رفعة الجادرجي.. العمر المديد، لك، ايها الصديق العزيز!.

رفعة الجادرجي.. العمر المديد، لك، ايها الصديق العزيز!.

د. خالد السلطاني
عندما انهى رفعة الجادرجي تعليمه المعماري من مدرسة همرسميثHammersmith للفنون والأعمال بلندن / المملكة المتحدة (1946-52)، بدء نشاطه المهني فورا في وطنه العراق، الذي استمر به لغاية نهاية السبعينات، عندما اضطر الى إيقاف نشاطه المهني إثر واقعة سجنه، بدواعي تلفيقات كيدية، افتعلها النظام الديكتاتوري التوتاليتاري البغيض.

كان جو الخمسينات، عندما بدء الجادرجي مشواره المهني، مترعاً بنفس الحداثة، وزاخرا بها. الحداثة، بكل تجلياتها واجناسها الإبداعية. وكانت العمارة، بالطبع، تستنشق ذلك النفس التجديدي، وترتوي من نبعه الخلاق. كان المعماريون الشباب وقتها، ورفعة احدهم، يؤمنون بان جديدهم التصميمي ينبغي ان يتساوق مع مقاربات ما يجري في الورشة المعمارية العالمية، ويتماثل مع مناخها الإبداعي. يتعين التذكير، بان مفاهيم وقيم المرحلة المعمارية السابقة، قد وصلت الى نهاياتها، بتوقفها عن «إنتاج» الجديد، واستمرائها باستنساخ وتكرار ذات الحلول التصميمية. كما ان وجود معماريين حداثيين ابان تلك الفترة: فترة الخمسينات، امثال عبد الله احسان كامل، وفيليب هيرست، والين جودة الايوبي، وجعفر علاوي ومدحت علي مظلوم ومحمد مكيه وايغور بلاتينوف وغيرهم، قد ساهم في تعضيد مسعى أولئك الشباب، وتكريس قيم الحداثة المعمارية في المشهد المحلي.
لقد أخذ المعماريون الشباب، وبضمنهم رفعة الجادرجي، (وخصوصا رفعة الجادرجي!) على عاتقهم تبني قيم الحداثة المعمارية، من خلال نماذج مبنية، اسهمت في تعريف الجمهور البغدادي على جديد ما يجري في الوسط المهني، مساهمين في تغيير الذائقة الجمالية، وبالتالي جعلوا من الجديد المعماري امراً مقبولا، وحتى مستحسنا ومعترفاً به، رغم ان مرجعيته الإبداعية تعود الى مصادر أخرى بعيدة. وأعتقد بأن مأثرة رفعة الجادرجي ومأثرة رفاقه ايضاً، كمنت في هذا الجانب تحديداً، في تبني تلك المقاربة اساساً، وهي إن قيم عمارة الحداثة، لم تعد حصراً على مستنبطيها الاوائل، كما انها لا تنتمى بالضرورة الى بيئة جغرافية محددة، وانما هي فكر تجديدي متاح للجميع، وعلى المعمار المجد ّ تقع مسؤولية تطويع تلك الافكار وقيمها بحيث تكون متساوقة مع خصوصية اشتراطات المكان، المكان المحدد الذي يعمل به وله. تجدر الإشارة، بان تلك الفعالية التي دأب الجادرجي على ترسيخ قيمها في الممارسة المهنية، يتعين ادراكها كنوع من محاولات تهشيم «التمركز» المعرفي، وليس الى التماهي مع «المركزية الاوربية»، كما فهم ذلك، اصحاب «المركزيات» الخاصة، المتغذية من مرويات الذات المتوهمة بوهم التعالي والتمايز، والمتبجحة بدعوات إقصاء الاخر، والمنادية بالقطيعـة معه، وتعتيم نجاحاتـه المهنية والابستيمولوجية.
