يونس بحري في اذاعة بغداد.. روايات طريفة

يونس بحري في اذاعة بغداد.. روايات طريفة

معن عبدالقادر آل زكريا
يقول سلمان الصفواني عن الاذاعة: من اغرب المكالمات التي تلقيتها من الملك غازي تلك التي امرني فيها منع يونس بحري من ممارسة عمله في الاذاعة. وقد كان يونس البحري مذيعا فيها. ففي ذات يوم بينما كان (البحري) يفتتح برامج الاذاعة بجملته المشهورة (هنا بغداد) تفتتح اذاعتها بتلاوة ما تيسر من القرآن الكريم، رنّ جرس التليفون وكان المتكلم الملك غازي نفسه فأمرني ان امنع (البحري) من الاذاعة. وجاء (البحري)

الى مكتبي على عادته في انتظار انتهاء تلاوة القرآن الكريم لينتقل الى الاستوديو لمواصلة تقديم البرامج. قلت له: يا (يونس) ان كان لديك شغل في بغداد فاذهب لقضائه، فاليوم يعجبني ان اكون مذيعا وربما لايام اخرى ولم اخبره بأمر الملك، فاستغرب وظنّ اني امزح معه، ولمّا اكدت له رغبتي وهو بين مصدق ومكذب خرج مذهولا وكئيبا. والذين يعرفون (البحري) يدركون ان الاذاعة بالنسبة اليه كالماء بالنسبة للسمكة.

وبعدها لما علم بالموضوع ذهب وسأل وزير المعارف المرحوم محمد رضا الشبيبي وقصّ عليه ما حدث، ثم ذهب الى رئيس الوزراء جميل المدفعي وشكا أمره اليه. ولما سألني (الوزير ورئيس الوزراء) عن القصة اخبرتهما بأمر الملك غازي وانه لم يكن لي بد من تنفيذه.
وفي الصباح التالي ذهب (الشبيبي) الي البلاط الملكي وقابل الملك وتحدث معه بشأن المذيع يونس بحري فأخبره الملك ان البحري يتعمد التشويش على اذاعة قصر الزهور بأن يفتح (سويجا) ويبقيه. الا ان الوزير استبعد ذلك من الوجهة الفنية (علي الاقل)، ردّ الملك قائلا: لو قيل لي ذلك لما صدقته لكني سمعته باذني، واصر على طرده من الاذاعة كما ان رئيس الوزراء راح بنفسه الى البلاط وكلم الملك بشأنه (يونس بحري) لكن الملك أصرّ على موقفه. فخرج المدني من عند البلاط مستاء وانقطع عن زيارة البلاط اياما. وفي هذه الفترة التي دامت شهرا كان يونس بحري كالملسوع، فلم يترك وسيلة الا ولجأ اليها، لأجل اعادته الى الاذاعة وبعدها قلت له: يا يونس سأجرّب حظي من اجلك فتعال معي الى البلاط ساقابل الملك وارجو ان يوافق على عودتك الى الاذاعة. وذهبا معا وقابلنا رئيس المرافقين قلت له: اني ارغب في مقابلة جلالة الملك عن طريقك لا عن طريق التشريفات، فهل بامكانك ان تدبر لي هذه المقابلة؟ قال رئيس المرافقين سأحاول انتظر قليلا. ثم عاد اليّ بعد برهة قائلا: تفضل ادخل واستقبلني الملك ببشاشته وذكرني باول لقاء لنا فيه في سرادق نصبه الملك حسين في (منى) بالحجاز سنة 1923 بمناسبة عيد الاضحي وما قصه علينا جده الملك حسين عن سبب تسميته (عون). وبعد ان انتهي الملك غازي من حديثه عن ذكريات الطفولة رجوته ان يسمح لي بالكلام عن يونس بحري وان يغض النظر عن اخطائه وان يسمح له بالعودة الى الاذاعة. فابتسم الملك وقال لا بأس، لن أخيب رجاءك فشكرته كثيرا واستأذنت بالانصراف.
كان يونس بحري خلال المقابلة مع الملك ينتظرني في غرفة رئيس المرافقين وهو يتقلب على احر من الجمر، فلما رآني منبسط الاسارير تأكد ان الملك وافق على عودته فقام يعانقني ويقبلني شاكرا وممتنا. تعليق: بعد صدور عدد جريدة الاتحاد (103) في 18/كانون الاول /1988 كتب السيد محمد علي كريم كبير المذيعين في اذاعة بغداد تعقيبا بعنوان (الى الاتحاد مع التحيات) الصفواني لم يعمل معي في اذاعة قصر الزهور. ونشر في جريدة الاتحاد وبعددها (107) في 23 كانون الثاني سنة 1989.
