الكتابة عن العظم  بين السيرة والسيرة الذاتية

الكتابة عن العظم بين السيرة والسيرة الذاتية

خلدون النبواني
في أكثر من مناسبة خاصة سمعتُ نقد العظم لحال المثقف الذي عندما يكتب عن مثقف آخر رثاءً أو تأبيناً أو شهادةً. مدحاً أو قدحاً يفيض المثقف المتحدث بالكلام عن نفسه أكثر مما يتحدث عن المثقف المُكرَّم أو المؤبّن موضوع الخطاب أو النص أو الحديث. كان نقد العظم ـ الفطن كعادته ـ يقوم على فضح طغيان أنا المُتحدّث التي تجعل من مجمل حديثه عن الآخر ـ الغائب غالباً ـ حديثاً عن نفسها

هي وبطولاتها هي وذكرياتها هي بدل أن تُغيّب نفسها من أجل إظهار غيرية الآخر وخصوصيته. وبمعنى آخر يفضح العظم هنا انتفاخ الأنا المتكلمة التي تقتنص فرصة الحديث «عن الآخر» لاستعراض نفسها هي فلا يكون الآخر المُتحدَّث عنه سوى مناسبة أو بالأحرى أداة للحديث من خلالها عن بطولات الأنا الراثية أو المؤبِنة أو المادحة. يؤدي نقد العظم هنا إذن ـ دون أن يقول ذلك صراحةً ـ إلى ضرورة تمييز الهو عن الأنا وعدم الخلط بينهما لأن ذلك يجازف بفتح الباب أمام الأنا المتمركزة على ذاتها لابتلاع غيرية الآخر واستخدامها لإشباع غرورها ونرجسيتها وذاتيتها.

أستعيد هذا النقد الذي سمعته في أكثر من مناسبة على لسان العظم الآن وأنا أشرع في الكتابة عنه هو لا لأًصادق على نقده ذاك ولا لأنقضه وإنما لأتساءل عن قدرة الأنا في الكتابة عن الآخر دون أن تختلط به وتعيد بناءه بقدر ما هي أساساً متأثرة به وخاضعة له. ولعل هذه العلاقة المتداخلة بين الأنا والهو أو بين الأنا والآخر تصبح خطيرة في كتابات من نوع السيرة الذاتيّة biography. في مثل هذا النوع من الكتابات التي يتم فيها الحديث عن حياة شخص آخر سواء أكان أديباً أو فيلسوفاً أو موسيقياً أو قائداً سياسيّاً الخ، يُنتَظرُ من «كاتب» السيرّة ـ الذي ليس هو موضوع السيرة وإنما ناقلها ومُحرِّرها ـ سرد وقائع موضوعية من سيرة الشخص موضوع الحديث: حياته وانجازاته ومواقفه وبطولاته أو مآسيه وتراجيدياته الخ. لكن هذه الصورة الحيادية الموضوعية المفترضة أو المأمولة لكاتب السيرة الذاتية biographer الذي يكتب عن حياة شخص آخر هي أقرب ما تكون إلى عمل المؤرخ أو المدوّن وتستحضر في الذهن بشكلٍ عفويّ الموضوعيّة والنزاهة والمنهجية والحيادية والنقل الأمين قدر الإمكان أي في الاتجاه الذي يأمله صادق العظم في نقده لتلك الأنا التي تتسلق هو الآخر لتستعرض نفسها.