يمكن اعتبار اسلوب توزيع الفراغات في تكوينات التصاميم المنفذة من قبل رفعة الجادرجي في اوائل مراحل مساره المهني حدثا معماريا مهما انطوى على تغيير رديكالي، ميزه عن ما كان متبعا ً وشائعا ً في الممارسة المهنية العراقية، اذ عد ذلك الاسلوب صنوا ومرادفا لما وصلت اليه عمارة الحداثة من انجازات اسلوبية في حقل الممارسة التطبيقية. فعمارة « بناية الجوربه جي « في شارع الشيخ عمر ببغداد (1953) المتسمة شرفاتها على ارتفاعات مزدوجة،على سبيل المثال، وكذلك عمارة «دار كتخدا» عند ساحة الفردوس ببغداد ايضا (1959)، استمدا طريقة توزيع احيازهما من مرجعية تصميمية غير معتادة وغير معروفة في النشاط المهني المحلي؛ ذلك لان حضور عمارتهما في المشهد المعماري، اريد به التذكير مرة اخرى بان قيم الحداثة، (الحداثة المعمارية بالطبع)، يمكن لها ان تستوطن بسهولة وواقعية في بيئات جغرافية وثقافية متنوعة.
خلال السبعينات وبعض سنين الستينات، انهمك الجادرجي في الاشتغال على ثيمة المعالجات المناخية مجددا ً، باساليب مغايرة لتلك المعالجات التي وسمت نشاطـه التصميمي في الخمسينات، متوخيا ً ان تكون تقصياته الاسلوبية في هذا المجال بمثابة «ضربة» التكوين واساس الحل التصميمي لمشاريع عديدة انجزت ابان تلك الفترة. فلم تعد تشكل مهام ترسيخ الاساليب الحداثية في التكوينات المصممة وجديد طرق توزيعاتها الحيزّية، امرا تصميما مثيرا؛ ذلك لان هذه المهمة امست مهمة عادية وشائعة في الممارسة المهنية المحلية فضلا على تقبلها والاشتغال عليها من قبل زملائه المعماريين العراقيين الآخرين. لقد وجد رفعة الجادرجي في موضوع التماهي تصميميا مع المشكل المناخي فرصة سانحة لترسيخ مقاربته التصميمية في الخطاب المعماري الاقليمي، وإرساء خصوصيتها وتمّيزها عن النهج الإبداعي لمجايليه. اذ انطوت فعالية الاهتمامات المناخية، في الفترة التي نتكلم عنها، بالنأي بعيدا عن استخدام وحدة تشكيلية رئيسية ومن ثم اللجوء الى تكرارها لتحقيق مهام صياغة الواجهات كما شاع سابقا، وانما الاتكاء على اساليب بديلة توفرها تبعات الحرية الواسعة لطريقة رسم تلك الواجهات بتشكيلات فنية استثنائية. وتناوب ذلك الاشتغال من اسلوب «مبنى داخل مبنى»، وفقا ً لتعبير المعمار العالمي الشهير «لويس كان»، الى مفهوم حضور «الجدار المتكسر»، الذي ارتؤي ان يكون ذا مهام وظيفية وجمالية ً في آن، الى ولع تغيير «فورمات» الوحدة المكررة افقيا ً وعموديا ً والمتزامنة دوما بهاجس التوق الدائم في تغيير المقياس، طمعا في حضور «المسألة» المناخية حضورا مؤكدا ً في التصاميم المنجزة من قبله وقتذاك.
تبدو «الاطروحة» الجادرجية المعتمدة في بعض مرتكزاتها على «اختلاق» جدار آخر، لواجهة «ثانية «، تبدو تنويعا جادا ً لتلك المفاهيم التي شاعت في الستينات، في المشهد المعماري العالمي. ففي مبانٍ عديدة مثل مبنى «اتحاد الصناعات العراقي» ببغداد (1966)، ومبنى «شركة التأمين الوطنية» في الموصل (1966)، ومبنى «فرع مصرف الرافدين» ببغداد (1967)، و»عمارة الشيخ خليفة» في المنامة / البحرين (1969)، ومجمع «مجلس الوزراء» ببغداد (1975)، اضافة الى مشاريع تصاميم لم تنفذ مثل مبنى «القصر الجمهوري» ببغداد (1967)، و»المصرف الوطني» في ابو ظبي (1970)، و»مجلس الامة» في الكويت (1972)، و»المبنى الاداري» في دبي (1975)، وغير ذلك من المشاريع المنفذة وغير المنفذة، يحضر في جميعها مفهوم: مبنى داخل مبنى «الكانوي» ذائع الصيت حضورا ً بليغا في تكويناتها. بيد ان معالجات الجدار « الاخر» المؤسس للواجهة « الثانية « في جميع تلك المشاريع مشغول هنا، باستدعاءات هيئاتية متنوعة، مستلة من مصادر «فورمات» البيئة المبنية المحلية، ويراد بها ابراز تعاطف المعمار مع خصوصية شواهد المكان. ولم يكن اسلوب إنشاء «الجدار الآخر» هو الاسلوب الوحيد الذي تعاطى معه الجادرجي في ايجاد حل للمشكل المناخي؛ فثمة تصاميم عديدة انجزت بالتزامن مع اطروحة الجدار الاخر، ومعظم تلك التصاميم كانت تستحضر بفورماتها الاسلوبية ما كان يدور من نقاشات داخل ورشة الممارسة المعمارية العالمية، والتي ظل رفعة الجادرجي احد متابعيها المجدين.