ونظرا للمعلومات التاريخية القيمة والموثقة التي ذكرها السيد محمد علي كريم ارتأينا نشرها كما جاء بقلمه:
اطلعت على آخر حديث مع شيخ الصحافة العراقية المرحوم الاستاذ سلمان الصفواني وقد وجدت ان كاتبه يشير الى ان الصفواني عمل في اذاعة قصر الزهور التي كان قد انشأها الملك غازي ونصبها في (قصر الملح) لمقارعة الاستعمار الانكليزي ولدحض الاكاذيب التي كانت تذيعها اذاعة لندن (القسم العربي) عن العرب والامة العربية المجيدة. وحسب معلوماتي المتواضعة فان المرحوم (الصفواني) لم يعمل في تلك المحطة لسبب بسيط هو انه لم يكن يعمل فيها سوى فنيين، اما الوظائف الادارية فلم يكن لها وجود وان ملاك المحطة ان صح لم يكن فيه سوى المهندس الاذاعي المرحوم اسماعيل حسن يعاونه فني آخر هو المرحوم ناجي صالح الذي اصبح بعد ذلك مهندسا في اذاعة بغداد حيث انتقل اليها بعد وفاة الملك غازي وغلق محطة اذاعة قصر الزهور. وقد كان يشرف على ادارة المحطة الملك غازي نفسه. واغلب ظني ان المرحوم الصفواني ربما ساهم في كتابة التعليقات السياسية التي تذاع من المحطة ولاشك انه كان خير من يجيدها. كما كان المرحوم اسماعيل حسن يتولى مهمة مذيع المحطة وكذلك المرحوم الملك غازي. حيث كان لا يرى بأسا ان يتولى الاذاعة في بعض الفترات. وكنت اتردد على اذاعة قصر الزهور بصفتي صديقا للمرحوم ناجي صالح فهو زميل دراسة وعمر، وسوف اتطرق في كلمة قادمة الى كيفية العمل فيها وفي برامجها والفنانين العاملين فيها ان شاء الله. اما عن المرحوم المذيع يونس بحري فقد عين مذيعا في اذاعة بغداد عند استئنافها العمل بعد ان اوقفتها حكومة حكمت سليمان وذلك خلفا للمرحوم عبد الستار فوزي اول مذيع في اذاعة بغداد وظل (البحري) يعمل فيها الى ان الحقت الاذاعة بمديرية الدعاية العامة في وزارة الداخلية فتم تعيين المذيع الكبير حسين الكيلاني. وقد جاء في خبر تعيينه الذي نشرته الصحف العراقية يومذاك انه تم تعيين السيد حسين الكيلاني مذيعا في اذاعة بغداد براتب شهري قدره (ثمانية دنانير) بدلا من يونس بحري الذي كان يشغل نفس الوظيفة براتب قدره ثلاثون دينارا). وفي عام 1938 عين المرحوم (الصفواني) سكرتيرا للإذاعة بعد المرحوم فؤاد جميل وكانت تابعة لوزارة المعارف. وفي ذات يوم منح يونس بحري اجازة لسفرة خارج العراق فتولي (الصفواني) عمله كمذيع.
اما حكاية قيام يونس بحري بفتح "سويج" للتشويش على اذاعة قصر الزهور فلا اعتقد بصحتها حيث كان يجهل الاعمال الفنية ولم تكن ثمة اجهزة تشويش على الاذاعات الاخرى وان كانت هناك فأغلب الظن انها موجودة في قاعدة الحبانية التي كان الانكليز يسيطرون عليها.
حسب جريدة الاتحاد البغدادية (جريدة اتحاد الغرف التجارية). العدد (103) الصادر بتاريخ 18كانون الاول 1988 ولمناسبة اربعينية المرحوم سلمان الصفوان.

اذاعة برلين
يقول الباحث محمد جابر الانصاري في مقالته عن الاستاذ عبد الله الزايد - الكاتب والاديب والشاعر والصحافي البحراني الذي اصدر لاول مرة جريدته - البحرين - في فترة عصيبة جدا في تاريخ العالم والمنطقة العربية في الخليج بكل ما تحمله تلك الفترة من مخاضات وتفاعلات على الساحة الدولية والعربية والخليجية.
