قراءة في (حدائق الرئيس)..لمحسن الرملي

قراءة في (حدائق الرئيس)..لمحسن الرملي

موسى الحوري
أول ما اثارني عنوان الرواية وعتبة إهدائها (الى أرواح أقاربي التسعة) فالإهداء وجّه القارئ الى مفاتيح اغرائية لقراءة النص الروائي وسبر غوره ومعرفة خفاياه ومضامينه ورؤاه وميوله واتجاهاته وانفعالاته وسوداويته وبنائه الحكواتي المتتابع...

في قراءة اولى يأخذ القارئ غير العادي انطباعا بأن شخصيات الرواية هي شخصيات تأريخية انتقاها الروائي بدقة، فشخصيات ابراهيم واسماعيل وعبدالله كافكا وطارق اولاد(شق الارض)هي شخصيات لها دلالتها وعمقها الرمزي والتأريخي والمعجمي والمدلولي والسيميائي لمسمياتها.. فالمكان الذي دارت به أحداث الرواية هو مكان سيري للكاتب انطلق من القرية ومن ثم الى جبهات القتال في العراق لينتهي المطاف لحركة بعض الشخصيات الى حدائق الرئيس في بغداد..
المكان بكل تفاصيله وبيئته وامكنته السيرية استفاد الكاتب منه ليشعل جذوة الذاكرة التي شكلتها قرية اسديرة /قرية الرملي ولينطلق منها والحديث عن تراثها وشخصياتها وتأريخها..
حاول الراوي أن يفاجئ القارئ بالأحداث العجائبية والغرائبية بأحداث وحكوات ذات بناء متسلسل ومتوالٍ حلقي تربط كل حكاية باخرى بخيط سردي يشد عضد النص ويماوج القارئ ويربكه بأحداث مفاجآت تفتح النص بجميع دلالاته الفكرية والتأريخية والنفسية والذاكراتية وتشتغل بأقصى طاقتها عبر ذاكرة الكاتب الذي يصارع سطوة المكان الذي مازال يتلبسه ويأبى أن يتأقلم مع غيره شأنه شأن (قسمة وعبدالله الأسير وابن الشيخ الذي هاجر لبلاد مجهولة) الذين رفضوا المكان او ان المكان لايعني لهم الاّ الواقع الذي يجب ان يتعايش فيه كل شخص بما يتحرك ويمارس حياته فيه... فالمكان متأرجح بين سطوته عند ابراهيم وأهل القرية وبين ماذكرنا من واقع فرض سطوته وثقافته على البعض الاخر..
الشخصيات المحورية في الرواية ولدت في سنة 1958 وهو زمن الحكم الجمهوري الذي يعتبر زمن الثقافة والشيوعية والانفتاح والثورات والحروب، زمن الحراك العراقي غير المستقر، زمن الحروب التي تتبعها الروائي مع احداث وسيرة وحكوات الشخصيات الثالوثية(ابناء شق الأرض)...
استطاع الروائي أن يقارن بين حياته البسيطة والكفاف والعيش البسيط وبين حياة الرئيس وحدائقه وقصوره وحياة البذخ.. لذا فإن الراوي عبر عن العلاقة بينهما بقتل الموسيقي المباشر من قبل الرئيس والتعبير عن وحشية السياسة والقتل والدمار والحروب....
(للماء) نصيب في الرواية، فنهر دجلة الذي لم يتغير هو الوحيد في رؤى عبدالله كافكا الأسير ابن الزنى على الرغم من تغير جميع الاشياء في فترة غيابه في الأسر... والماء هو الطهارة والبراءة والنقاء والصفاء والليونة وهو سر براءة الريف ونظافته وبساطته وحياته المفعمة بالهناء والخيال والعيش البسيط السهل الجميل...ولم يغفل الرملي عن ذكره وهو يحرك شخصياته به وفيه وهم يسبحون عائمين فيه تصاحبهم الكركرات والانبساط...
التأريخ والأحداث التأريخية للعراق كانت متسلسلة ومترابطة ومتوالية مع احداث الرواية وكل حدث روائي استطاع الراوي أن ينقل احداثه بدقة وحرفنة عالية بمايلائم البناء الفني والسردي للرواية وينقل تفاصيل الروي باسترجاعات واستباقات تُحدث توترا سرديا يلائم طبيعة الحبكة الروائية واشتغالها لحد التوتر، ومن ثم ينقلنا الكاتب الى بسمة ونكتة في حوار سردي ونحن بقمة السوداوية والحزن....!!!...
أقول أخيرا أن "حدائق الرئيس" هي عمل سردي فريد ومؤسس اجتر من السيرة الذاتية للكاتب عملا ذا قيمة ودلالة وعمق واستطاع الكاتب أن يعرض تأريخه وتأريخ قريته واصدقائه بصورة سردية مازالت صورتها تنزف دما جراء الحروب والويلات التي اذاقت العراق الويلات واعطت للساسة والحكام رخاء وانتشاء بالتلذذ بدمار محكوميهم وشعوبهم.... وللسرد بقية...