ادرك رفعة الجادرجي مبكرا ً بان النشاط المعماري المميّز يستقيم جيدا بالعمل الجماعي. العمل الناتج عن جهد معماريين عددين، وبمشاركة اختصاصات هندسية متنوعة؛ فسعى مع رفاقه: المعمار عبد الله إحسان كامل، والمهندس إحسان شيرزاد والإنشائي ارتين ليفون الى تأسيس «المكتب الاستشاري العراقي» في بداية الخمسينات، مرسين بذلك تقليدا جديدا في الممارسة المهنية المحلية. وظل المكتب يرفد الحركة المعمارية العراقية على امتداد عقدين ونيف بنماذج تصميمية، شكل حضورها الفريد حيزا ً أساسيا من حركة الإبداع المعماري العراقي، لقد ساهم في انجاز وتحقيق التصاميم التي اشرنا الي بعض ٍ منها في هذه الكلمة، معماريون كثيرون، عملوا مع رفعة الجادرجي، وكانت مداخلاتهم التصميمية سببا في ايصال الفكرة المعمارية الى مستويات مهنية رفيعة من الاتقان والجمالية.
عندما كتبت دراستي في عام 2006، بمناسبة بلوغ الجادرجي الثمانين من عمره المديد، قلت فيها: هل بمقدور مفردات مقننة ومحددة ان تعبّر بوضوح ورمزية عن منجز معمار ما؟ - نعتقد ذلك؛ وفي حال منجز رفعة الجادرجي، يتطلب الامر محض مفردتين لا غير، وهما: الحداثة وتمثلاتها. التمثيل التائق للتعبير عن الحداثة باسلوب خاص ومتفرد، كان دوما مترعا بحضور روح المكان، او ما يدعوها هو بـ «الاقلمة «، وهاتان المفردتان كافيتان، فيما نعتقد، لاضاءة مقاربة هذا المعمار المجدّ بكل سيرورتها المبدعة وتنقلاتها الاسلوبية المفاجئة. ثمة،اذاً، حضور طاغ ٍ للحداثة في منجز المعمار العراقي المعروف، حضور يزيده ترسيخا ً في المشهد المعماري المحلي والاقليمي نوعية ثقافة المعمار الرصينة، المتابعة، بجد، لحراك التجديدات «الافنغاردويه» في الممارسة المهنية العالمية، القادرة على حسن الاختيار، والمؤهلة للانتقاءات الطليعية.!
بعد سبع سنوات، من ذلك التصريح، أجد نفسي مصيباً في قراءة منجز رفعة الجادرجي: المنجز التجديدي، والطليعي، وعالي المهنية. وهو بهذه الصفات، جعل من عمارته تلك، نبعاً، ومثالاً، وقدوة لنا، نحن المعماريين العراقيين، للاستمرار في نهج التجديد والاصالة والابتكار لعمارة جليلة، ومبدعة،.. وجميلة ايضاً.
تفيدنا المعاجم اللغوية، بان مصدر كلمة «معمار» Architect، يذهب الى جذر في اللغة الاغريقية، يتكون من لفظتين: αρχι، ومعناها:كبير، بارز، رئيسي، رائد، أساسي؛ ومن لفظة: τέκτων، وتعني: بنـّاء، معلم، اسطه. وبهذا يكون معني معمار: كبير الاسطوات، او المعلم البارز.
فايها الصديق، ايها المعمار: معلمنا البارز، والمهم والرائد، ستظل عمارتك، تمتعنا، وترشدنا، وتلهمنا لاجتراح عمارة اكثر اشراقاً، واكثر جمالاً، واكثر طليعيةً، متجاوزة العادي، والساكن، والمألوف.
واذ نحتفي بك، ايها الصديق العزيز، ايها المعلم، فاننا نحتفي، ايضاً، بمثقف عميق الثقافة، وبإنسان، مترع بالحس الإنساني وبتقبل الآخر.