ومع أنني أميل إلى التشكيك بموضوعية التأريخ وبطموحه العلميّ المنهجيّ في أن يكون موضوعيّاً وحياديّاً ونزيهاً، ورغم أني أقرب إلى الاقتناع بكون موضوعيته المفترضة مخترقة بشكلٍ كبير بذاتية رؤية المؤرِّخ وميوله وميكانيزمات السُّلطة الزمانية والمكانية المفروضة على تفكيره وقلمه بشكلٍ واعٍ حيناً وغير واعٍ في أغلب الأحيان، إلا أنني لستُ هنا لأناقش ابستمولوجيا التاريخ أو «علم التأريخ»، بل إنني أحاول الكتابة عن الآخر: صادق جلال العظم. وبمعنى ثانٍ أنا هنا بصدد كتابة شيء أقرب إلى السيرة الذاتية لآخر أي ا biography التي تُعتبر جنسٌّاً أدبيّاً أكثر من كونها «تأريخاً موضوعياً». إننا هنا إزاء أنا تكتب عن هو وهو أمرٌ في غاية الذاتية والتداخل. في مثل هذا النوع من الكتابات نحن أبداً لسنا في ذلك الحيز الافتراضي المثالي الذي افترضته مناهج العلوم الحديثة أي تلك العلاقة القائمة بين ذات باحثة وموضوع للبحث. أولاً لأن الحديث عن حياة آخر أو تجربته لا يمكن التعامل معها بوصفها موضوعاً جامداً وحياديّاً بل ذاتاً عاقلة حرّة وذات إرادة وحياة بكل ما تحمله لفظة حياةٍ من معنى وحيوية وحركة وما يحمله معنى الذات العاقلة من وعيٍ ولا وعي وتغير بل وتناقض وتجاوز وحاجة إلى التأويل وتغاير في الرؤى. إن حياة وحيوية وتغير الآخر يلغي كل إمكانية للتعامل معه بموضوعية بوصفه موضوعاً ثابتاً يمكن ضبطه وقوننته وتكميمه. وكما أنه لا يمكن لنا أن نحوّل ذات الآخر إلى موضوع بحثيّ إلا بتجريده من حياته العاقلة ووجوده الواعي واللاواعي وتشييئه، فإنه لا يمكن لنا أن نطالب «كاتب» السيرة الذاتية بأن يحوِّل أناه إلى موضوع حياديّ موضوعيّ ونزيه يتحدث عن ذاتٍ أُخرى. فالكاتب هنا ليس آله كاتبة أو لوحة مفاتيح أو مجرّد راقن أو ناسخ للنص وإنما ذاتٍ خالقة في كتابتها عن الآخر تفرض نفسها على السرد والتاريخ، بل وتعيد أحياناً بناء شخصية الآخر موضوع السيرة وتقدّمه بصورة ما كأن تركّز على جوانب وتهمل أخرى أو أن تسقط مشاعرها على الآخر المتناول كمشاعر الحب والتسامح والإعجاب والتقديس فتُقدِّمه بطريقة تبجيلية أو أن تُصفي حسابها معه فتجعله الشيطان الأكبر. بهذا المعنى من الخطأ إذن تسمية المشتغل على سيرة ذاتيةّ لشخص آخر بـ«الكاتب»، بل يجب نعته بـ«المؤلِّف» فهو ينتج ويبدع ويخلق أو يشوّه ويزوّر ويغيّر ويبدّل. إنه كالراوي أو الخالق الذي يصنع شخصياته بقدر ما تفرض هي نفسها عليه. لا وجود إذن لكاتب سيرة ذاتية موضوعيّ ولا لسيرة عن الآخر بوصفها موضوع تعالجه ذات وإنما عملية تفاعل أو صراع أو تبادل واعتماد بينذاتية أو ما نسميه بـ intersubjectivity أي علاقة معقدة بين ذاتين: أنا يؤلِّف عن هو غير سلبي وغير مفعول به تماماً بل فاعل أيضاً بحيث يعيد تأليف روايته هو بقلم أنا الآخر. وهنا تنزلق حدود biography لتسيل على وتتداخل مع autobiography كخيوط نسيجٍ متداخل يُصبح من الصعب فصلها عن بعضها البعض.
