د. مصطفى جواد: طَلّقتُ المذاهب كلها...

د. مصطفى جواد: طَلّقتُ المذاهب كلها...

عاطــف العــــزي
فى وثيقة بخط يده يرجع تأريخها الى عام 1949 ذكر فقيد العراق العلامة الدكتور مصطفى جواد المؤرخ الفذ، فيلسوف اللغة العربية ما يلى:
«أصلى من قره تبه واجدادى تركمان متشيعون غلاة فى التشيع، وانتقل جدى الى بغداد فصار شيعيا إماميا وكذلك والدى، وانا نشأت على ذلك، ثم طلقت المذاهب كلها من دون استثناء الى غير رجعة».

إختلف الباحثون فى تأريخ ميلاده، ولكن المرجح أنه ولد فى عام 1906 فى محلة عقد القشل بالقرب من جامع المصلوب فى الجانب الشرقي من بغداد، وتوفي فى 17/12/1969 مخلفا وراءه المئات من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة فى اللغة والتأريخ والأدب. ونعته وزارة الثقافة والاعلام ببيان جاء فيه: «رزىء العراق بوفاة العلامة والمربي الكبير الاستاذ مصطفى جواد الذى عرفته الأوساط الفكرية والأدبية والتربوية علما من الأعلام، متفانيا ودؤوبا ومخلصا، أضاء بعلمه وأدبه أجيالا عديدة من أبناء العراق والوطن العربي». وتقدم أحمد حسن البكر -رئيس الجمهورية آنذاك- جموع المشيعين ومن ضمنهم صالح مهدى عماش وغيره من القادة البعثيين، ومعظمهم لا شأن لهم بالأدب والعلم والثقافة ولكنهم كانوا فى ذلك الوقت بحاجة الى التظاهر بتقديرهم للعلم والعلماء وكل ما قد يرفع من شأنهم فى أعين أبناء شعب العراق الذى دمروه منذ انقلابهم الدموي فى 8 شباط/فبراير 1963.
فى منتصف عام 1960 استدعى الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسة والاستاذ محمود فهمى درويش وطلب منهم تأليف دليل للجمهورية العراقية الفتية، وأن يباشروا بذلك فورا، ووعدهم بمساندته الكاملة لهم فى هذا المشروع الوطني. ويُذكر أن الدكتور جواد تقدم برجاء الى الزعيم فى ذلك الاجتماع أن يضم حرف الجيم فى كلمة (جمهورية) بدلا من فتحه كما كان يفعل الزعيم فى خطبه، فضحك الزعيم وقال انه سيفعل ذلك إذا ما شرح له الدكتور جواد السبب. فكان جواب الدكتور أن أصل الكلمة هى (جُمهور) وليس (جَمهور). وتم العمل بالدليل وقدم المؤلفون نسخة منه الى الزعيم فى يوم 14 تموز/يوليو 1961. ومن هنا بدأ التقاعس من المسئولين فى صرف المبالغ التى تكبدوها المؤلفون، وتألم الدكتور جواد لذلك خاصة وانه كان قد اقترض حصته من الكلفة من أصدقائه. وامتدت المماطلة الى ما بعد الانقلاب البعثي فى سنة 1963 حيث دخلت المسألة فى طي النسيان وطغت عليها الحوادث الجسام التى رزح تحتها العراق ابتداءا من انقلاب عبد السلام عارف على أصحابه البعثيين ثم انقلاب البعثيين الثاني فى سنة 1968 على اخيه عبد الرحمن عارف وامتد حكمهم الجائرالى 9 نيسان/ابريل 2003.
