رواية يوليانا ومعجزة الإنسان والحب

رواية يوليانا ومعجزة الإنسان والحب

وصال مصطفى
"الى الذين حملوا الصليب وخرجوا من الموصل في 19تموز 2014". بهذه الكلمات اهدى نزار عبد الستار روايته الجديدة "يوليانا" التي صدرت مؤخرا عن دار "نوفل / هاشيت أنطوان" في بيروت ليضعنا الروائي بعدها في اجواء ساحرة يمتزج فيها المقدس مع الخيال والواقع مع اليقين الروحي للشخصيات.

تحكي رواية يوليانا عن الاب ججو الذي يعاني العوق الجسدي وابنه حنا وكيف يجرهما الايمان النقي الى الخوض في تجربة روحية تتمثل في ظهور القديسة يوليانا لهما ومنحهما المواساة التي طالما حلم بها الانسان الملتزم في علاقته الروحية مع الله. الرواية تصف احداثا وقعت ما بين عامين 1929 و1987 في بلدة كرمليس المسيحية في السهل الشرقي لنينوى وكذلك في مدينة الموصل حيث نجد ججو وابنه حنا ومعهما شمونيا وياسمين يعيشون تجربة قوامها التمسك بالفطرة الانسانية وشريعة الحب وقساوة الانكار الذي يقع لهم في المحيط الاجتماعي.
يتلقى ججو الاب تربية دينية في الصغر على يد القس يوسف كوماني في كنيسة القديسة بربارة في بلدة كرمليس حيث يخوض بايمان كامل مهمة وعظ الناس وارشادهم الى قيم الحياة السليمة لكن ججو المهموم بعوقه الجسدي وخيباته الايمانية يلاقي الكثير من الانكار ويسقط في حزن كبير جراء اتهامه بالجنون وقيام اهالي البلدة بتحقير افعاله المحبة للخير والتعامل معه كشخصية مجنونة. ويحدث التحول حين تظهر له القديسة يوليانا وتدفعه الى الهجرة الى الموصل. يغادر ججو كرمليس مودعا ابنة خالته شمونيا التي كانت قد آمنت به وتكن له فيضا من مشاعر الحب وفي الموصل يتزوج تريزا ابنة المهرب الشهير أبلحد بابكا لينجب منها حنا ووارينا. حنا كأبيه يعاني فقر المرونة والقبح الجسدي لكنه يملك الروح البريئة نفسها ولأن دكان الخياطة التي يمتهنها ججو في حياته الجديدة لصق بيت دعارة تديرة امرأة فاتنة تدعى بتول بقلاوة، فإن حنا ينشأ في وسط مغاير تماما عن وسط ابيه فيتعلق ببنت صغيرة اسمها ياسمين وهي ابنة مجهولة الاب لعاهرة تدعى ليلى ليكبر حنا بعدها ويعيش ببيت ياسمين ممارسا القوادة بطريقة تنم ايضا عن شغف كبير بمعاناة الانسان وهنا تظهر يوليانا لحنا كما ظهرت لأبيه من قبل فتعينه ليجد نفسه وخلاصه ولكن هذه المرة ليس بالزهد الايماني الكامل وانما بشريعة الحب الذي يكنه لياسمين.
كتب نزار عن كرمليس وعن تفاصيل كثيرة تتعلق بالاجواء الكنسية وهذا امر يحسب له حيث انه ادخل القارئ في اجواء فيها من المصداقية الكثير كما كتب عن الموصل والحياة فيها في فترة الثمانينات. اجواء الرواية وشخصياتها المرسومة بدقة تأخذ القارئ الى عوالم اقل ما يقال عنها انها جديدة تماما على الرواية العراقية فضلا عن مهارة الكاتب نزار عبد الستار الذي عرف عنه امتلاكه لغة خاصة ورصانة سردية مميزة.
ثمة اشياء كثيرة تجعل رواية يوليانا تنال التصدر وتحوز على الاهتمام فبالاضافة الى قوة الصنعة الروائية نجح الكاتب في اشباع الاجواء الكنسية بمشاهد مؤثرة جمعت بين سحر السرد والمقولة التأملية فنجد الكثير من الرؤى التي تناقش الايمان باعتباره فعلا انسانيا يدعو الى الحب والخير والصدق وبهذا فقد نجح نزار عبد الستار في كسب القارئ وترصين العمل الادبي بنظرة فلسفية فضلا عن قدرة الموضوع على ان يشير الى الواقع الحالي بكل بشاعته لهذا فرواية يوليانا تبدو للقارئ كعزاء لما يتلمسه الان من جرائم ترتكب باسم الدين كما ان الرواية تفتح افقا جديدا في قضايا عدة مثل التسامح والايمان بالانسان.
رواية تستوطن في ثناياها المحبة والايمان والقدسية التي طالما افتقدناها منذ زمن. لقد اعادنا نزار عبد الستار في رواية يوليانا الى عالم البساطة والى مكانة ان نكون انقياء بالفطرة والى حقيقة الاشياء التي سرقت منا على غفلة ولم نعد نبحث عنها ولا نبالي بوجودها، تعبر الرواية عن النقاء الداخلي للانسان وكيف ان الايمان الحقيقي يكمن بالتسامح والحب وليس بالتعنت والقسوة والصرامة. القديسة يوليانا في ظهورها المتكرر لججو وابنه حنا صححت الكثير من المعتقدات واعطت الطمأنينة لحنا الذي كان يجد نفسه ليس اكثر من شخصية هامشية لا قيمة لها خلقت من اجل ان تمنح الاصحاء والاغنياء القدرة على فعل الخير بينما هو يسقط في وديان حزنه مهموما بدونيته البشرية.
وبما ان اهالي كرمليس يكتشفون في النهاية ان ججو الاب لم يكن مجنونا وواعظا عاديا كما ظنوا فانهم يقعون في حرج ان القديسة يوليانا قد اختارت بيت ياسمين الخاطئة كي تظهر فيه. ورغم ان الكل يعتقد ان المعجزات التي تقع لابناء بلدة كرمليس وحالات الشفاء التي حصل عليها المرضى جراء قيامهم بالتبرك ببيت ياسمين الا ان القديسة يوليانا تعلن لشمونيا ان لا علاقة لها بهذه المعجزات التي تقع للناس المتبركين وان الفعل الايماني كله يكمن في قدرة حنا الانسانية. قدرته على ان يكون صادقا ومحبا لياسمين. حنا الذي كان يسقي زوار بيت ياسمين الماء مخلوطا بقطرات من عصير برتقال "نادر" المركز هو كان صاحب المعجزات وان كل هذه المعجزات التي وقعت كان سببها الحب الصادق.