المعماري رفعت الجادرجي يتحدث عن ظاهرة اكل (البامية) في العراق

المعماري رفعت الجادرجي يتحدث عن ظاهرة اكل (البامية) في العراق

يؤلف كل تعامل فردي او اجتماعي احداث ظاهرة اجتماعية وهي ذلك الشيء الذي يحدث حصيلة تفاعل الفرد مع عالمه المعيش بهدف تطمين احد المتطلبات البايولوجية والاجتماعية ويؤلف تكرار احداثها مقوما ومقرراً اجتماعيا لذلك المجتمع.

تطمن الاحداث حاجة يومية كتهيئة الطعام واكله او تطمن احداثا ووقائع كالزواج عند بلوغ الفرد سن الرشد او اقتناء الحلي عند رغبته في التزيين او لاعتباره الحلي رصيداً مالياً، ويشكل كل من الطعام والزواج واقتناء الحلي، ظاهرة اجتماعية بالقدر الذي يمنحها الفرد الممارس قيمة ذاتية واجتماعية، علاوة على ذلك فان وراء كل ظاهرة تكمن بنيوية تؤلف التكوين الحقيقي والخفي للظاهرة، فان اردنا التعرف على الظاهرة علينا اولا ان نتعرف على مقوماتها التي تتجمع وتترابط مكونة المقررات ومن ثم التعرف على ترابط هذه الاخيرة وتفاعلها وتاثير كل منهما في الاخرى.

سأصف الان ببعض التفاصيل بنيوية احدى الظواهر الاجتماعية بادئا بتأثير مقوماتها على انها تؤلف الاساس المادي والفكري، ومن ثم سلوكية تفاعل الفرد مع المادة، ذلك التفاعل والترابط الذي يحيل المقررات الى قوة حقيقية قائمة بتغيير المادة من حالة الى اخرى، واخيراً اظهار دور الفكر في اثناء التعامل مع المادة كظاهرة فكرية.

لهذا الغرض ساتناول ظاهرة يتعامل معها ويمارسها كثير من العراقيين وهي تناول طبخة البامية.

