أنا فيلليني .. الأحلام هي الحقيقة الوحيدة

أنا فيلليني .. الأحلام هي الحقيقة الوحيدة

ناجح المعموري
كان مغامراً ومعقداً للغاية، هذا ما تضيئه سيرته الضخمة التي أعدتها ش: شاندرلر وترجمها عارف حذيفة. لقد استغرقت فترة اعدادها أكثر من ثلاثة عشر عاماً، وحتى الأسابيع التي سبقت وفاته... وكل سيرته هي حكاياته هو وما دونته ساندلر. كان يختار الأماكن العامة للحديث معها، وعموماً كانت المقاهي والمطاعم وأحيانا في سيارته، لان هذه الأماكن تثير البهجة في نفسه، مثلما تكشف طبيعته الواضحة والصريحة.

وما اختزنته شاندلر عبر السنوات الطويلة، هو أن هذا الفنان العظيم، كان وظل حالماً واهم ما في حياته هي الأحلام لأنها الحقيقة الوحيدة. لأنه يدرك جيداً، بأن العقل الباطن مكتظ بغزارة الأحلام، الفردية أو الجمعية، في اليقظة والتصورات أو فعيل مخياله لإنتاج الأحلام الفنية. وتكاد تكون ترجمته الفنية مرآة لأحلامه التي أعاد انتاجها سينمائياً، وهكذا هو فيلليني المهووس بطاقته الفنية، وتصريحه مرات عديدة بأنه قادر على صوغ أحلام الناس وما يتصوره هو بواسطة الأفلام، لذا يستطيع قارئ هذه السيرة المثيرة، أن يقتنع بأن الحياة حلمه الكبير والواسع، المستمر، والذي لا يتوقف أبدا، وأضفى هذا نوعاً من الاعتداد بتجربته، لذا كانت الذات مشحونة بقدرتها للتعبير عن الأنا، وكلاهما يعبران عن الكائن الغريب، والاستثنائي. فالجسد موجود، ومثير لمن يراه، ويستدعي هذا أنا فريدة، تباهى بها. وليس غريباً أن اختارت شاندلر عنواناً مركزاً للغاية: أنا فيلليني.
ويفصح هذا العنوان عن معرفة دقيقة لشخصية فيلليني واختارت له ما يحلم به أو يطمح أن يكون دالاً عليه، قالت هذا نيابة عنه، والعنوان ممتلئ بتاريخه وتفاصيل انجازاته الكثيرة وكثيراً ما قال لها أراء مثيرة للتأمل لما تنطوي عليه من شذرات فلسفية "الإنسان لا يتذكر حياته حسب ترتيبها الزمني، فالنحو الذي سارت عليه هو الأهم، أو هو الأهم في الظاهر، نحن لا نتحكم في ذكرياتنا. وواحدنا لا يملك ذكرياته، بل هي التي تملكه". ذاكرته مكتظة بالأحلام الذاتية، وتصورات الآخرين التي يستمع لها ويختزنها بوصفها أحلاماً.
تميزت ش شاندلر في تجربتها الشخصية لإعداد سيرته الفنية، ليست مكتملة، بل اختارت منها ما توقعته مثيراً، وكاشفاً عن الغموض الذي لف شخصية فيلليني.
وفي حوارها معه حول العناوين قال: "ان العنوان قيد. وعلى الإنسان أن لا يفكر في العنوان أولاً، بل أخيراً، وينبغي أن يكون شاملاً موضوعه قدر الإمكان.إذا تقيدت بالعنوان في البداية. ستجد ما تبحث عنه بدلاً من البحث عما هو مثير للاهتمام حقاً، ومناقشته وأنت منفتح الذهن. ان العنوان لا يساعدك، بل يرشدك. "
كان فيلليني فناناً لا يشبه أحدا. وقالت شاندلر بصراحة بأنه يوحدنا جميعاً برؤيا واحدة، وفريدة. قال مرة: الأفلام صور متحركة. ولأفلامه صلة وثيقة بالإرث الفني وأقوى من صلتها بالإرث الأدبي. اختصر هذا المبدع الكبير حياته الفنية التي استثمرت التراث الفني الإنساني كله. وخلق لنفسه حياة واحدة. وظل هو الراوي لها عبر أفلامه التي اختزلت الكثير، واختصرت أحلامه الإنسانية الغزيرة.
