«كرسي الرئاسة» لفوينتس.. رسائل السلطة

«كرسي الرئاسة» لفوينتس.. رسائل السلطة

اسكندر حبش
كارلوس فوينتس، ليس كاتبا عابرا في تاريخ الأدب، بل أحد صنّاعه الحقيقيين، وإن كنّا في هذه المنطقة من العالم، لا نلتفت إلا إلى بعض أسماء كتّاب أميركا اللاتينية، متناسين تلك الكوكبة الكبيرة التي أعادت بريقا لرواية كادت تفقدها.

هذا ما نجده في روايته «كرسي الرئاسة» الصادرة حديثا في ترجمة عربية (لخالد الجبيلي عن منشورات الجمل) حيث تتبدى «عبقريته» الروائية، في استعادة شكل روائي تناسيناه منذ فترة طويلة، أقصد الرواية التي تعتمد على شكل الرسائل المتبادلة. فلو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن هذا الشكل الروائي، عرف قمّة مجده في النصف الثاني من القرن الثامن عشر: ريتشاردسون وروسو وغوته ولاكلو... إلا أن «الموضة» خفّت بعد ذلك لتكاد تختفي وتُهمل بشكل كبير.
تدور الرواية في المستقبل (عام 2020). ذات يوم تقطع جميع الاتصالات الهاتفية كما السلكية واللاسلكية في المكسيك التي تجرأت على مواجهة الولايات المتحدة الأميركية. إذ لم تستسغ أميركا، (التي أصبحت كوندليسا رايس رئيستها)، أن يحتج أحد ضد احتلالها العسكري لكولومبيا كما تشجيع «الأوبيب» (عصبة من المشايخ الفاسدين) بالإضافة إلى زيادة كمية الإنتاج النفطي. من هذا الأمر تنشأ مواجهة بين كبار الموظفين في المكسيك، لا نجد فيها أيّ عنصر دبلوماسي أو حتى براغماتي. وإزاء هذا الصمت التام الذي تغرق فيه البلاد من جراء انقطاع الاتصالات يلجأ «أبطال» النص إلى كتابة الرسائل المتبادلة بهدف الانتخابات الرئاسية المقبلة. لم يكن تيران، الرئيس المنتهية صلاحيته، يستطيع الترشح مرة أخرى، لذلك بدا السؤال «من يصعد ليعتلي وكر النسر؟» ملحا. هل يمكن للرئيس أن يكون امرأة؟
لم يكن عند الجميلة ماريا دل روزاريو غالفان «صديقة الرئيس الحميمة» سوى هدف واحد: «أن تكون سياسة، أن تأكل سياسة، أن تحلم سياسة، أن تلتذ بالسياسة وتتألم منها». تهب ماريا جسدها إلى «هذا الجمال الخلاسي» الذي يفوح من نيكولاس فالديفيا «سأكون لك عندما تصبح رئيسا للمكسيك». إلا أن المصاعب والاعتراضات لم تكن سهلة بتاتا. هناك برنال هيريرا وزير الداخلية الوقح، ووزيــر الخارجية أحد كبار لاعبي البوكر، المستــشار «سينيك»، مراقب الميزانية الذي ألغى بنفسه هذه الميزانية، مدير النفــط الذي يعتبر البلسم المكسيكي، الفساد، فون برتراب «الوجه المحب للقوة»، أروزا الوجه القبيح... ومن دون أن نحـصي الأسـوأ: تاسيتو دو لا كانال المتلصص والوصولي. كل هؤلاء يبدأون بالتراسل والاعتراف والوشاية ببعــضهم البعض والتـهديد والتحالف والانفـصال والكـذب والاغتــيالات، وبنقل بيــادقهم فــوق رقعة الشــطرنج على أمل الوصول إلى اللحظة التي يقتـلون فيها الملك. وفي ذلك كله لا بــد من أن نقــف عند هذه العدة البلاغية الساحرة التي تفـوح من كتاباتهم. وربما هنا استعارة سـياسية أخرى، فأن يجعل فوينتس كلّ هؤلاء الـساسة يتكلمون بهذه اللغة الجميلة، لا بدّ أنه يرغب في أن يشير إلى ضحالتهم في الواقع وعدم قدرتهم على صوغ جملة مفيدة واحدة.
كما عادته، يقدم فوينتس رواية كبيرة أخرى، واحدة من تلك الروايات التي تؤرق وتدفعك إلى طرح العديد من الأسئلة على الرغم من أنك تعرف كل هذه الميكانيزمات التي تُسيّر العمل السياسي، إلا أنه في عمله هنا على جمع تاسيت وسيزار وهايدغر وميكيافيللي يعطي للرواية خاصيتها الثقافية إذا جاز التـعبير، لكن من دون أن تسقط مطلقا في التثـاقف الجاف، بل نحن أمام رواية متحــركة مليئة بالأحداث التي تروى عن طريق الرسائل. وعلى الرغم من اختلاف الأسـلوب إلا انها تذكرنا أيضا بيوسا (حفل التيس)» بماركيز (خريف البطريرك)، وأقصد بذلك هذا الهمّ الذي نجده عند الكثيرين من كتّاب أميركا اللاتينية في كتابة اجتماعية، ســياسية، تغوص في الراهن، لكن من دون أن تسقط في لغة البيانات لتحافظ على رقي العمل الفني الذي تفترضه الرواية.

عن صحيفة السفير