نظريــــــــــة جدلية العمارة..

نظريــــــــــة جدلية العمارة..

رفعة الجادرجي *
أطروحة الجادرجي التي كتبها سنة 1951، ونقحها سنة 1958، ونشرها في كتابه ” شارع طه وهامرسمث ” سنة 1985، وكانت المانفستو المهني والفلسفي، التظيري والتطبيقي للمعماري على مدى حياته وممارسته وإنتاجه المعماري وكتبه..

مقدمة..
إن تاريخ العمارة في جوهرة هو تاريخ التناقض بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنية لتلك المرحلة. فالعمارة هي العلم الذي يتناول حاجة إنسانية معينة، إنه العلم الذي يتناول الأيواء والتحويط بشكل أو بآخر، لحاجات يكيفها المجتمع، بعبارة أخرى العمارة كقيمة مادية هي جزء من القاعدة، جزء من الأنتاج. إضافة إلى ذلك، فإنها العلم الذي يتناول أفكار البنية الفوقية بصياغتها في شكل مخصوص ؛ وهذا الشكل يعكس ويتخذ دوراً فعالاً في صياغة أفكار القاعدة الاجتماعية ؛ أي أن العمارة كفكرة هي أحد عوامل البنية الفوقية. لهذا فمن الواضح أن للعمارة جانبين: الأول أنها قيمة مادية ولذا فإن أنتاجها، أي البناء، يجب أعتباره كجزء من الأنتاج العام، والآخر أنها فكرة ولذا فإن إنتاجها يجب أعتباره كجزء من البنية الفوقية. فإذا حصل تجاهل لأي من هذين الأتجاهين أو لم نوف قيمتها الأجتماعية كاملاً، فإن نظرية العمارة تضحى آحادية الجانب ومغالية، وهذان الجانبان هما وجهان لنفس الظاهرة الأجتماعية، العمــــــارة.