توزع كثير من الشخصيات في أفلامه، وأكثرها حضوراً غير مرئي في أفلامه، على الرغم من حضورها الدائم كالروح، وهذه هي شخصية فيلليني الذي ظل نجماً في أفلامه، مثلما في الحياة اليومية وتفاصيلها الكثيرة الضاجة بما هو مثير للدهشة، لقد كان فناناً قريباً من الجميع، ينطوي على شيء من السحرية الجذابة والآسرة، انه رجل صادق مع الآخرين، لكنه دائماً ما يزاول الكذب مع نفسه.
كلامه مثير للدهشة، وينفتح على التأويل، وكان شاعراً، يلتقط ما يدهش من مفردات، تظل حاضرة، محفزة للانشغال بإمكانات الكشوف فيها: أن الإنسان يواصل الحياة ما دام هناك أحياء، يعرفونه ويهتمون به وأردفت شاندلر قائلة: " انه على حق، لقد كان فيلليني اكثر اهتماما بالأفلام الخالدة منه بالخلود الشخصي. "
المخفي اللاواعي، غير المعروف بالتفاصيل، كلها التقاطات فيلليني الشعرية الخاصة به، والتي تعرف عليها هو، أو توصل لها قبل الآخرين، سجلها باسمه، انها مكتشفاته الحلمية الكامنة في تخيلاته ووسط عالمه الفريد، غيره لا يعرف وسيلته للوصول للأحلام التي لا تبعده عن الواقع، بل تمركزه فيه. وتمنح تخيلاته طاقة المجال الفاعل في تجربته الفنية. وحده يعرف هذا الفضاء، الغريب، البعيد عن الآخرين، والقريب إليه. " الفرق بين الآخرين وبيني، هي أني اعرف أنني أعيش في عالم متخيّل، واستاء من أي شيء يشوش رؤياي " ولابد من التذكير بالعلاقة القائمة بين الحلم والرؤية، التي اشار لهما فيلليني، حيث المعنى الاستعاري والمحجوب المختفي فيهما. وهو فنان لا يعيش الا في فضاء التخيّلات. لان الذكريات مخزونة ولا يغادرها مثلما هي راضية بالسبات فيه " ولعل أهم ذكرياته ما كان لها تمظهر في عمله السينمائي، واعني به الرسم. فقد كان في زمن بعيد جداً، عندما كان طفلاً يرسم، حتى تحول الرسم جزءاً منه، والأم مزهوة به، لأنه استجاب لنصائحها له عندما يرسم، هي مولعة بالرسم أيضا، عندما كانت فتاة. الرسم مجال مجاور لعمله الفني، وأحيانا يرسم شخصاً ممثلاً أو ممثلة وبعد ذلك يختار متماثلاً مع الذي رسمه.
وعرف هذا الفنان بأنه موهوب، وما حاز عليه نعمة ثمينة جداً وعليه أن يقدرها ويستمتع بها. وأعظم موهبة امتلكها ـ كما قال ـ في الحياة هي مخيلته البصرية " أنها منبع أحلامي، وهي التي مكنتني من الرسم، وهي التي تصوغ أفلامي " ويذهب نحو تخيّل غريب، انه حلمه الذي لن يتحقق " عند نهاية حياتي، وفي فترة الغيبوبة القريبة من الموت، أتمنى أن أرى رؤيا تكشف لي أسرار الكون، وبعد ذلك استيقظ، وأتمكن من صناعة فلم عن تلك الرؤيا... الموت يكتنفه غموض رومانسي... ويشير عن شعوره في سنواته الأخيرة " " لو أصابني مرض واحتجزني عن العمل المختلف لكان ذلك موتاً في الحياة بالنسبة لي تقلقني فكرة العجز وعدم ممارسة الجنس ثماني مرات في الليلة الواحدة. حسناً ربما سبعة "
لم يحلم بما سيكون عليه عند الكبر، ولم يقل بذلك مثل اترابه: " لم استطع أن أتصور نفسي في المستقبل كنت عديم الاهتمام بذلك. لم اقدر في الحقيقة على تصور نفسي واحداً من أولئك الكبار الذين كانوا يحيطون بيّ. ولعلني اكتهلت من غير أن اكبر لذلك السبب ".