يولع المجتمع العراقي عامة بتناول البامية كغذاء ويشتهيها اينما حل فهي تؤلف ظاهرة اجتماعية مهمة بالنسبة الى غذائه وتشمل مقوماتها المادية بنى ثانوية متعددة منها المعومات الغذائية وهي الدهن، اللحم، خضار البامية، الثوم، الطماطة، الحامض، كما تضم مقومات غذائية لاحقة او اختيارية منها الملح، الماء، الفلفل، السكر، التمر هند فضلا عن مقومات عملية الطبخ وهي القدر، الطباخ، ادوات تقديم الطعام، وبالامكان تسطير المقومات المادية لمختلف العمليات المكملة الاخرى، كتقديم الطعام وما يحتاج اليه من صحون وادوات المائدة وادوات النقل.
ننتقل بعد هذا الى وصف سلوكية طرائقية العمليات ونهجها مختلف البنى الثانوية بما في ذلك نقل المواد الخام، تسويقها، خزنها، طبخها، رفقة الطعام والجلوس على سفرة او مائدة، سلوكية المناسبات ونهجها ومواعيدها، توزيع العمل وطرائقيته ومنهجية سلوكية مختلف البنى التي تؤلف الظاهرة، اي ماهية الفكر التي تؤلف القوة الحقيقية خلف كل هذه السلوكيات كالمعرفة والتدريب والتجديد والتقليد والخبرة اللفظية والمرونة واخيراً ترابط كل من هذه البنى ومقوماتها وتفاعلها في تشكيل ظاهرة تناول غذاء البامية (حيث) لايتعامل الفكر مع ظاهرة اكلة البامية فحسب بل يؤلف عنصراً فعالاً في احداثها وفي الترابط المتبادل، وفي الوقت ذاته تكثيف ظاهرة اكلة البامية الفكر الاجتماعي وتكونه كما ان لكل فرد موقعاً خاصاً به فاذا تفحصنا بعض مفردات الظاهرة يظهر لنا تدريجيا تأثير كل منها في الاخر، لنتناول بعضاً منها لاجل التفحص بدءاً بالمعرفة التي اعتبرت البامية مفيدة كوجبة طعام ثم تنظيم مواعيد اكلها ليتوافق مع الفعاليات الانتاجية الاخرى فمثلاً: هل تتحدد وجبات الطعام باثنتين او ثلاث في اليوم واي منهما الرئيسة او الثانوية وهل هناك من يميل لاكلها صباح اليوم التالي وما مقدار توافقها مع النواحي المناخية والموسمية، مواعيد ومناسبات تقديمها وترابطها مع التقاليد والطقوس والعادات الدينية والعقائدية ان وجدت، وترابط المواعيد ومنهجية التقديم مع النواحي الاعتبارية والطبقية والمرتبية (مما يذكر ان الطبقة العليا في بعض همود العصر العباسي نفرت من البامية واعتبرتها طعاما غير مستحب) مدى تذوقها باعتبارها طعاما يشكل تحسسا ذوقيا في لونها وطرائقية اكلها، رائحتها، طعمها، حجمها وشكل قطعها، تصفيفها في الصحن، نوع الصحن وجمالية الفرش او المائدة، توافقها مع الوجبات الاخرى كالرز والخبز ومختلف انواع قطع اللحم والشحم، كمية السمن ونوعه فكل من هذه المقومات الثانوية تؤلف مقوما في التكوين العام لبنية ظاهرة اكلة البامية.
لقد ربط المجتمع العراقي هويته على قدر تعلق الامر بالناحية الغذائية مع تناول وجبة البامية شأنه بذلك شأن مجتمعات اخرى ربطت هوياتها مع وجبات معينة كالملوخية عند المصري والمعكرونة عند الايطالي والشاورمة عند اللبناني ولحمة البقر المشوية عند الانكليزي.
ان ظاهرة اكلة البامية اكتسبت مقومات تخص هوية الفرد يتم التعامل معها بموجب سلوكية مقننة وحسب معرفة وعرف محدد لذا فانها بالنسبة للفرد ظاهرة ذات سمة اجتماعية معينة، فالعراقي هويته الذاتية في هذا المجال.

من هنا يمكن ان نحدد الشكل البنيوي للبامية، فالشكل يصور المظهر الخارجي لصيغ وتقاليد اكل البامية وهذه حصيلة التفاعل البنيوي المتبادل بين قطبين هما مادة البامية وتقنية طبخها كقطب والبامية كغذاء يشتهى ويتاق اليه كمطلب اجتماعي في القطب الاخر وذلك عن طريق الفرد المنتج اي الطباخ وظروف انتاجه ومزاجه ومهارته والذي يؤلف القطب الثالث في هذه العملية الاجتماعية معاً والمتلقي المتناول للوجبة، وهكذا يتألف التفاعل الحقيقي فرديا او اجتماعيا من قوة وطاقة ومكنة ومعرفة طبيعية وبايولوجية وقلطرية تتسم بشكل يتوافق مع تصور المصنع والمتلقي تخضع جميع الظواهر الاجتماعية التي تستهدف الانتاج باعتقادي الى تفاعل جدي يخص بنية الظاهرة ويكمن وراء هذا التفاعل ثلاثة مقررات مؤلفة من ثلاثة اقطاب تكون حصيلة تفاعلها تغير مادة معينة من حالة فيزيوكيميائية الى اخرى بهدف اشباع مطلب اجتماعي معين سيان ان خصت هذه الظاهرة الغذاء او الملبس او المأوى او اللهو اوالعبادة او غيرها من الفعاليات والمتطلبات الاجتماعية والفردية.

عن كتابه (حوار في بنيوية الفن والعمارة)
من فصل (الظواهر الطبيعية والاجتماعية).