لم تكن طفولة الدكتور جواد سعيدة خاصة بعد أن أصيب والده الذى كان خياطا فى سوق الخياطين ببغداد بالعمى، واضطر الى بيع ممتلكاته ببغداد والنزوح بعائلته الى ناحية دلتاوة (الخالص حاليا) واشترى هناك أملاكا ليعيشوا من مواردها. أدخله والده فى (الكتاتيب) حيث درس حروف الهجاء وقراءة القرآن الكريم، ثم نقله الى مدرسة دلتاوة الابتدائية. فى شتاء 1917 وبعد وفاة والده بقليل، دخل الجيش البريطاني دلتاوة متعقبا الجيش العثماني المنهزم نحو الشمال، وأغلقت المدرسة وانصرف الدكتور الى رعاية البساتين التى خلفها والده. وبعد عقد الهدنة بين الانكليز والعثمانيين استتبت الأمور وفتحت مدرسة دلتاوة، وحصل نزاع بين والدته وأخيه الأكبر حول إرث والده، فنقله أخوه الى بغداد وأدخله المدرسة الجعفرية الأهلية. ثم قصّر أخوه فى تسديد أجرة المدرسة فانتقل الى مدرسة باب الشيخ الابتدائية. وقاسى الكثير من شظف العيش والعوز بسبب النزاع العائلي حتى حلت سنة 1920 فعاد الى دلتاوة لينتفع بحصصه فى البساتين هناك. ثم عاد الى مدرسة دلتاوة، ولما نجح الى الصف الخامس قرر الذهاب الى بغداد وداوم فى دار المعلمين الابتدائية بعد نجاحه فى امتحان القبول، وتخرج سنة 1924 معلما ابتدائيا وعُين فى مدرسة الناصرية الابتدائية. وتزوج سنة 1928 عندما كان معلما فى الكاظمية. تعلم مبادىء اللغة الفرنسية فى القاهرة، ثم دخل كلية السوربون فى باريس سنة 1934 وأكمل رسالة الدكتوراه وقُبلت وأعلنت الحرب فلم يتهيأ له مناقشتها ولا طبعها. ولما بدأ هجوم الألمان الجوي أيقن أن الحرب ستطول فعاد الى العراق بالقطار ووصل الى بغداد وعُين فى دار المعلمين العالية –التى سُميت فيما بعد (كلية التربية) وذلك سنة 1939. وفى سنة 1942 دعي لتعليم الملك الصغير فيصل الثاني اللغة العربية من القراءة الخلدونية فى السنة السابعة من عمره. وفى ذلك كتب الدكتور فى سيرته فى مجلة الجندي:
«وكنت أود أن أجعله ملكا يشبه الملوك الذين قرأت سيرهم فى التأريخ الاسلامي، الا أن أهليه لم يسمحوا لى فى ذلك، فقد كانت المسكنة تظهر عليه حتى فى طلب حاجاته المدرسية، وكان يشكو من ذلك، فقلت له ذات مرة أنت ملك فقل لهم هاتوا كذا وكذا فلا يستطيعون رفضا، فلما قال لهم ذلك بلهجة الأمر، قالوا: ليس هذا اسلوب كلامك فمن علمك هذا النوع من الطلب، بعد ان حاول التخلي عن الضعف والاستقلال بنفسه قال لهم: الذى علمنى ذلك مصطفى جواد، فحقودها علي واعادونى الى التدريس فى دار المعلمين، خوفا من تربيتى روح الاستقلال فى نفسه، وطلبت أن أنقل الى مديرية الآثار، وبعد أن رأيت سوء الادارة فيها عدت الى دار المعلمين».
ويقول الدكتور نافع عبد الجبار العلوان فى كتابه «الدكتور مصطفى جواد: حياته وآثاره» المطبوع فى 1/9/1970: « بعد جهاد طويل فى الحياة مع الكتب والأقلام والمحابر فى الخالص وبغداد ودمشق والقاهرة وباريس أغنى فيه دورالعلم والأدب والمجامع الأدبية ببحوث لم يتوفر عليها غيره من فطاحل المؤرخين وأساتذة الأدب وشيوخ الفقه. وبعد جهاد طويل فى المنابر التى يرتاح لها السامع تستحوذ على الألباب لعمق المضمون ثم بعد جهاد طويل مع الأمراض نزلت بالناطقين بالضاد الفجيعة بوفاته. وفاة العلم الشامخ الدكتور مصطفى جواد. والذى يعزّي ويقلّل الخطب الجلل أن فقيدنا الخالد خلّف لنا وراءه تراثا واسعا هيهات أن تأتى عليه الأيام والأعوام.. فى اللغة والمفردات والأساليب والاشتقاقات والتاريخ وشوارد تأريخ البلدان والديارات. رحم الله المعجم الخالد والسفر الخالد رحم الله الدكتور مصطفى جواد وجزل له الثواب على قدر ما أسدى من جهاد طويل فى خدمة لغة القرآن.

