مما عرفته في مصطفى جواد

مما عرفته في مصطفى جواد

د. سعيد جاسم الزبيدي
لم يحظ عالم معاصر بشهرة في الأوساط الشعبية، فضلا عن الأوساط العلمية، ومجامع اللغة، بمثل ما حظي به أستاذنا مصطفى جواد - رحمه الله - من خلال إطلالته المحبَّبة في التلفاز (حديث الثقافة) وفي الإذاعة (قل ولا تقل)، فعرفه عامة الناس، وأحبوه، وكان له بينهم صلات ونوادر! وحسبي هنا أن أذكر جوانب مما عرفته فيه، إذ جلست منه مجلس التلميذ في المرحلة الجامعية الأولى، فوجدت فيه موسوعة معارف: في اللغة وأسرارها، والمعجم العربي ومشكلاته، والخطط، والبلدان، والآثار، والأدب العربي: نثره، وشعره، وبراعته في التحقيق، والأنساب. كلّ هذا لا يدفعه أحد.

ولعلَّ جانبا فيه لا يعرفه الكثيرون، وما زال غائبا، ما جرى عام 1965م، حين كنَّا على مقاعد الدرس في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقا) أن عقدنا في نشاطنا الطلابي ندوة أسبوعية أطلقنا عليها (ساعة الأربعاء) بإشراف أستاذنا المرحوم الدكتور هادي الحمداني، وتوجيهه، فاتفقنا على استضافته فيها، وألمحنا إليه أن يختار ما يراه مناسبا مما يحسنه، فإذا به يقرأ مقامة صاغها بعنوان (المقامة العبُّودية) نسبة إلى المرحوم الأستاذ الدكتور يوسف عبود، ارتقى بها أسلوبا ونهجا، وخرج عن جبَّة (بديع الزمان الهمذاني) و(أبي القاسم الحريري) ليمنحها معاصرة بموضوعها، ويضفي عليها طابع الدعابة ممزوجة بالنقد الاجتماعي، وما زال صداها بمسمعي ومسمع زملائي! وحاول باحث معاصر أن يدرسه (نحويا)، وشاء له أن ينشر بحثه، فأحيل إلى أستاذنا مهدي المخزومي - رحمه الله - فأوصى بتعديل العنوان من (مصطفى جواد نحويا) إلى (مصطفى جواد وجهوده اللغوية) فكان ذاك. ولعلّ ما حدا شيخنا المخزومي إلى الاعتراض الدقيق أن نظرات مصطفى جواد النحوية محدودة، ولا ترقى إلى أن تكون جهدا مميزًا، ولأنه لم يقدِّم منهجا متكاملا للنحو، ومن ذلك ما قاله في (التعدي واللزوم) حين ذهب مذهبا فلسفيا فيهما فرأى أن (الأصل في الأفعال التعدي لأن الحياة... تعتمد على التعدي)! وأن (اللزوم عارض طارئ)! وأن (المطاوعة خرافة غريبة)، سقت هذا لا لأنزع إلى تضعيفه في النحو، بقدر ما لمصطفى جواد من باع طويل في أساليب العربية واستجلائها، والتنقير في الروايات المبثوثة في دواوين الأدب وأخبار التاريخ، ومحاورات القدامى، وموقفه من (علم المعاني) وأن أغلب نظراته في المسائل النحوية منتزعة من النحو الكوفي الذي دعا إلى تبني منهجه في الدرس النحوي المعاصر. وله آراء في اللغة تجاوز بها ما ساد في كتب الصرف، ومنها موضوع (النسبة إلى الجمع) الذي منعه البصريون، وقاده الاستقراء إلى ذكر عشرات الأعلام بلا شرط! وله استدراك جليل على المعجم كان يقرأ منه علينا في محاضراته في مقرر (فقه اللغة) دلل فيه على تحرِّيه الصواب، واتساع المعاني، وتصحيح ما وقع من وهم. وأما كتاباته في تصحيح ما وقع فيه المحققون من تصحيف وتحريف فأكتفي بذكر مثال: ذكر محقق معروف نسبة علم من الأعلام فقال (الثقفي) وجاء مصطفى جواد بحجة في غاية الدقة والوضوح، فقال: هو (البققي) إذ قال أحدهم في هجائه: (ما كان منسوبا إلى البقّ)! فلاحظ التصحيف بين (الثقفي) و(البققي)!، وله نظر دقيق في كثير من الكتب المحققة وإثبات ما فات المحققين، ولعلَّ أدق شاهد ما نشره بعنوان (الضائع من معجم الأدباء). أما في المصطلحات وإشكالياتها فقد دعا المشتغلين بها إلى (أن يجمعوا عامة ما ورد منها في كتب العلوم والفنون والأدب ولا سيما دواوين الشعر المتأخر الأزمان). لو أرسلت قلمي في بيان ما لأستاذنا مصطفى جواد من أياد بيض لما وسعت هذه السطور الأستذكارية، فرحم الله أستاذنا، وأختم ببيت قاله الشاعر الخالد مصطفى جمال الدين في رثائه:
يا حارس اللغة التي كادت على
صدأ اللُّهى أن يرن لها صدى