((النفط مستعبد الشعوب)).. يوسف ابراهيم يزبك.. بدايات توجه بريطانيا الى نفط العراق.. وكيف حصلت عليه؟

((النفط مستعبد الشعوب)).. يوسف ابراهيم يزبك.. بدايات توجه بريطانيا الى نفط العراق.. وكيف حصلت عليه؟

د. بشار فتحي العكيدي
كان النفط في العراق معروفاً منذ أقدم العصور، وقد أشار الجغرافيون والسوّاح إلى منابعه فيما كتبوه عن هذه البلاد، حيث كانت هذه المنابع تنتشر في أجزاء مختلفة من العراق وكان السكان يستغلونها بوساطة نظام الالتزام، وبعد أن كان النفط يستخرج بطرق بدائية قديمة ينقل بواسطة القرب على ظهور الحيوانات إلى أجهزة التقطير ومنها يوزع على المدن.

وعلى ما يبدو كان التعامل بهذه المادة لا يتعدى الحاجة إلى الإضاءة أو معالجة الإبل ولم يكن الناس آنذاك يدركون أهمية هذا المورد. غير أن بريطانيا لم تكن في البداية مهتمة كثيراً بالنفط. لكن الذي دفعها إلى تغيير سياستها هو حاجة اسطولها إلى النفط. وقد نبه جون فيشر (John Fesher) الذي أصبح قائد القوة البحرية بين عامي 1904-1911 الحكومة البريطانية إلى أهمية هذا المصدر المهم، فتشكلت لذلك لجنة للبحث عن مورد مضمون للنفط وعندما تولى ونستون تشرشل (Winston Churchill) وزارة البحرية 1912-1915 تبنى أفكار فيشر إذ أصبح الأسطول البريطاني في عصره يعتمد على النفط بدلاً من الفحم.
رافقت سياسة بريطانيا النفطية آنذاك منافسة من قبل الدول الأوربية التي كانت هي الأخرى تبحث عن مصدر دائم للنفط، فظهرت هنالك منافسة من هذه الدول للاستحواذ على المصادر الموجودة ضمن مناطق نفوذ الدولة العثمانية ومن ضمنها العراق، فحاولت بريطانيا أن تجعل من تدخلها في العراق وحصولها على مصادر النفط فيه أن يكون بصورة رسمية عن طريق الحصول من الدولة العثمانية على امتيازات تضمن لها حرية وسيطرة مطلقة على منابع النفط الموجودة في العراق، الأمر الذي حث بريطانيا وشجعها على بناء ركائز قوية لها في منطقة الخليج العربي، إذ أن هذا المورد قد فتح أفاقاً جديدة للصراع بين الدول الأجنبية على هذه المنطقة الحيوية من العالم.
دخلت بريطانيا أول الأمر في صراع مع ألمانيا للحصول على امتياز للنفط، وتمثل الموقف البريطاني في دعم وليم كوكس دارسي (W. K. Darcy) (1849-1917). حيث اتخذ دارسي في مفاوضات مع السلطة العثمانية منذ عام 1906 حتى عام 1908 عندما وقع الانقلاب العثماني. وعندما جاء الاتحاديون إلى الحكم في عام 1908 أظهروا ميلاً واضحاً لبريطانيا فحصلت مصالح بريطانيا على مركز مفضل في ميدان المنافسة. وفي عام 1910 تأسس البنك الوطني التركي (The National Bank Of Turky) برأسمال بريطاني، وجرت مفاوضات فيما بعد بين هذا البنك والبنك الألماني أسفرت في 31 كانون الثاني عن تأسيس شركة بريطانية في لندن بأسم شركة الامتيازات الأفريقية والشرقية المحدودة (The African and Eastern Concessions Ltd.) برأسمال قدره
50 ألف باون استرليني. وقد قسمت حصص المساهمة فيها بنسبة 25% بالبنك الألماني و 75% للبنك الوطني التركي وكاسل (Cassel) وهومالي انكليزي من أصل ألماني شجع حكومة بريطانيا على استثمار رؤوس الأموال البريطانية في الدولة العثمانية وكولبنكيان (C. S. Gulbenkian) (أرمني من عائلة عثمانية تعمل في البنوك والمتاجرة بالنفط الروسي، يرد اسمه في كتب النفط مقروناً بنفط العراق لما له من صلة وثيقة بقضية النفط العراقي، درس الهندسة في بريطانيا وعمل مستشاراً مالياً للحكومة العثمانية وتمتع بثقة الوزراء وبمركز مالي واجتماعي كبير، ولعب دوراً كبيراً في تأسيس شركة النفط التركية وكانت حصته فيها 5%، تخلى عن جنسيته العثمانية ليصبح مواطناً بريطانياً ثم نقل مركز أعماله من لندن إلى باريس تخلصاً من الضرائب وعندما قامت الحرب العالمية الثانية واحتل الألمان فرنسا تمكن من اقناع الحكومة الإيرانية باعتباره ملحقاً تجارياً لسفارتها في باريس حيث تمتع بالحصانة الدبلوماسية ثم نقل إلى لشبونه ومات في 20 تموز 1955 مخلفاً 70 مليون دولار نقداً). وفي أيلول 1912 عقدت الشركة اجتماعاً قررت فيه تحويل اسمها إلى شركة النفط التركية (T. P. C.) (The Turkish Petrolem Co.).