" أدرك ما يعنيه الحاضر، لذا عاشه بكل التفاصيل التي فيه أما المستقبل، الحلم، فتعامل معه بوصفه واقعاً متخيّلاً، مثلما في القصص العلمية. ولم يستطع تخيل نفسه كبيراً، حتى بعد أن كبر.
لذا لا انظر الى نفسي فعلاً عندما احلق ذقني، وهذا يؤدي الى جروح كثيرة. ومن سوء الحظ أن اللحية لا تناسبني. أن التناقض بين الواقع والصورة التي في خيالي هو سبب استمراري في رسم نفسي شاباً نحيلاً كما اشعر في داخلي حتى الآن ".
سيرته ضخمة ومكتنزة بالتفاصيل الشعرية ولا غرابة فأن فيلليني شاعر الصورة والمجدد فيها ولي عودة ثانية حول علاقته بالمرأة.
لم تكن الأحلام هي حقائق حياة فيلليني وحده، بل هي فضاء الشخصيات التي انشغل بها فنياً، ومثال ذلك في " جوليت والأشباح " المعمول من اجل جوليتا التي صارت حلمه الذي استمر طويلاً، حتى بعد وفاته. جعل منها أنموذجه الذي أراده لتوصيف المرأة الايطالية، التي لم تستطع التعايش مع ما كانت تتوقع أو تنتظر، بمعنى فشلت بعلاقتها الزوجية. لكن فيلليني رسم لها صورة ملائكية، لكنها خسرت الكثير، هذا ما توقعته جوليتا التي تزوجها. انسحبت " جوليت " فاشلة ومنحها فضاء يستوعب الانكسارات التي عرفتها في مؤسسة الزواج، أعطاها " الذكرى والأسطورة " ويلاحظ عودة الفنان للحلم مرة جديدة، لأنه لا يكف عنه أبدا، لكنه هذه المرة من خلال الأسطورة والذكرى. لا فرق بين الحلم والأسطورة في التحليل النفسي كلاهما يرشحان عن الرموز والاستعارات، ولابد من ذكاء في التعامل مع الأسطورة والحلم، وترجمة المشاهد فيها والتقرب من رموزهما.
ولان الذكريات تتحكم بنا، وتعيش فينا ـ كما قال ـ فهي التعويض غير المباشر لخسارات الكائن في حياته. والعلاقة ـ أيضا ـ كائنة بين الحلم / الأسطورة / الذكرى.
المرأة حلمه وأسطورته " أنني ارفعهن الى مستوى الإلهات اللواتي ينحدرن منها. أنهن يهبطن عن قواعد تماثيلهن. أنني اجلُ النساء " فعلاً، يضفي على المرأة ضرباً من القداسة. وهي أكثر تعطيلاً من الرجال بما لا يقاس، تماماً مثلما هو الجنس أكثر تعقيداً بالنسبة إليهن " أنا اظهر دائماً مدى بساطة الرجال، ولكن تشخيصي لهم لا يشعرهم بالهوان. أما النساء فهن أكثر حساسية. وأنا يمكنني كمخرج وكاتب أن أتعلم من جوليتا، حتى بعد خمسين سنة من زواجنا. كرجل مع امرأة، اشعر أحيانا كأنني عجينة في يديها. وفي منزلنا تستطيع جوليتا أن توجهني في سهولة، أنها غامضة ومفاجئة، مثلما كانت يوم التقينا... من يحب النساء يظل شاباً، ومن يظل شاباً يحب النساء. الحب يبقيك شاباً. قال كنج فيدور: انه يحسد المخرج " جورج كوكور " على لوطيته التي لا تسمح لبطلات أفلامه أن يجتحنه بالفتنة الجنسية. فهو يستطيع أن يبقى بارداً ومسيطراً على نفسه.