يقول: وفي الوقت الذي كان فيه قصب السبق الصحفي ينمو لاول مرة في الكويت علي يد الرائد عبد العزيز الرشيد الذي اصدر مجلة (الكويت) ثم رافق يونس بحري في رحلته إلى اندونيسيا واصدرا سوية (الكويت والعراق). لقد كانت (جريدة البحرين) ذات طابع سياسي تغطي مجريات الامور في المنطقة وتنقل لقرائها احداث الحرب العالمية وتطوراتها. وعندما اخذ العالم العربي ومنطقة الخليج بخاصة بتأثر الصراعات الدولية الجديدة بين الحلفاء ودول المحور، ظهرت تيارات سياسية وفكرية مؤيدة للالمان منذ عام 1936 وخصوصا في العراق، الامر الذي جعل بريطانيا العظمى تخشى على وضعها الممتاز المتفرد في الخليج وتعمل الخطط المناسبة لمكافحة التهديدات الجديدة - ومن الخطط التي لجأت اليها أو تظاهرت السياسة البريطانية بها - خطة الانفتاح على شعوب المنطقة وافساح مجال حرية العربي واظهار التأييد للعرب وتجميل الآمال السياسية المستقبلية لهم لكي تكسبهم إلى جانبها وقت الشدة.
استفاد عبد الله الزايد صاحب جريدة البحرين من تلكم الظروف في وقت تراخت فيه القبضة الحديدية البريطانية عندما اصدر جريدته، فلم يمانع البريطانيون في اصداراها، محاولين سيطرتهم عليها لتكون في صف دعاية الحلفاء ضد الدعاية الالمانية الكاسحة والتي كسبت إلى جانبها انصار كثر في الخليج والبلاد العربية وفي العراق على الخصوص كما ذكرنا آنفا لا حبا في النازية ولكن كرها للاستعمار - وبريطانيا على وجه الخصوص. والواقع ان الزايد لم يستطع بحكم ذلك الضغط البريطاني ان يقف على الحياد، فجاءت مقالاته السياسية عن الحرب اكثر ميلا لمعسكر الحلفاء وان اتصفت عموما بالطابع الموضوعي اولا في وعود بريطانية معسولة إلى العرب وانتصارا لقضية الديموقراطية ضد النازية كما كان يقال آنذاك. لقد كان الزايد يلقي احاديثه الاسبوعية من اذاعة البحرين القديمة (التي اقتصر فيها على فترة الحرب)، ثم يقوم بنشرها فيما بعد كافتتاحية سياسية في الجريدة. ومن بين ما كان يقوله في احاديثه (احدثكم الليلة حديثي الاسبوعي المعتاد في السياسة العالمية والاحداث الحربية. وارجو ان ابدأ بحثي التفصيلي بأن استعرض لكم العالم اليوم بوجه اجمالي. ان العالم اليوم ينقسم بين قسمين رئيسيين الحلفاء ودول المحور. ففي حكم الحلفاء نجد ان الديمقراطيات ومن يتبعها قد اخذت تعد نفسها لحرب اجماعية. ونجد في قسم المحور ان الدول المعتدية التي سبق لها ان نظمت احوالها وكيانها للقيام بحرب اجماعية تقدم اليوم بمحاولة بائسة للاستحكام والوقوف في المنحدر التي هي منه...) ويستمر الزايد في تحليلاته في هذا الاتجاه إلى النهاية.وعلى أثر تلك المقالات المذاعة والمكتوبة كان رد فعل اذاعة برلين العربية التي كان يشرف عليها المذيع والسائح العراقي يونس بحري قويا وقاسيا في الوقت عينه فأخذت تذيع التعليقات النارية الحامية في مهاجمة خط جريدة (البحرين) وركزت تعليقاتها باتجاه صاحب الجريدة عبد الله الزان وأخذت تسهب في الكشف عن الحرب وثبت الاعلام المركز على الالمانيين في الخليج فشنت هجوما يوم السبت 26/ آب اغسطس عام 1939. مما اضطر الجريدة الرد عليها بمقالة تحت عنوان (مناقشة هادئة) في العدد 23 بتاريخ 31 آب اغسطس عام 1939 الذي جاء فيه نصا (طالعتنا اذاعة برلين مساء السبت الماضي باذاعة طويلة عن (جريدة البحرين) فالثانية انها ما كانت تحب ان ترد على جريدة عربية. وان جريدة عربية تصدر في البحرين يجب ان تكون رمزا للاخلاص في الوطنية، وان لا تجعل نفسها آلة صماء في ايدي المستعمرين وقد دفعها خصب الخيال أي (اذاعة برلين) إلى ان تقرأ في جريدتنا اشياء لم تكتب فيها.. واخيرا قالت اذاعة برلين (انها تقول لاصدقائنا اصحاب جريدة البحرين قولوا خبرا أو اسكتوا). لذا فان جريدة البحرين لا ترد على هذه الاذاعة بالتفصيل ولكنها ترد على النقطة الاساسية فتقول (ان على المانيا ان تفتش لها عن اصدقاء في غير بلاد العرب فتدافع عنهم لتكسب صداقتهم).