حصل هذا الانزلاق وتكرّر دائماً عبر التاريخ ومن هنا تأتي خطورة العلاقة البينذاتية التي لا مهرب منها في biography. يُمكن لنا في هذا الصدّد مثلاً استحضار حوارات أفلاطون بوصفها سيرة ذاتية على نحوٍ ما لسقراط: حياته وأخلاقه وحروبه الفكرية وجدالاته وأفكاره ونظرياته، لكنها أيضاً من خَلق أفلاطون الذي يُمثّل امتداداً لمعلمه بحيث لا يزال تاريخ الفلسفة يتردد إلى اليوم في نسب الحوارات المكتوبة لأفلاطون المُحرّر أو لسقراط المُتحدِّث الذي لم يكتب. سقراط محور حوارات أفلاطون كلها (عدا حوار القوانين) هو صوت أفلاطون والناطق باسمه في حين يختبئ هذا الأخير وراء شخصية معلمه. ثم كيف كان يمكن لأفلاطون، المكوّن سقراطياً، أن يكتب عن سقراط دون أن يشاركه هذا الأخير في الكتابة عن نفسه. حوارات أفلاطون عن سقراط بهذا المعنى ليست مكتوبة عن سقراط فقط وإنما عن أفلاطون أيضاً هي سيرة ذاتية عن سقراط بقدر ما هي سيرة شخصية عن أفلاطون وبتأليف سقراط وأفلاطون معاً. ثم حتى ولو قبلنا مثلاً فكرة أن أفلاطون كان يؤرّخ في حواراته لحياة وأفكار ومُثُلِ سقراط، فإن تأريخه ذاك ذاتيُّ جدّاً دون ريب يظهر فيه بجلاء كيف استجاب التلميذ (أفلاطون) لمشاعره وإعجابه بشخصية معلمه (سقراط) فأظهره كرسولٍ للأخلاق وقديسٍ أكثر من كونه فيلسوفاً ربما، بينما وصم خصومه بالجهل والسفسطة واللامنطق فصارت حواراته تلك تاريخاً للفلسفة طغى وهيمن على تاريخ الفلسفة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى اليوم.
بالعودة إلى حياة صادق العظم فإنه يمكن لي القول من خلال قراءتي الدقيقة لنصوصه ولمعرفتي الشخصية به أن العظم حريصٌ جدّاً، وهذا من حقه، على تقديم صورة معينة عن نفسه بإخراجه الشخصيّ وبتوقيعه هو. على خلاف الكثيرين، قد يطرب العظم لشيطنته ونقده بل إنه يستثير الآخرين لنقده ولا يزعجه أبداً وصفه بالكافر أو المُلحد والإشكالي والمثير للجدل ومحامي الشيطان بل على العكس يُسرُّ لذلك ويفرح باختلافه وتفرده عربياً بهذه المشاكسة. لا يني العظم يذكّر مثلاً أن عدد الصفحات الناقدة لكتابه الشهير «نقد الفكر الديني» هي أضعاف مضاعفة من حجم صفحات ذلك الكتاب الصغير. وهو يحتفظ بعناية بالأوراق التي تتهمه بالإلحاد ويقوم بعرضها على زملائه وأصدقائه بعناية كنقد القرضاوي له بعد مشاركتهما في حلقة «الاتجاه المعاكس» على تلفزيون «الجزيرة» أو كاحتفاظه وعرضه في مكتبه السابق في دمشق بكاريكاتير «الدمشقي الكافر» الذي نشرته صحيفة «النهار» عقب الضجة التي صدرت بعيد نشر كتابه ذاك. على عكس الكثير من الشخصيات العامة التي تهتم بهوس بتقديم صورة مثالية عن نفسها، حرص العظم طويلاً على تقديم نفسه بوصفه المفكّر الكافر رسميّاً في العالم العربيّ الذي تحكمه السماء وتطبق على خناقه(1). وإذ يطرب العظم لهذه الصورة ويُسهم في بلورتها بشكل مباشر عبر كتاباته وبشكل غير مباشر عبر استثارة الآخرين وحثهم على نقده والرد عليه، لا يتسامح العظم أبداً ولا يسمح للآخرين فعلياً بالحديث عنه بغير الصورة التي يريد هو تقديمها عن حياته(2). مرّة أُخرى أؤكِّد على حق العظم في تقديم الصورة التي يريد عن نفسه، ولكن سؤاليّ هو هل سينجح في ذلك؟