زوجته " جوليتا " هي حلمه اليومي.... والنساء الجميلات جزء من ذاكرته التي تعيش معه كما قال " والمثير في رأيه عن النساء، الدقة والمهارة في التعبير، ليقدم توصيفاً تبليغاً عن المرأة كنوع. ويحدد مكانتها الفريدة جنسانياً. ليتحدث وكأنه ينتقي مفرداته، وهي ليست كذلك، لان سيرته حوار متقطع مع ش شاندلر، دائماً ما يحصل في السيارة، أو المطعم، أو المقهى حديثه مركز، كاشف عن مهارته في تحديد ورسم ما يريد قوله سريعاً. ولان المرأة حلمه المستمر، فانه يراها مثلما يحلم بها ويرسمها بصدر أنثوي ضخم، ويعبث بموخراتهن عنهما ويضع حولهن عصافير وحمير " معظم النساء اللواتي ارسمهن في كراسة الرسم الأولى يظهرن كأن ثيابهن تتمزق عنهن، ان كن يرتدين أي ثياب.... تلك الرسوم تعطي كل شيء، ولاسيما الجنس. تستيقظ ذاكرته عندما يعمل ويرى صور أحلامه، لذا يشعر بأن سعادته غامرة جداً، لأنه يرى ويعيش الأحلام عند العمل أكثر مما لو كان في أجازة " عملي حياتي... بل هو سعادتي. والإجازة عقاب... ان الإبداع الفني هو نشاط الإنسانية الحالم... ان خيال الإنسان أقدس من واقعه، وبرهان ذلك، هو انك أن ضحكت على واقع احدهم سامحك، إلا انه لن يسامحك أبدا إذا ضحكت على ما يتخيل "

*************
بعد انتهاء القسم الثالث / الأخير، تضمنت سيرته " تعقيباً " سجلت فيه شاندلر تصوراتها، وما تكون لديها، وبعض مما سمعته ولم تزرعه في احد الفصول وجعلته بعضاً من سردية مثيرة جداً، فاضت بالشعرية والتفاصيل التي أضاءت حيويات فيلليني التي أشار لها، وظل الكثير منها عالقاً في شجرته الساحرة. تعقيب ش. شاندلر، حيوي، مثير، والمدهش فيه، أنها استطاعت أن توصف الحلم الفلليني بآلية جديدة، مغايرة تماماً. لكن الحلم ظل هو الحلم، والاختلاف في الفضاء المساهم بتكوينه.
" أنا لست سميناً في أحلامي أبدا، ضائع، ضحية شهوتي الجنسية، ولكني سأموت سعيداً "... والنساء يتنازعن عليّ ولكن في الأحلام. الذاكرة تمنح سرديات جميلة جداً واستعادت جوليتا في الفترة الأخيرة من حياة فيلليني، بعضاً من أحلام لحظة التعارف السريع والتشابك بينهما " كان حبي الأول والوحيد، ولا يزال " كان قلقاً، لان علاقته مع جسده تغيرت، وهذا ما أثار في نفسه الخوف والفزع: أنا لا أترقب النوم الآن، لأني لم اعد تلك الأحلام الرائعة، التي يبعث فيها خيالي، وإذا رأيتها فأني لا أتذكرها " و " لا استطيع أن أتخيل الحياة من غير جيوليتا " كان يخاف التعطل بسبب مرضه " يؤثر الموت على العيش ذليلاً نصف مشلول."