشرة من قريب أو بعيد إلى الموضوعات الرئيسية التي تشكل نسيج منجزه الروائي: العلاقة بين أوروبا وأمريكا، التعالق التاريخي بين الماضي والحاضر، الأساطير العظيمة للإنسانية، وإيجابيات الاختلاط العرقي والثقافي، وتجلياته الممتزجة كتيارات المحيطات، حينما يتقارب كل شيء، ويتلاحم مصير الانسانية. لكن فوينتيس لا يتوقف أبدا عند هذه الخطوط بل يتجاوزها إلى وصف اللقاءات المفاجئة لهذا الاختلاط والاصطدامات المترتبة عنه والتي لا حدود لنتائجها السلبية.
هذه الموضوعات الحاضرة كلازمة نجدها تتكرر بإصرار في أعمال أخرى مثل ابتسامة ايراسموس (1990)، حيث يبين فوينتس أن حداثة أمريكا شيدت بلقاءات بين الماضي. أو في المرآة المتوارية (1992)، حيث يسبر فوينتس تاريخ اسبانيا وأمريكا اللاتينية من خلال توالد الحضارات العظيمة، مقدما حفريات مذهلة عن الهوية.
4
في روايته الأخيرة سعادة الأسر (2009)، عبر الكاتب المكسيكي في هذا العمل عن تساؤلات جوهرية: ما هو تأثير العامل الزمني على صراع الأجيال وما يترتب عنه من عنف. وكيف يمكن الهروب من آليات التدمير الذاتي، سواء الحميمة كما هي روابط الدم والتاريخ. وما يتمظهر عنها، على الخصوص، في تعاقب الأجيال، وفي النسيج الاجتماعي المنحرف حاول فوينتس طرح هذه الأسئلة دون البحث عن أجوبة من خلال ستة عشر فصلا من الكتاب.
وكما هو الحال في أرض نوسترا، فبطبيعة الحال لا يحصل الأبطال على السعادة المنتظرة، بل يعيشون اختناقا مهلكا بين فساد مهول ومدنية مصطنعة. في هذا العمل يأخذ فوينتس على عاتقه إسماعنا صوت من لا صوت لهم، من الفئات الاجتماعية المتوارية خلف ظلال الشوارع المكتظة بالعنف والمخدرات والفساد والرشوة مستعرضا أوضاعا اجتماعية نفسية لأسر هي ضحايا أوضاع اقتصادية وسياسية تقود رأسا صوب العنف والإجرام في المكسيك عامة والعاصمة مكسيكو خاصة.
في كل عمل من روايات فوينتس يحاول بلا هوادة طرد الارواح الشريرة وتخليص الانسانية من فسادها المستشري كالنار في الهشيم. ربما لم ينجح فوينتس في تحقيق هذه المهمة النبيلة المستحيلة التي دأب على ممارستها والمطالبة بها، إلا أنه حقق منجزا أدبيا خالدا جعله رفقة أدباء آخرين من المكسيك خير ممثل للأدب المكسيكي وأفقه الحداثي المتجدد.
عن الحوار المتمدن