وقال عنه الراحل الدكتور صفاء خلوصي عميد الأدب العراقي:
«ان الدكتور مصطفى جواد مفخرة لكل العراقيين و كان اعجوبة الدهر ومعجزة الزمان في التاريخ واللغة وكانت احواله اللغوية احيانا شبيهة بالغيبيات وكان مجتهدا في الصياغه اللغوية يصيب ولا يخطيء ومصححا اخطاء القدماء والمحدثين، وكان دائرة معارف متنقلة تمشي على أرجل بما حفظ ووعى من دقائق الأشياء، وله القدرة على الإجابة عن أي سؤال يوجه له في أي وقت، وكنت اشاركه في برنامجه الشيق: قل ولا تقل، وكان يعرف اسماء جميع احياء بغداد في العصر العباسي و مواقع بيوت الخلفاء والوزراء حتى مدراء الشرطه وكنا معا نقدم برنامجا باسم خطط بغداد. وقد كان حياديا فى فكره التأريخي، إذ سما فوق الأهواء حين قال: «لقد طلقت المذاهب كلها من دون استثناءالى غير رجعة» ومع ذلك فان هذا لم يجرده من حبه لآل البيت الذى هو نهج المذاهب فى جوهرها جميعا، و مهيع كل من يرى ويفسر المذاهب تفسيرا صحيحا، فحبه لآل البيت هو الذى جعله يختار الخليفة الناصر لدين الله المحب لآل البيت مثلا أعلى له وقد كتب فيه وفى عصره موضوع رسالته للدكتوراه تلك الرسالة لتى لم يتح لها مجال المناقشة بسبب قيام الحرب العالمية الثانية».
ومن مؤلفات الدكتور مصطفى جواد:
«الحوادث الجامعة» أول كتاب صدر له 1932
«سيدات البلاط العباسي» 1950
«سيرة أبي جعفر النقيب» 1950
«المباحث اللغوية في العراق» 1960
«خارطة بغداد قديما وحديثا» (مع الدكتور أحمد سوسة وأحمد حامد الصراف)
«دليل خارطة بغداد» (مع الدكتور أحمد سوسة)
«دليل الجمهورية العراقية» لسنة (1960) (مع محمود فهمي درويش وأحمد سوسة)
«الأساس في الأدب» (مع بهجت الأثري وكمال إبراهيم)
«دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم» 1968
«قل ولا تقل» 1969
«دليل خارطة بغداد المفصل» (مع الدكتور أحمد سوسة) مطبعة المجمع العلمي العراقي 1958
رسائل في النحو واللغة» آخر كتاب طبعه 1969)»
وترجم:
«قصة الأمير خلف» (مترجمة عن الفرنسية)
«بغداد مدينة السلام» تأليف البريطاني ريتشارد كوك، علق عليها الدكتور وشارك فى الترجمة الأستاذ فؤاد جميل (جزءان) 1962 و 1967.
قبل الختام أود أن اذكر ما قاله الراحل الجليل فى مسألة «تعدى الفعل» ولزومه فى اللغة العربية: اننا ندرس فى فقه اللغة ان الأصل فى الأفعال أن تكون متعدية، «لان الحياة الانسانية فضلا عن الحيوانية قائمة على الافتراس والعدوان على اختلاف ضروبه وأنواعه». وانى أتساءل عما اذا كان الدكتور يتنبأ بما سيحصل بعده فى العراق من «افتراس وعدوان» بين سياسييه ومشايخه، وهو ما يحصل الآن ونلمسه فى كل يوم من أيامنا هذه. فان كانت نبوءة فقد صدقت.
الاستاذ صفاء خلوصي
الاستاذ محمد عبد المطلب البكاء
الاستاذ نافع عبد الجبار العلوان
الاستاذ عبد المطلب صالح
وغيرهم من الأساتذة الأفاضل الذين غابت أسماؤهم عن ذاكرتى