في روايته الفلسفية «الخلود»(3)، يُشبِّه ميلان كونديرا حياة الشخص العظيم بوصفها دعوى أو مُحاكمة دائمة مرفوعة أمام محكمة التاريخ بحيث تُعاد كتابة السيرة الذاتية للشخص الخالد مرّات كثيرة فيها بحيث تغص بعضها بالاتهامات والشكوك والأدلة وتمتلئ غيرها بالمرافعات والمدافعات والأدلة المُضادّة. لننظر كم مرّة أُعيدت كتابة السيرة الذاتية لكاتب خالد بحجم شكسبير وكم من مرّة اتُّهم بالسرقة الأدبية حتى أن بعض الباحثين بسيرته الشخصية اعتبروه كائناً وهمياً لم يوجد يوماً، بينما ذهبت عشرات السير الأخرى عنه لتفنيد خصوم الآخرين وتقديم أدلة مضادة لأدلة الآخرين. حصل ذلك أيضاً مع موليير ومع هايدغر، بل ويحصل ذلك باستمرار منذ هوميروس وصولاً إلى همنغواي. لا يوجد في مثل هذه المحاكمات قرار نهائي غير قابل للطعن بل استئنافات دائمة وفتح للدعوى من جديد؛ لا يوجد فيها تبرئة نهائية ولا اتهام بالإعدام؛ على العكس تمنح مثل هذه المحاكمات لسير العظماء الخلود الدائم. وإذ توجس الكثير من الكُّتّاب أو القادة السياسيون أو الشخصيات العامّة والمشهورة من مثل هكذا محاكمة مرفوعة أمام التاريخ، فقد أرادوا أن يقدموا شهادتهم هم قبل أن يُفصِّل حياتهم آخرون على نحوٍ يخالف روايتهم هُم عن أنفسهم أو يقدّمون طبعة مختلفة عن الطبعة الوحيدة لسيرتهم الشخصية التي يمكن فقط أن يسمحوا بها. كان جوته حريصاً جدّاً على إخراج سيرته الذاتيّة وبإشرافه هو وعندما لمح خطر قيام بِتينا، عاشقته والتواقة لدخول بوابة الخلود عن طريقه، وعزمها على كتابة سيرة ذاتية عن حياته (ستظهر لاحقاً في كتاب حمل عنوان مراسلات جوته مع طفلة) سمح لتابعه المُخلص إكرمان بإجراء شبه biography عن حياته تظهر لاحقاً تحت رقابته وبإشرافه الدقيق في كتاب حمل عنوان أحاديث مع جوته ليقطع عليها الطريق. لكن قلق جوته على احتكار رواية سيرته الذاتية لم يهدأ بهذه biography مع إكرمان فقرّر أن يكتب سيرته الذاتية autobiography بقلمه هو فكان كتابه حياتي – شعر وحقيقة.
تفطن نزار قباني كذلك لمسألة خلوده وضرورة مرافعته عن نفسه قبل أن يتناولها آخرون فكتب في سيرته الذاتية المُبكّرة قصتي مع الشعرـ سيرة ذاتية: «أريد أن أكتب قصتي مع الشعر قبل أن يكتبها أحد غيري، أريد أن أرسم وجهي بيدي، إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني، أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي قبل أن يقصني النقاد ويفصلوني على أهوائهم، قبل أن يخترعوني من جديد. ثلاثة أرباع الشعراء من فيرجيل، إلى شكسبير، إلى دانته، إلى المتنبي، من اختراع النقاد، أو من شغلهم وتطريزهم على الأقل. […] ولأني لا أريد أن أدخل غرفة العمليات، وأسلم جسدي إلى مباضع الناقدين، قرّرت أن أظهر على المسرح بشكلي الطبيعي ووجهي الطبيعي، وأتوجه إلى الجمهور مباشرة بغير وسطاء، وإعلانات حائط، وشبّاك تذاكر… قررت أن أستغني عن خدمات التراجمة، والأدلة وأتجول في مدينة الشعر وحدي… لأنني ما دمتُ أمتلك صوتاً، فلا حاجة لي لكل أجهزة التسجيل. لا أحد يستطيع أن يكون فمي أكثر من فمي…»(4).