عدّ تأسيس شركة النفط التركية بين البريطانيين والألمان ضماناً لمصالح بريطانيا بالدرجة الأولى، حيث أدركت بريطانيا خطر المد الألماني إلى المنطقة، فوجدت أن أفضل وسيلة لضمان مصالحها هي الدخول في مفاوضات ومعاهدات مع ألمانيا لتجنب الحرب معها ولتضمن استمرار سيطرتها، لكن شركة النفط التركية واجهت فيما بعد ضغطاً كبيراً من لدن الحكومة البريطانية استهدف السيطرة على الشركة عن طريق شراء الأسهم، ودخلت الحكومتان البريطانية والألمانية في مفاوضات في تموز 1913 حيث دعت وزارة الخارجية البريطانية الأطراف المساهمة في الشركة إلى اجتماع يعقد في ديوان الوزارة في 9 آذار 1914، وتم توقيع على الاتفاقية المعروفة بـ (اتفاقية وزارة الخارجية) إذ من خلال هذه الاتفاقية أصبحت كافة أعمال الشركة تدار من قبل بريطانيا مع الحفاظ على حصة ألمانيا ثابتة فيها.
بعد أن فرضت بريطانيا سيطرتها على شركة النفط التركية أرادت توسيع امتياز شركة النفط الإنكليزية-الفارسية (امتياز دارسي) ليشمل العراق. وقد اتخذت بريطانيا من خلاف الحدود بين كل من الدولتين الفارسية والعثمانية وسيلة لذلك، حيث كان من المقرر أن ينقل قسم من الأراضي الفارسية إلى السيطرة العثمانية، وعندما تم التوقيع على بروتوكول تعيين الحدود بين الدولتين في 17 تشرين الثاني 1913 دخلت بموجبه منطقة ضيقة من الأراضي الفارسية المشمولة بامتياز دارسي تبلغ مساحتها 800 ميل مربع ضمن الأراضي العثمانية، لقد عرفت فيما بعد بالأراضي المحولة (Territories Trans Ferried) واعترفت الحكومة العثمانية بموجب هذا البروتوكول بحق الشركة في مد أنابيب النفط حتى الأراضي المحولة إلى الخليج العربي.
كانت الادعاءات تلك موجهة بالأساس ضد المصالح الألمانية في المنطقة، حيث لم يكن لبريطانيا آنذاك أي منافس سوى المانيا، وقد حاولت بشتى الوسائل الحد من نفوذها فقد كانت المانيا الشريكة الوحيدة لبريطانيا في شركة النفط التركية، لذلك حاولت بريطانيا حصر نفوذ المانيا فكان إدخال شركة النفط الانكليزية-الفارسية ضمن شركة النفط التركية يمثل هدفاً بريطانياً كبيراً. وبالفعل استطاعت بريطانيا من أخذ موافقة بريطانيا في 14 آذار 1914 في الاعتراف بكون القسم الجنوبي من العراق مجالاً حيوياً لشركة النفط الانكليزية-الفارسية وعلى الموافقة على مد سكة حديد بين الكوت ومندلي لنقل النفط الذي تعثر عليه الشركة هناك.