المطلب الأجتماعي في العمارة..
قد تكون المطالب الأجتماعية هي أفكار البنية الفوقية التي تحتاج إلى نشر بواسطة العمارة ؛ وأن تكون هي المتطلبات المادية، أي التحقيق المادي للعلاقات الأجتماعية بصيغة العمارة، بمعنى العلاقة بين انسان وانسان ؛ إن الملوك ما عاشوا قط في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف عبيدهم، ولا عاش الفلاح في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف الصانع في المدينة.. كذلك العلاقة بين الأنسان والطبيعة، فعمارة ساحل البحر ليست متماثلة مع عمارة الريف، ولا عمارة القرية متماثلة مع عمارة المدينة، ومناطق الغابات تنتج عمارة مختلفة عما تنتجه المناطق الحجرية أو البركانية.. كل واحدة من هذه تتطلب من الانسان ظرفاً معمارياً مختلفاً ؛ بعبارة أخرى فإن للمطلب الأجتماعي في العمارة جانبين: الجانب العقائدي والجانب المادي، والأول يتكيف من قبل البنية الفوقية لمرحلتها، والتي تشتمل على أفكار ومخيلة تلك الحقبة، والثاني يتكيف بقاعدة المرحلة ومتطلبات الأنتاج فيها.
التقنيــة في العمارة..
لا يكفي أن نسأل لماذا أنتجت عمارة ما، بل المهم كيف أنتجت؟، ذلك أنه بالنتيجة لا يتحدد المطلب الأجتماعي في العمارة لوحده بمرحلة تطور الأنتاج عموماً، بل تتحدد كذلك، وعلى الأخص، الوسيلة التي بها أمكن تحقيق المتطلبات للمطلب الأجتماعي ليبلغ أقصى غايته في تلك المرحلة المعينة. فإننا إذا أخذنا بنظر الأعتبار المطلب الأجتماعي، أي متطلباته العقائدية والمادية معاً، وتجاهلنا التقنية المطلوبة التي تحققه في البعد والموضع والسرعة ودقة العمل، فإن دراستنا ستكون أحادية الجانب. إن المطلب الأجتماعي في العمارة هو أحد القطبين، والقطب المواجه له هو القوى الأنتاجية لتلك المرحلة ـ الناس، مهارتهم، ووسائل الأنتاج ـ كلما حدث تناقض بين قطب وآخر.
التناقض الجدلي في العمارة..
ثمة مفهومان أساسيان للتطور، الأول المفهوم الميكانيكي الذي يعتبر التطور بمثابة زيادة بسيطة، تكرار بسيط، وتراكم ومزج للأشياء الموجودة سلفاً، لذا فإن هذا المفهوم غير قادر على تفسير نشوء الجديد من القديم، كيفية وسبب مجئ عملية ما لحيز الوجود، كيفية تطور التغيير الكمي إلى تغيير نوعي وبالنهاية فإنه سيطلب العون من شئ خارجي، عن العمليات المادية الفعلية، ولذا فإنه بشكل أو بآخر يدخل الظاهرة غير المرئية في عمليات تطور المادة.. والثاني المفهوم المادي الجدلي، المفهوم الذي ينطلق من وجهة نظر تفيد بأن كل شئ يتطور بواسطة نزاع بين أضداده بواسطة فصل، أنقسام، لكل وحدة إلى أضداد قائمة بذاتها بشكل متبادل … إنه يقتضي التغلغل في أعماق عملية مخصوصة، والكشف عن القوانين الداخلية التي هي مسئولة عن تطور تلك العملية، هذا المفهوم يبتغي اسباب التطور ليس خارج العملية، بل بباطانها ذاتها، إنه ينبغي أساساً الكشف عن مصدر الحركة الذاتية للعملية.. لذا فلا يكفي أكتشاف التناقض الأساسي في العمارة، بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنينية، كما أن من المهم على السواء أكتشاف التناقض الباطني للتناقضات الخاصة والعامة لا بل أكثر، فمن بين مئات التناقضات الخاصة يجب تشحيص التناقض الرئيسي الأساسي والجوهري، وكل تناقض خاص يجب تصنيفه حسب الدور الذي يتخذه في الظاهرة موضوع الفحص. وليس كل وحدة تحوي لذاتها أضداد قطبية، بل أن هذه الأضداد مترابطة بصورة متبادلة بعضها ببعض، إن جانباً واحداً من تناقض لا يمكنه البقاء بدون الآخر … ليس ثمة عمل ميكانيكي بدون فعله المقابل، إن الأنحلال الكيمياوي للذرات مرتبط بشكل لا ينفصم مع أتحادها، والطاقة الكهربائية تفصح عن نفسها على شكل كهربائية كتقابلة ـ إيجابية وسلبية. وإن التجوال الأجتماعي، تجوال الانسان داخل التحويط لبناية ما لا يمكن أن يتحقق في العمارة بدون سبق وجود التحويط أو المنشأ، والعكس بالعكس، فإن المنشأ، الجانب الآخر من التناقض لايمكن أن يوجد بدون المطلب الأجتماعي ؛ إن المنشأ والتجوال الأجتماعي هما ضدان وفي توحدهما ونزاعهما تعثر على مصدر وجودهما وفنائهما..
إن جدلية العمارة تظهر نفسها على النحو التالي:
الموضع الطبيعي لبناية ما يقرره المطلب الأجتماعي، بتناقضه مع التقنية. وهذا التناقض له جانبان..
إن المطلب الأجتماعي لبناية ما يقرره موضعها الأجتماعي ـ الجغرافي، كقربها من نهر أو قرب وقوعها على جبل …الخ من جهة، أو في مدينة أو قرية من جهة أخرى، هذا الجانب يقرر توفر مواد البناء كالطين والحجر والخشب … الخ ويقرر العلاقة الأجتماعية بين بناية وأخرى، بأعتبارها قطباً مضاداً تنتفع من هذه المواد الموجودة، فتتقدم البناية المعينة وفق موضعها.
الطبيعة الخاصة لموقع البناية: الطين الرمل الحجر … الخ، والتقنية تحل مسألة الموقع لتلك البناية في موضعها ذاك المخصوص.
التجوال الأجتماعي، أي حركة الناس المشروطة أجتماعياً، وذلك من ناحية علاقة الانسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالانسان معاً، هو في بناية ما، القطب المضاد للتقنية في حل متطلبات هذا التجوال: نمط مختلف من التحويط مثلاً يكون مطلوباً لمعمل دون البيت ؛ في البيت الانسان مشروط بعلاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالطبيعة، كقطب مضاد للتحويط الممكن تقنياً، هذا التناقض يقرر حجم وعدد الغرف … الخ في البيت، هذا هو تناقض التجوال الأنساني، كضد، للمنشأ الممكن تقنياً.
علاقة النوافذ الضرورية أجتماعياً، الناحية الصحية، الناحية العقائدية والمادية في تناقض مع التقنية المطلوبة لأشباع هذه الحاجات. إن التطور التقني للنافذة القوطية، مثلاً، قد حتمته أجتماعياً مفاهيم صحية أفضل وأمن أجتماعي أكبر، وأستعمال النافذة لأغراض عقائدية (أي الزجاج الملون).
إن الحاجة العقائدية الضرورية إجتماعياً في تناقض مع التقنية ـ هذا التناقض لا يشترط فقط التجوال الفعلي العام، أو مفهوم الحيز للحقبة الزمنية … بل ينطوي كذلك على النشر المباشر لأفكار الحقبة، مثل النحت والزجاج الملون والأعمدة المذهبة والتيجان والزخارف عامة …
الأشكال القائمة سلفاً بالتناقض مع أنتاج شكل جديد، أي الشكل القائم سلفاً، أستيعاب وأستعارة الأشكال بالتناقض مع التقنية، والعكس بالعكس، التقنية القديمة القائمة مع أنتاج أشكال جديدة، وأشكال مستوعبة أو مستعارة كما يقتضيه عامل المحتوى. إن أستمرارية الأشكال أو أستعارة الأشكال القديمة المطلوبة من قبل المحتوى، المطالب المادية والعقائدية معاً للقاعدة والبنية الفوقية للمجتمع ـ كنتيجة إما لتخلف أفكار قديمة أو التزامل مع أفكار قديمة أو مؤسسات وعادات أجتماعية قديمة ـ تناقض مع الظروف التي تتطلبها التقنية الجديدة في إنتاج شكل جديد. إن الطرائق القديمة للتقنية، بمعنى كونها عاملاً في أنتاج الشكل، تتناقض مع المتطلبات الجديدة للمحتوى المتولد حديثاً والبنية الفوقية أيضاً في انتاج شكل جديد.

* عن كتاب (شارع طه وهامرسمث)