ليوناردو دافنشي.. ساحر عصر النهضة

ليوناردو دافنشي.. ساحر عصر النهضة

عندما انتهى الفنان التشكيلي «عادل السيوي» من قراءة كتاب «نظرية التصوير» بالإيطالية، لفنان عصر النهضة ليوناردو دافنشي، وجد نفسه أمام نص قديم، من عصور خلت، نص خاص كتبه عبقري النهضة ليوناردو دافنشي، بيده اليسرى، معكوسا، لا يقرأ إلا بمرآة، كان دافنشي عبر هذه الأوراق يحاور نفسه أولا، فيدون أفكاره، ويرد على الخصوم،

ويسجل المهام والتفاصيل، التي يخشى أن تراوغ الذاكرة، فأي قوة ظلت مطوية داخل هذه الأوراق، بعد مرور كل هذه السنين، وكيف تأتى لها أن تفاجئنا وتؤنسنا، ونحن نبحث عن إجابات لأسئلة أيامنا.
تلك كانت تساؤلات عادل السيوي الذي دفعته قوة النص، لأن يتحمس لترجمته، برغم إدراكه صعوبة المهمة، فالنص مكتوب بلغة القرن الخامس عشر، ومن داخل قاموس خاص بليوناردو وحده تقريبا، فقد ترك بعد وفاته كما كبيرا من الأجهزة العلمية واللوحات والأدوات الفنية، كما ترك أيضا كماً هائلاً من الأوراق المليئة بالأفكار والملاحظات والرسومات والحسابات، وقد أطلق على هذه الأوراق عدة أسماء، بما أنها نالت شهرة كبيرة في تاريخ الفن والأدب معا، فسميت أحيانا أوراق ليوناردو، وأحيانا أخرى مدونات ليوناردو، وفي بعض الأحيان سميت كراسات دافنشي، وقد بلغ عدد الأوراق التي ظلت محفوظة من تراث هذه الفنان الكبير 7 آلاف ورقة من الحجم الكبير.
وفقا لتقدير الباحثين فإن هذه الكمية من الأوراق تشكل نصف ما تركه ليوناردو لتلميذه «ميلزي» لحظة موته، فإذا صح ذلك يكون ليوناردو قد كتب ما يقرب من 14 ألف صفحة، في الفترة الممتدة من تاريخ بدء الكتابة، التي يفترض أنه قد بدأها في الثامنة عشرة من عمره، أي في عام 1470، والتي انتهت بوفاته في سنة 1519، أي على مدار ما يقرب من 50 عاما.
كان ميلزي- تلميذ دافنشي- أول من قام بتصنيف هذه الأوراق، وتجميعها في مجلدات، وفقاً لاعتبارات مختلفة، لكن بعد موته بدأت رحلة الضياع والتلف لهذه الأوراق، وتشتت الكثير منها في دول أوروبية مختلفة، بل وصل بعضها إلى القارة الأمريكية، وقد أجمع الباحثون الذين درسوا مخطوطات دافنشي الأصلية، على أن الفنان كان بصدد تأليف ثلاثة كتب منفصلة هي كتاب «التصوير» ثم «الميكانيكا» ثم «التشريح» وقد ذكر ليوناردو في كثير من الفقرات أفكاره حول هذه الكتب وطريقته في إعدادها، لكن حتى الآن لم يعثر أحد على كتاب «التشريح» أو كتاب «الميكانيكا»، وبقيت منهما فقط فقرات متناثرة في مخطوطات ليوناردو الأصلية.
أما كتاب «نظرية التصوير» فقد كان أكرم حظا من الكتابين الآخرين، فقد ظل طي النسيان داخل مكتبة الفاتيكان التي تأسست عام 1472 ولم يعلم أحد بوجوده حتى أخرجه إلى النور مثقف مستنير، أشرف على طبعه للمرة الأولى في عام 1817، وكانت رحلة تشتت أوراق ليوناردو منذ أن تركها لتلميذه، بناء على وصيته، فقد أدى إهمال عائلته هذه الأوراق المهمة إلى ضياع وتلف العديد منها، وبدأت رحلة التشتت منذ عام 1610.
تمكن الدارسون بعد تحليل أسلوب الكتابة وطريقة الصياغة وشكل إخراج الكتاب من تحديد الفترة التي طبع فيها لأول مرة كتاب «نظرية التصوير»، وهي منتصف القرن السادس عشر، وكما يقول السيوي فإن ميلزي كان حريصا على ترك توقيعه بجوار المناطق المفقودة في النص الأصلي، وقد استأجر ناسخا للقيام بنقل النصوص من المخطوطات الأصلية، واستعان هذا الخطاط بمرآة كي يتمكن من قراءة المخطوطات، لأن ليوناردو كتب أجزاء كثيرة منها معكوسة من اليمن إلى اليسار ومقلوبة أيضا، وقد ترك الناسخ توقيعه في آخر الكتاب، وأشار إلى أنه نقل هذه النصوص من المخطوطات الأصلية لدافنشي مباشرة.