كان عام 1914 عاماً مليئاً بالأحداث الخطيرة التي شملت العالم بأسره، إذ شهد ذلك العام قيام الحرب العالمية الأولى والتي رسخت السيطرة البريطانية المطلقة على المنطقة من خلال احتلال بريطانيا للعراق وانهاء السيطرة العثمانية عليها. كما أفرزت الحرب العالمية الأولى سلسلة من المتغيرات حيث أصبحت فرنسا المنافس القوي لبريطانيا في المنطقة وحاولت بشتى الوسائل الحصول على موطئ قدم لها في المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية، في الوقت الذي كانت بريطانيا تسعى فيه إلى عدم الدخول في حروب مع دول حليفة لها. لذلك قامت بريطانيا باحلال فرنسا محل المانيا ضمن صفقة لإعادة توزيع الثروات النفطية، وقد بدأت المفاوضات في بداية عام 1919 وتم التوقيع على أول مذكرة اتفاق في 8 نيسان 1919 بين كل من لونك (W. Long) وزير المستعمرات والنفط البريطانية و بيرنجيه (H. Berenger) (عضو مجلس الشيوخ الفرنسي ولكنها لم تأخذ شكلها النهائي إلا في 24 نيسان 1920 عندما عقدت اتفاقية سان ريمو النفطية بين بريطانيا وفرنسا، وقد نصت اتفاقية لونك –بيرنجيه على أنه إذ ما عهد لبريطانيا بالانتداب على العراق فستعمد إلى استعمال وساطتها لدى الحكومة العراقية من أجل ضمان الحصول على امتياز مماثل الذي كانت قد منحته لشركة النفط التركية أو للشركة التي ستحل محلها. وستحصل فرنسا على نسبة من رأسمال هذه الشركة وتتمتع بكل الحقوق التي قد تقرر لحملة الأسهم، على أن تكون خاضعة للاشراف البريطاني الدائم. ونصت الاتفاقية كذلك على أن تكون حصة بريطانيا من شركة النفط التركية 70% ويكون لفرنسا 20% أما الـ 10% الباقية فتخصص لحكومة العراق المقبلة.
ان هذا الاتفاق بين دول اوروبا قبل وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى لم يكن إلا جذوة تحت الرماد، إذ لم تكد تشب نيران الحرب وتحتل القوات البريطانية منطقة الخليج العربي وجنوب العراق حتى عاد التنافس بين هذه الدول مرة أخرى على تقسيم ثروات العراق والوطن العربي التي كانت في هذه الأثناء جزءً من أملاك الدولة العثمانية. فكانت الدول الأوربية تتنافس فيما بينها للاستحواذ على ما يمكن استحواذه من ممتلكات الدولة العثمانية، وظهرت هنالك بعض القضايا التي قام البريطانيون فيها بدور كبير لترسيخ نفوذهم ومنها مشكلة الموصل. إذ احتلت بريطانيا الموصل بعد اعلان هدنة مودروس (Modrows) في 30 تشرين الأول 1918 فعدت بريطانيا الاحتلال لضرورات عسكرية مستندةً إلى نصوص الهدنة التي أعطت الحلفاء الحق في احتلال آية نقطة استراتيجية، في حين ذهب الأتراك بزعامة مصطفى كمال أتاتورك إلى أن الاحتلال غير شرعي لأنه وقع بعد اعلان الهدنة. فظهرت نتيجة لتضارب الادعاءات مشكلة الموصل إذ أن كل من هذين الطرفين يحاول الاحتفاظ بالموصل خدمة لمصالحه وأغراضه.
عندما وقعت اتفاقية سايكس-بيكو 9-16 آيار 1916 كانت بريطانيا تفكر في أن تستخدم فرنسا كحاجز بينها وبين روسيا، لذلك وافقت بريطانيا على اعطاء ولاية الموصل إلى فرنسا ولكن بريطانيا بعد الثورة البلشفية 1917 وانسحاب روسيا من شؤون الشرق الأوسط بدأت تحلم في تكوين امبراطورية (الشرق الأوسط) وهكذا أصبحت ولاية الموصل مهمة لادخالها في هذه الخطة لأسباب جديدة فضلاً عن النفط وفي كانون الأول 1918 حاول كلمنصو رئيس وزراء فرنسا في لندن أن يقنع لويد جورج بالاعتراف باتفاقية سايكس-بيكو من جديد ولكن لويد جورج طالب بتعديل الاتفاقية فيما يخص ولاية الموصل وفلسطين.وقد وافق كلمنصو على نقل ولاية الموصل إلى منطقة نفوذ بريطانية مقابل أن تنال فرنسا حصة من نفط الموصل وأن تؤيد بريطانيا فرنسا تأييداُ تاماً ضد اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك ونتيجةً لأطماع هذه الدول بنفط الموصل واندحار الدولة العثمانية ونشوء مملكة العراق تحت وصاية بريطانيا ظهرت مشكلة الموصل بعد الحرب العالمية الأولى.
لقد ارادت بريطانيا أن تجعل مشكلة الموصل تهديداً متواصلاً للعراق لكي تضطره إلى تسليم النفط إليها. كما ان اللجنة التي ارسلت إلى العراق كانت، كما هو واضح، تميل الى بريطانيا والدليل على ذلك ان اللجنة لم تبت في القضية إلا بعد أن تأكدت من أن شركة النفط التركية قد استطاعت الحصول على الامتياز في 14 آذار 1925، وبعدها بخمسة أيام فقط قررت اللجنة انهاء أعمالها وتم نشر القانون الأساسي العراقي في 21 آذار أي بعد اسبوع من توقيع الامتياز.