حسب محمد جابر الانصاري - مجلة الدوحة القطرية - تشرين الثاني - نوفمبر - 1976.

زكي مبارك في بغداد
بعد ان يسرد دكتور زكي مبارك ذكرياته عن بغداد وعن عمله التدريسي في دار المعلمين العالية في مقال نشره في مجلة الهلال المصرية ذي العدد 823 في سنة 1939، يعرج على حادثة وقعت له في شهر رمضان اذ يقول: كنت اعرف ان جلالة الملك غازي الاول يسره ان يستقبل الاساتذة المصريين، وقد تشرف بمقابلته كثير منهم في قصر الزهور، ولكني مع ذلك لم اطلب التشرف بمقابلته، لاني كما قلت اتهيب الاتصال بالملوك، وان كنت اديت بعض الواجب بتقييد اسمي في دفتر التشريفات يوم دخلت بغداد.
وبالرغم من هذا التحفظ كنت اتحرق شوقا الى معرفة الذوق الادبي عند صاحب الجلالة غازي الاول، فهو من اسرة هاشمية لها ماض مجيد في رعاية الادب الرفيع، وهو يجلس على عرش العراق الذي ازدهر الادب في رحابه حينا من الزمان.
ماذا اصنع لمعرفة الذوق الادبي عند هذا الملك؟ ماذا اصنع؟ ماذا اصنع؟
ايجوز ان اعرف كل شيء عن مظاهر الادب في العراق واجهل الذوق الادبي عند ملك العراق؟! اترك هذا الكلام واتحدث عن قضية اهتزت لها المقامات الرسمية في بغداد. فقد قضيت اول مساء في فندق (تايكرس بالاس) مع الدكتور محمود عزمي، فحضر شاب عرفت انه سكرتير الاذاعة اللاسلكية وهو السيد فؤاد جميل، وقد طلب ان اواجه الجمهور العراقي بكلمة في الاذاعة اللاسلكية، فاعتذرت ثم اعتذرت، لان الدكتور طه حسين بك كان اوصاني بان اترك (الهوسة الادبية) ايام اقامتي في العراق، وكان الدكتور طه حسين حكيما حين خصني بهذه الوصية. فهو يعرف اخلاقي، ويرجو الا تنتقل مشاغباتي من الميادين المصرية الي الميادين العراقية. ولكن السيد فؤاد جميل عاود الطلب والح الحاحا عنيفا، وانضم اليه الاستاذ محمود عزمي وعاونه سائر الحاضرين، فقلت: انا مشغول باعداد الدروس التي القى بها تلاميذي في بغداد، وما استطيع التفرغ لدرس في موضوع اواجه به الجمهور العراقي، فقال السيد فؤاد جميل: يكفي ان تقول كلمة موجزة عن رمضان..! قلت في الحال: وهو كذلك! ومضيت واعددت كلمة عن (الاسماء والاحاديث في ليالي رمضان) وازنت فيها بين القديم والجديد في استقبال شهر الصيام. وبعد اسبوع طال فيهما استنجاز السيد فؤاد جميل مضيت فالقيت ذلك الحديث بمحطة الاذاعة العراقية. وما كدت اخرج من باب الاستوديو حتى رايت السيد فؤاد جميل يصيح وهو مبهور: تليفون.. تليفون.. تليفون..! فمضيت الى التليفون وانا انتظر ان اتلقى تحية من احد المعجبين، ولكني سمعت صوتا رصينا يناقشني في دقائق المحاضرة. فقلت: استطيع ان اعرف حضرة المتكلم؟ وما كدت افوه بهذه العبارة حتى عرفت انه القى السماعة وانصرف.!
من هذا المعترض؟ ليتني اعرف؟!
وبعد لحظات دخل السيد يونس بحري فراعه ان يري سكرتير الاذاعة مكروبا، مغموما، فقال: ايش بيك يا فؤاد؟ ايش بيك يا فؤاد؟! واخيرا هتف فؤاد: جلالة الملك! جلالة الملك! فوقف يونس بحري وقفة الاجلال.
اما انا فقلت في صوت هادئ ورزين:
"يسرني ان يكون جلالة الملك سمع حديثي واعترض عليه" ثم انصرفت.. ويستمر حديث الدكتور زكي مبارك عن ذكرياته.