وقد لجأ العديد من المفكرين العرب كذلك إلى كتابة سيرتهم الذاتية. هكذا فعل مثلاً عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية (من جزئين)(5) وكذلك فعل إدوارد سعيد في كتابه خارج المكان(6)، ومحمد عابد الجابري في حفريات في الذاكرة، من بعيد(7)، وكذلك فعل المفكِّر اللبناني علي حرب في سيرته المبكرة خطاب الهوية(8). ولكن ليس هذا حال صادق جلال العظم والمسألة هنا ليست في أنه لم يفعل بعد وإنما في أنه لن يفعل بتصوري فالعظم كما أعلم ليس من المولعين بكتابة السيرة الذاتية، بل ومن الناقدين لها. نادراً ما فتح العظم المجال للحديث عن سيرته الذاتية بشكلٍ ما فعل في برنامج «حوار العُمر» مع جيزيل خوريّ على قناة الـ LBC ثم في حواره الطويل مع صقر أبو فخر حوار مع صادق جلال العظم(9) حيث سمح فيه بتقديم شيء عن سيرته وحياته وعائلته وزواجه وطفولته وشبابه وقد فعل كذلك. لكن العظم هنا كان حريصاً، مثل جوته في حواره مع إكرمان، على تقديم نصه هو وصورته هو عن حياته الشخصية.
يتجلى تحفُّظ العظم وحذره بشكل واضح في نصه المنشور في جريدة «السفير» بتاريخ 30/07/2009 والمعنون «صادق جلال العظم … بقلمه: تقديم ذاتي ما» حيث يؤكّد فيه: «كثيراً ما طُلب مني تقديم معلومات عن نفسي لأسباب شتى، منها المهني ومنها العلمي ومنها الأمني، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتوجه إليّ أحد بطلب لأقوم بتقديم نفسي بنفسي إلى الآخر. وجدت في الطلب تحدياً لا بأس به، لأنني سأكون أنا الذات والموضوع في اللحظة ذاتها. لن أقدم نفسي على طريقة البوح بمكنونات النفس وأسرار الحياة، أو بسرد الاعترافات بكل ما هو حميم وشخصي وخاص، أو عبر الجرأة الزائدة على الذات. هذا ليس أسلوبي وأريد أن أحتفظ بالكثير لنفسي ولذاتي بعيداً عن أعين الغرباء؛ وإلا فما معنى أن أكون ذاتاً لنفسها وليس لغيرها فحسب؟ فإذاً لا بوح، لا اعترافات، لا وجدانيات، لا غراميات، لا وشوشات، لا استغابات، لا نسائيات، لا نميمة، لا عواطف أو انفعالات، بل شخصية عامة تحتفظ لنفسها دوماً وللأقربين أحياناً بخصوصياتها وحميمياتها واستمتاعاتها وطرائفها وسقطاتها ومباذلها.»(10) لا شك أن هذا من حق صادق العظم ومن حق أي إنسان الاحتفاظ بالأسرار الخاصة، لكن هذا لن يعفي الشخصيات العامة والمشهورين من فضول الناس حولهم ومن تقديمهم إلى محكمة الخلود التاريخية كما فعلت بِتينا مع جوته مثلاً أو حنا أرندت أو فيكتور فارياس مع هايدغر. لا. لا يكفي أن نعرف عن أرسطو أنه ولد وعمل ومات فقط كما طالبنا بذلك هايدغر، بل تهمّنا حياة الآخر وحضوره فينا.