يجمع الدارسون على أن هذا الكتاب هو أهم مرجع نظري تركه ليوناردو، ويكفي أن يشير الناسخ إلى المشاكل التي واجهته أثناء عملية النقل، لأن النصوص مكتوبة من اليمين إلى اليسار معكوسة وباليد اليسرى، وهذا هو بالضبط ما اتبعه ليوناردو عند الكتابة، كما أن الكتاب يسوده أسلوب واحد ومنهج واحد في طرح المشاكل، كما تتوافق فيه الأفكار بدرجة كبيرة، ما يؤكد صحة نسبته إلى دافنشي.
كان ليوناردو يتمتع بقدرة خاصة على الملاحظة الدقيقة للظواهر، وقد دفعته هذه الملكة الخاصة لأن يوسع إطار الظواهر والأشياء، التي يتعين على المصور مراقبتها، ما أدى لأن يتضمن نصه مجموعة من المشاهدات والأبعاد، التي كانت تعتبر من وجهة نظر سابقيه أمورا تخص البحث العلمي وحده، ولا تدخل ضمن نطاق اهتمامات المصور.
يتضح من نص ليوناردو أنه يرفع من منزلة البصر والمشاهدة فيساوي بين الرؤية والإدراك، ما قاده لأن يتعامل مع عملية الإبصار بوصفها الوسيط الطبيعي لتجميع المعطيات العلمية، وأن يعتبر الرسم الوسيلة المثلى لإعادة صياغتها ونقلها للآخرين، ولم يرق أحد من سابقيه إلى طرح هذه العلاقة بنفس الدرجة من التركيب والنفاذ.
يربط ليوناردو بين النظرية والتطبيق في كل جزء من كتاباته، ويدفع أي فكرة تطرأ له إلى الممارسة والتجربة العلمية، كما يكشف في كل واقعة مادية بعدا نظريا عميقا، ولهذا يعتبر كتابه شاهدا على بداية عصر الحداثة وعلى نهج التفكير الجديد الذي سيطر بعد ذلك على ثقافة البشرية.
لم يكتف ليوناردو في نصه بالتركيز على أهمية الملاحظة الدقيقة للظواهر والأشياء، وإنما تجاوز ذلك لمحاولة اكتشاف القوة الكامنة وراء هذه الظواهر، فهو لا يعتبر العالم الظاهر مجرد تجليات، وإنما يراه كحاجز ساكن وجامد لاندفاعات طاقة خفية، كما ينظر إلى الجسد بوصفه السجن المادي للروح، التي تسعى للفناء والتحرر عبر تفتتها في الكون اللانهائي، هذه الفكرة الكبرى عن فناء الطاقة وعن التعارض بينها وبين المادة جعلت تحليله للظواهر يختلف عن جميع ما كتب في عصره، بل جعله مادة مفتوحة للتساؤل حتى الآن.
بقراءة سيرة دافنشي فإنه ولد عام 1452 في مدينة صغيرة بالقرب من فلورنسا، وحين كبر التحق بمرسم أحد الفنانين الكبار، وفي عام 1472 يظهر اسمه لأول مرة في سجل الرسامين في فلورنسا، وفي العام التالي يرسم أول لوحة مؤكدة نسبتها إليه وهي لوحة «عذراء الجليد» ثم ينجز لوحة «النبوءة» الموجودة الآن بمتحف أوفيتسي بفلورنسا وفي سنة 1473 يوقع ليوناردو بيده اليسرى اسمه معكوسا، ويكتب التاريخ أيضا على رسم لمنظر طبيعي، وكان ذلك في 5 أغسطس/‏‏آب 1473.
بعد ذلك يبدأ ليوناردو في توسيع معارفه العلمية على نحو موسوعي، كما يتضح من الأوراق التي تركها في تلك الفترة، ويبدأ في تأصيل محصلة مترابطة من علوم الطبيعة، ويكتب في نفس الوقت عن علاقة الفن بالعلم، ويكتشف أن الرياضيات والبصريات يمكن أن تشكل معا قاعدة للربط بين التصوير والعلوم الوصفية، ثم يتسع اهتمامه بعلوم النبات والتشريح والفلك والهيدروليكا.
ينزل دافنتشي فلورنسا للعمل والإقامة في ميلانو في عام 1482، حيث توجد وثيقة تثبت وجوده في ميلانو في ذلك الوقت، وهي العقد الذي وقعه للقيام بتصوير اللوحة الكبرى في مذبح كنيسة القديس فرانشيسكو، وقد أنجز لوحة «عذراء الصخور» الموجودة الآن في متحف اللوفر بباريس، لتحتل نصف جدار المذبح.
تقوم حرب بين لومباردية والبندقية تهدد ميلانو بالدمار، ويتفشى الطاعون في ميلانو والقرى المحيطة بها، ويقضي على 50 ألف شخص، وتترك هذه السنوات أثراً قاتماً على كتابات دافنشي وروحه، ما يكشف عن حس عبثي أسود، ويقوم بعمل مجموعة من الدراسات عن مدينة فاضلة، وتنحسر حدة الوباء، وتبدأ المدينة في الانتعاش من جديد.
يبدأ ليوناردو عام 1502 في رسم لوحة «الموناليزا» بعد عامين من التوقف عن الرسم، إذ تعرض لأزمة نفسية حادة، بعد أن سقطت إحدى لوحاته، وبعد أن يضيق الخناق عليه من الكنيسة يسافر إلى فرنسا، وعندما وافته المنية كان قد أوصى بأن يدفن في إيطاليا، فيعاد جثمانه إلى فلورنسا ليدفن فيها.