لقد كان توقيع الامتياز بين الحكومة العراقية وشركة النفط التركية يمثل قفزة كبيرة في المصالح الاستراتيجية البريطانية في العراق، إذ أن بريطانيا استطاعت من خلال هذا الامتياز أن تضمن لها مصالح ثابتة ودائمة من قبل الحكومة العراقية التي تأسست تحت العلم البريطاني آنذاك، وبغض النظر عن المساهمين في الشركة فقد كانت بريطانيا هي المالك والمسيطر الوحيد على الشركة، فكانت تلك بحق أكبر خدمة تقدمها الحكومة العراقية آنذاك لقوات الاحتلال البريطاني لا سيما إذ أدركنا ان هذا الاتفاق الذي وقعت عليه حكومة العراق قد جاء بدون رضاها، وقد أصبح أسم شركة النفط التركية فيما بعد بأسم شركة نفط العراق. وقد منح الامتياز لهذه الشركة لغاية عام 2000، وقد اقتضت هذه الاتفاقية بأن الشركة يجب أن تبقى بريطانية الجنسية وأن يكون رئيس مجلس إدارتها بريطاني، والذي زاد في مرارة العراقيين هو رفض الشركة السماح للعراق بالمشاركة في إدارة شؤونها وتوجيه أعمالها وعدم وجود أي عراقي يعمل فيها، وقد اقتصرت مشاركة العراق فيها على الحصول على نسبة أرباح تبلغ 2% فقط.
الاحتلال البريطاني للعراق:
من العوامل الاستراتيجية والاقتصادية التي مر ذكرها آنفاً كانت تقف وراء رغبة بريطانيا باحتلال العراق احتلالاً عسكرياً مباشراً، فالموقع الجغرافي للعراق على طريق الهند التي عرفت بـ (درة التاج البريطاني)، ووجود نهري دجلة والفرات وقربهما من البحر المتوسط لتسهيل عملية نقل البضائع والأشخاص وغيرها فضلاً عن المركز التجاري المهم الذي يشكله العراق بين مفترق الطرق وتنامي الرغبة البريطانية بالسيطرة على هذا الموقع ووضع اليد على النفط، كل ذلك كان مثار أهتمام السياسيين البريطانيين.
ان مشروع الاحتلال البريطاني للعراق لم يكن جديداً بل هو مشروع قديم تعود جذوره إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين رفع الكولونيل رولونسون (Colonel Rolinson) القنصل البريطاني في بغداد (1843-1859) مذكرة في يوم 13 حزيران 1853 إلى وزارة الخارجية البريطانية حثّ فيها حكومته إلى احتلال العراق.
وعلى ما يبدو ان الحكومة البريطانية لم تأخذ هذه التوصية بجدية آنذاك، إلا أن تنامي المصالح البريطانية في المنطقة بمرور الوقت دفعها إلى التفكير بايجاد حماية لهذه المصالح إضافة إلى الخوف من ظهور منافسة لها في المنطقة لا سيما بعد أن أصبحت ألمانيا تشكل خطراً كبيراً على المصالح البريطانية التي تنوعت بشكل كبير، وكنتيجة لذلك، أناطت حكومة الهند عام 1911 مهمة الاحتلال المباشر للعراق إلى لجنة رباعية تألفت من الأدميرال سليد (Admeral Sir. E. Slade) قائد البحرية العام وبرسي ليك (Sir. Percy lake) رئيس الأركان العامة في الهند و هنري مكماهون (Sir. H. Macmahon) سكرتير الشؤون الخارجية في الهند وبرسي كوكس (Sir. Percy Z. Cox) المقيم السياسي في الخليج العربي. فقدمت اللجنة تقريرها في 15 كانون الثاني 1912 وأوصت باحتلال الفاو والبصرة تعزيزاً لمكانة بريطانيا في الخليج العربي.
وعلى الرغم من عدم الأخذ بمقترحات اللجنة في حينها لأنها كانت سابقة لأوانها إلا أن القناصل البريطانيين في بغداد والموصل والبصرة انصرفوا لإعداد المعلومات اللازمة عن الجيوش العثمانية وأعدادها وتجهيزاتها وقدرتها على التحرك فضلاً عن القيام بوضع الخرائط اللازمة للأعمال العسكرية. ومع بداية اندلاع الحرب العالمية الأولى وجدت بريطانيا الفرصة مواتية للقيام بعمل عسكري ضد الدولة العثمانية متخذةً من وقوف العثمانيين مع الألمان ذريعة قوية لاحتلال العراق.

عن رسالة(صراع النفوذ البريطاني – الأمريكي في العراق 1939 – 1958)