وإذا كُنّا محكومين موضوعياً بالذاتية في كتابتنا عن السيرة الذاتية لآخر، فإننا نكون أقل ذاتية كلما كان هذا الآخر بعيداً عنا وكنا أقل امتزاجاً به وهذا ليس حالي عندما أكتب في هذه اللحظة عن صادق العظم. لن أكتب عن العظم إذن من الخارج ولن أكتب عنه بحيادية ليس لأني لا أريد، بل لأني لا أستطيع ولاستحالة الأمر. هكذا سيصطبغ حديثيّ عن العظم بحديث الأنا عن نفسها عندما تروي قصة الآخر والتي لن تكون قصة غريبةً عن الأنا بل قصتها هي بشكل ما وما أكتبه الآن عن العظم لا أكتبه وحدي وإنما يكتبه العظم معي أيضاً وفي اللحظة نفسها وربما قبلي حتى وإن لم يعجبه ما سنقوله أنا وهو عنه وعنَّا. إنه الأثر، أثره فيّ لا بمعنى التأثير فقط influence وإنما بمعنى الأثر trace الذي يحيل إلى حضور الآخر في الأنا حتى ولو كان حضوراً مخفياً أو ممحياً أو حتى حضوراَ أبوياً على هيئة شبحية كحضور شبح هاملت الأب وإملائه أوامره على هاملت الابن في مسرحية شكسبير الشهيرة. كيف لي أن أكتب عن صادق العظم بحيادية وقد تتلمذت على أفكاره وأعجبتُ، في بداية رحلتي الفلسفية، بكتبه وشجاعته وآرائه؟! مرّة أخرى لا أتحدث هنا عن رغبتي في أن أكون ذاتياً في كتابتي عن العظم وإنما عن استحالة تحقق الموضوعيّة والحيادية في هذا الأمر حتى في شروط مثالية متخيّلة ورغم أني عملت جاهداً بعد ذلك على الانعتاق من هيمنته الفكريّة والتحرر من سلطته وأسلوبه وقلمه، بل ونقده ودحض العديد من أفكاره. كيف يمكن لك أن تجتهد في نقد آخر إذا لم يكن يسكنك وإن لم يكن نقدك له مقاومة لحضوره فيك! إنك تقاوم شبحه وتأثيره وتفتح عينيك على وسعهما حتى لا تظهر آثاره جلية في كلماتك. وحتى ولو نجحت في مراقبة وعيك فإن أثر الآخر يُقرأ بين السطور ويتجلى في كاشف الحبر السريّ للاوعيّ. صادق العظم أثّر في تكوين وعي جيل كامل لطلاب الفلسفة في جامعة دمشق منذ نهاية سنوات الثمانينات وحتى نهاية التسعينات من القرن الماضي فضلاً عن حضوره الكبير في النقاشات الفكرية والجدالات الثقافية التي أثار الكثير منها شخصياً على الساحة الثقافية العربية وآثاره ستظهر جليّة أو خفيّة واضحة أو مواربة في أقلام الكثيرين من قرائّه والمهتمين به. شخصياً تأثرتُ به كثيراً في فترة دراستي الجامعية الأولى حدّ الهوس كما أُعجب نيتشه بشوبنهور وفاغنر حتى أن زملائي في القسم كانوا يصفونني بالعظميّ نسبةً لصادق العظم. أن أكتب أنا شيئاً عن العظم يعني أنني أتجاوز مُجبراً حدود البيوغرافيا biography إلى فضاء الأوتوبيوغرافيا autobiography ليصبح حديثي عنه حديثاً عنّي وعن جيلي، لأنا فردية وجماعية مسكونة أو متأثرة أو مُصابة بتجربته وسيرته وحياته وأفكاره. بهذا المعنى أضع نفسي في محاكمة العظم للأنا التي تتحدث عن نفسها من خلال الآخر، ولكن مرافعتي التي قمتُ بها أعلاه تؤكّد أنّ القصد الأخير من ذلك ليس الاستعراض الأنويّ بقدر ما هو توضيح استحالة الفصل نهائياً بين الأنا والهو أو بين الأنا والآخر وكما اختلط قلم أفلاطون بصوت سقراط لن أنجح أنا بفصل تجربة العظم الشخصية عن تجربتي الشخصية التي قد تكون امتداداً للأولى بقدر ما تشكل تهديداً لها بالتجاوز والتخطيّ أو بالخيانة أو بالانحراف والتشويه.
