كلاوزفيتز..تصويبات وصور مغايرة لعبقري القرن الـ19

كلاوزفيتز..تصويبات وصور مغايرة لعبقري القرن الـ19

عرف التاريخ الإنساني عدداً قليلاً من أولئك المنظّرين الحربيين والستراتيجيين الكبار الذين تركوا بصماتهم على الفكر الستراتيجي في جميع الأزمنة بعدهم. ومن بين هؤلاء المنظّر الصيني الشهير «صون تزو»، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ومكيافيللي، القائد العسكري الستراتيجي، صاحب المقولة الشهيرة القائلة إن «الغاية تبرر الوسيلة».

والمنظّر الثالث الأكثر تأثيراً على الفكر الستراتيجي والعسكري في التاريخ الحديث هو «كارل فون كلاوزفيتز»، صاحب الكتاب الشهير «عن الحرب» الذي غدا مرجعا أساسيا في مجال الفكر العالمي الستراتيجي الحربي والذي يعتبره النقّاد أنه في طليعة الذين جددوا الفكر العسكري الحديث.
وسيرة حياة «كارل فيليب غوتيب فون كلاوزفيتز» وأفكاره وتأثيراته الفكرية الستراتيجية هي موضوع كتاب«برونو كولسون»، المؤرّخ البلجيكي والأستاذ في جامعة نامور«ببلجيكا والاختصاصي بالتاريخ العسكري وبالمسائل الستراتيجية. يحمل الكتاب عنوان "كلاوزفيتز".
و"كارل فون كلاوزفيتز"، كما يعرّف به المؤلف، هو من مواليد عام 1780 في ألمانيا وتوفي عام 1831 في بولندا. ويصفه منذ البداية أنه "ينتمي إلى فئة أولئك المشاهير المجهولين الذين طمست أعمالهم سيرة حياتهم".
ويقصد المؤلف بذلك العمل بالتحديد كتاب كلاوزفيتز الشهير الذي جرت إعادة طباعته عشرات المرّات في مختلف اللغات العديدة التي تمّت ترجمته لها، أي "عن الحرب". وكان قد تمّ نشره بعد خمس سنوات من وفاة مؤلفه ليصبح في عداد "أمهات الكتب الخالدة". ويؤكّد المؤلف أنه لو لم يتم نشر كتابه "عن الحرب" فإن كلاوزفيتز كان بقي مجهولا مثل آلاف الجنرالات الذين قضوا في ساحات المعارك أو غيرها.
وتجدر الإشارة منذ البداية أن برونو كولسون الذي سبق له وقدّم سيرة حياة نابليون، يرسم في هذا العمل الجديد صورةمغايرة جدا للصورة التي رسمها عامّة أولئك الذين سبقوه إلى كتابة سيرة حياة المنظّر الكبير كلاوزفيتز.
وعلى خلاف ما وُصف به كلاوزفيتز سابقا أنه "قليل الحساسية" و"ذو عقل مغلق" و "محافظ منكفئ على نفسه"... وما إلى ما هناك من توصيفات تسير في نفس المنحى، إنه يصف كلاوزفيتز بـ"شخصية منفتحة"و"ذو علاقات اجتماعية عديدة"..في غاية الاتزان وصاحب نزعة حداثية، مؤكدا أنه من الميزات الكبرى التي اتسمت بها شخصية كلاوزفيتز أنه كان صديقا مخلصا في صداقاته وفي علاقته مع أسرته.
بل ويذهب المؤلف إلى التأكيد، على عكس الصورة السائدة عن «بطله»، أنه كان متمرّدا في بعض الأحيان ضد ما كان يتعارض مع قناعاته. هكذا لم يقبل أن يضع نفسه في خدمة مشاريع نابليون مما كلّفه النفي بعيدا خارج بلاده «بروسيا» التي كانت حليفة لنابليون آنذاك.
كانت الوجهة التي قصدها «كلاوزفيتز» في منفاه هي روسيا القيصرية، حيث ساهم في «الحملة الروسية» في عداد جيش القيصر. كما شارك أيضا في جميع المعارك الكبرى التي عرفتها الفترة النابليونية وليس أقلّها معركة «واترلو» بالقرب من العاصمة البلجيكية بروكسل والتي عرفت هزيمة جيوش نابليون.
ويشير المؤلف أنه كان للقرارات التي اتخذها كلاوزفيتز وزن كبير في سير المعارك.
وإذا كان مؤلف هذه السيرة يولي الكثير من الاهتمام لرسم سمات «كلاوزفيتز» كقائد عسكري بمرتبة عسكرية عالية ــ جنرال ــ، فإنه يولي انتباهه أيضا لتوصيف دور«المفكّر الستراتيجي والعسكري» الذي لعبه بالنسبة للأجيال اللاحقة.
ويشير أنه كان قد كرّس السنوات الأخيرة من حياته لتوثيق ما عرفه وشاهده وعاشه خلال الحملات الأساسية التي شارك فيها. ولكن كرّس أيضاً بالتوازي مع ذلك وقتا كبيرا لكتابة «رائعته» التي حملت عنوان «عن الحرب».
كذلك يولي «برونو كولسون» أهميّة خاصّة في هذه السيرة لما يسميه «البعد التربوي ــ البيداغوجي» لدى كلاوزفيتز. ويشرح أن ذلك الجنرال البروسي ــ الألماني ــ حاول دائما أن يجعل الآخرين يقبلون أفكاره بواسطة الإقناع وسرد الوقائع.
ويعتبر المؤلف أن من أهم جوانب الحداثة التي أدخلها كلاوزفيتز في مجال الفكر العسكري أنه ربط باستمرار بين ما هو سياسي وما هو عسكري. وهو صاحب المقولة الشهيرة التي يرددها الباحثون في المجال المعني والتي مفادها أن "الحرب هي متابعة السياسة بطريقة أخرى".
ولا شكّ أن هذا الكتاب عن سيرة حياة كارل فون كلاوزفيتز سيكون من المرجعيات الأساسية من حيث انه يلقي أضواء جديدة على سياقات الحروب. وما قد يساعد كثيرا على فهم التوترات الجيوستراتيجية المعاصرة التي يتعاظم اتساعها وحدّتها لتشمل الكثير من مناطق العالم اليوم... وفي مقدمتها الشرق الأوسط.
يحاول المؤلف أن يضع كلاوزفيتز في «سياق عصره»، بل يعتبره «سابقاً لعصره». ويؤكّد أن أحد المصادر الأساسية التي استقى منها أفكاره تمثّل في «عصر التنوير» الفرنسي في القرن الثامن عشر. وكان قد أبدى الكثير من الانفتاح على أفكار العصر وأراد الاستفادة من «دينامية» أفكار عصر التنوير كي يجعل قيادة الجيش الألماني آنذاك قابلة للتعلّم من علوم الحرب الحديثة.