لا أظن أنني قرأت لأحد كما قرأتُ لصادق جلال العظم رغم تغير رؤيتيّ وتقييمي لأعماله وتباين درجة ولعي بأفكاره وكتاباته التي اختلفت مع السنين. سمعتُ باسمه أول مرّة في قسم الفلسفة في جامعة دمشق عند منتصف التسعينات حيث كان لا يزال أُستاذاً للدراسات العليا في القسم وكان اسمه مقترناً دائماً بكتابه الشهير «نقد الفكر الديني» الذي قادني فضولي الأعمى للبحث عنه (رغم منعه) وقراءته. لا أنسى وقع تلك الأفكار الصادمة الجريئة والمبالغ في يقينها وشجاعتها على وعي ذلك الشاب الذي كنته والباحث عن فكر تحرّري، علمانيّ، جريء ومختلف. (تراجع اليوم عندي ذلك الإعجاب بذلك الكتاب ولم يبق منه ربما سوى أثر الصدمة اللاواعيّ والمعالجة الأدبفلسفية الرائعة ?» مأساة إبليس»).
دفعتني قراءة ذلك الكتاب وقتها إلى قراءة كتابه الصادم الآخر في «الحب والحب العذري» الذي كان وقعه عليّ عظيماً فقد صدمني فيه ما أسماه العظم «مفارقة اشتداد الحب وامتداده»، أنا العاشق الحالم يومها والطامح لحب أبديّ مشتد دائماً. أتذكر أنني رميتُ الكتاب بعرض الحائط مع انتهائي من قراءته بكل ما تحمله كلمة رميته بعرض الحائط من معنى حقيقي وواقعي. (أعدتُ قراءة الكتاب بعد ذلك مرّات عدّة وقد اقنعتني فكرة تناقض الحب التي كشف عنها العظم والتي لا زلتُ أقاوم ظهورها بتوقيعه في كل مرّة كتبتُ شيئاً عن الحب).
في تلك الفترة ظهر كتاب العظم الجدليّ جداً «ذهنية التحريم» وقد قرأت الجزء المتعلق بالدفاع عن رواية «الآيات الشيطانيّة» لسلمان رشدي بمتعة لم أعهدها من قبل. كنتُ حينها في نهاية السنة الثانية في الفلسفة وكان العظم أستاذ الدراسات العليا فكنت أراقبه من بعيد بشيء من الوجل والرهبة دون أن أجرؤ على الاقتراب منه. ثم صدر كتابه «ما بعد ذهنية التحريم» والذي قرأته بمتعة أقل بكثير من «ذهنية التحريم» لكن صار عندي بعد قراءتهما رغبة لا تقاوم في الكتابة عنهما. تشجعتُ ورحت أحضر وأنا في السنة الثالثة دروس العظم في الدراسات العليا قبل أن أجرؤ على إعطائه عدة أوراق مكتوبة بخط اليد عن كتابيه ذهنية التحريم وما بعدها راجياً إياه أن يقرأها فقط. في الأسبوع التالي اقترب منيّ العظم وقال لي: نصّك ممتاز ويمكن لك أن تنشره لو أحببت. وقد ساعدني على نشر أول نص لي حينها والذي صدر بعنوان «النقاد العرب وقد سبق القلم العذل» مع مجلة «النهج».
ثابرتُ على حضور دروس العظم في الدراسات العليا وقد سمح لي بزيارته بعد ذلك في البيت. في تلك الفترة أتيتُ على قراءة مؤلفاته السياسيّة مثل «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و»زيارة السادات وبؤس السلام العادل» وكذلك «دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية». في بيته كنتُ أشعر به بعيداً، أرستقراطياً، جافاً وقليل المجاملة.
كنتُ قد قرأت كذلك مؤلفاته الفلسفية بما في ذلك التي كتبها بالإنجليزية وكانت غير متوفرة بالعربية وقد تطلّب منّي ذلك جهداً كبيراً، لكن كتابه الأهم فلسفياً، ليس فقط بالنسبة للعظم وإنما للمكتبة الفلسفية العربية، هو كتابه: «دفاعاً عن الماديّة والتاريخ» الذي لا أعرف كم عدد المرات التي قرأته فيها وكان الكتاب العربيّ الوحيد الذي استشهدت به في اطروحتي الماجستير والدكتوراه في باريس. مارس هذا الكتاب الممتاز تأثيراً قوياً عليّ وعلى بعض المهتمين بالفلسفة من زملائي في قسم الفلسفة بجامعة دمشق. كانت سعة اطِّلاع العظم الفلسفية ودقة ملاحظاته وقوّة جدالاته وجرأته العالية في النقد قد استلبت عقلي تماماً. بعد مرّات من القراءة ترافقت بتعرُّفي على مدارس فلسفية جديدة غير الماركسية تغيرت الكثير من أحكاميّ حول الكتاب دون أن أُشكّك لحظة بأهميته. كتاب «دفاعاً عن المادية والتاريخ» من الكُتب التي يصعب محو أثرها أو التهرُّب من نتائجها. في صراعي شخصياً مع هذا الكتاب اكتشفتُ أني مصاب به في خلافي معه وأنّي سأحارب شبحه إلى زمنٍ طويل. إنها لعبة المرايا.
بعد انقطاع سنوات التقيتُ بالعظم في باريس، فتفاجأتُ به وبحنانه ودفئه الأبويّ. أخذني بالأحضان كصديق قديم وأب حانٍ واختفت عن ملامحه شخصية الارستقراطيّ السيِّد المتعالي التي كنتُ لمحتها عنده في دمشق.
قد يُخفق العظم في احتكار سيرته الذاتية مثلما قد أفشل أنا وكثيرون غيري من تلاميذه في التحرّر من أشباحه. إنه جزء من ذاكرة الثقافة السورية والعربية، بل جزء من تاريخ الأفكار، والأفكار خالدة لا تموت.

هوامش
--------------
(1) لست في هذ المقام لأناقش إشكالية إيمان العظم أو إلحاده فهذا الأمر إشكالي برأيي ويحتاج إلى ورقة أخرى لا مكان لها هنا، لكنني أود إظهار كيفية اعتناء العظم بتقديم صورة عن نفسه يُشرف هو عليها وعلى إخراجها.
(2) حصل هذا مثلاً في حواري معه في باريس عندما حاولت أن أبحث في المسكوت عنه أو اللاواعي واللاعقلاني عند العظم فأجابني بصورة حادة وغاضبة: «اعتبر هذا أمراً خاصاً بي أكشف أحياناً عن بعض جوانبه أو قد يستشفه القارئ من النصوص ولكنني لا اعتبره مهماً مثل القضايا التي أناقشها وأعالجها؟». صدر حواري معه أولاً على موقع الأوان الإلكترونيّ على دفعتين بتاريخ 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ثم الجزء الثاني بتاريخ 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2009. بعد ذلك صدر الحوار كاملاً في كتابي: خلدون النبواني، في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها ـ دراسات فلسفية وفكرية، دار المدى، بيروت، 2011، ص، 230 ـ 264.
(3) ميلان كونديرا، الخلود، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق ـ سوريا، 1999.
(4) نزار قباني، قصتي مع الشعر، سيرة ذاتية، منشورات نزار قباني، بيروت، لبنان، 1974، ص. 7 ـ 8.
(5) عبدالرحمن بدوي، سيرة حياتي (جزئين)، بيروت، 2000
(6) إدوارد سعيد، خارج المكان (مذكرات)، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب، بيروت، 2000.
(7) محمد عابد الجابري، حفريات في الذاكرة، من بعيد، مركز دراسات الوحدة العربيةـ بيروت، 1997.
(8) علي حرب، خطاب الهوية ـ سيرة فكرية، منشورات الاختلاف، 2008.
(9) صقر أبو فخر، حوار مع صادق جلال العظم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000.
(10) صادق العظم، «صادق جلال العظم … بقلمه: تقديم ذاتي ما»، السفير، 30/07/2009.

عن مجلة نزوى 2016