جون لوك و التسامح

جون لوك و التسامح

د إبراهيم الحيدري
يعود مصطلح التسامح الي مبادىء عصر التنوير في أوربا في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبخاصة الى تطور النزعة الانسانية التي قامت على احترام العقل في مواجهة اللاهوت والافكار الغيبية. ففي عام 1689 نشر الفيلسوف الانكليزي التنويري جون لوك "رسالة في التسامح" باللغة اللاتينية ثم ترجمت الى اللغة الانكليزية دعى فيها الى القضاء على بنية التفكير الآحادي المطلق وروح التعصب الديني المغلق

واقامة الدين على العقل وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح تعتمد على مبدأ فصل المهام بين دور الكنيسة وبين دور الدولة ومبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية.

كان هدف لوك في ذلك التأكيد على "انه ليس من حق احد ان يقتحم بأسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية.. وان فن الحكم ينبغي ان لا يحمل في طياته أية معرفة عن الدين الحق". وهو يعني بذلك ان التسامح الديني يستلزم ان لا يكون للدولة دين، لان" خلاص النفوس من شأن الله وحده...ثم ان الله لم يفوض احدا في ان يفرض على أي انسان دينا معينا... وان قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في باطن الانسان".
وبسبب هذه الافكار العقلانية هوجم لوك فألف رسالة ثانية في التسامح عام 1690 ثم رسالة ثالثة عام 1792.
ويمكن تلخيص دعوة جون لوك في رسالتة في التسامح بقوله:" ليس لأي انسان سلطة في ان يفرض على انسان آخر ما يجب عليه ان يؤمن به أو ان يفعله لأجل نجاة نفسه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أي انسان آخر. ان الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي انسان ولا لأية جماعة ولا يمكن لأي انسان ان يمنحها لانسان آخر فوقه اطلاقا". ويرجع هذا الى سببين هما:
أولا، هو ان الناس في كل مكان معرضون للخطأ، سواء كانوا حكاما أم محكومين وليس من المعقول ان يوضع الانسان تحت التوجيه المطلق لأولئك الذين يمكن ان يقعوا في الخطأ في مسألة بهذه الخطورة الابدية، فانهم ان أساءوا ارشادنا فلن يستطيعا تعويضنا.
وثانيا، انه لا فائدة في استعمال القوة لجعل الناس على الجادة المستقيمة نحو النجاة، ذلك انه لا يمكن اي اكراه ان يجعل انسانا يؤمن بضد ما يقتنع به على ضوء عقله. ولذلك لا يجوز ارغام احد على الدخول في مشاركة يحكم عليها هو مسبقا وفي اعماق ضميره بأنها مضادة لهدفه في الدخول في هذه المشاركة.
ويمكننا ايجاز افكار جون لوك الاساسية في رسالته في التسامح كما يلي:
1 – لا بد من التمييز الدقيق بين مهمة الحكومة المدنية وبين مهمة السلطة الدينية، واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغيير.
2 - ان نجاة روح كل انسان هي أمر موكول اليه وحده، ولا يمكن ان يعهد بها الى اية سلطة مدنية أو دينية.
3 - لكل انسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين.
4 - حرية الضمير حق طبيعي لكل انسان.
5 - التجاء رجال الدين الى السلطة المدنية في أمور الدين انما يكشف عن اطماعهم هم في السيطرة الدنيوية. وهم بهذا يؤازرون نوازع الطغيان عند الحاكم. وعلى مدى التاريخ كان تحالف الحاكم مع رجال الدين لصالح طغيان الحاكم، وانهم غير قادرين على تقويمه ورده الى السبيل القويم.
ان أهمية رسالة جون لوك في التسامح انها نقضت مقولة البروتستانتي روبرت سانت أتين من الداخل حين قال: "لست اطالب اليوم بالتسامح وانما بالحرية، فالتسامح والعفو والرحمة غير عادلة تجاه المخالفين، لان الخلاف في الدين والرأي ليس جريمة، ولكن التسامح، هذه الكلمة الجائرة التي لا تقدمنا الا كمواطنين نستحق الشفقة وكمذنبين ينالون الصفح".
ان التسامح الذي نزعت عنه صفة الفضيلة، بأسم الحرية، كان قد فقد هذه الصفة سلفا في عيون الذين لا يعترفون بهذه الحرية. وان الذين لا يعترفون بحرية التعبير والاعتقاد والاختلاف لا يمكن ان يعتبروا التسامح قيمة اخلاقية جيدة، فهم يقولوم اذا كنا على صواب ومخالفنا على خطأ، فالتسامح لا يكون له قيمة ولا فضيلة.
ان هذا الموقف السلبي يعود في الحقيقة الى توماس الأكويني، الذي رأى بان التسامح مع غير المؤمنين او الذين يمارسون الهرطقة يعني تقبل معتقداتهم المنحرفة، ولكن التسامح هو اقل ضررا من عدم التسامح الذي يستتبع فتنا واضطرابات اجتماعية.
ومن الملاحظ ان هناك فرق كبير بين تلك الرؤية القديمة وبين التي يقدمها روسو التي تقوم على النظر الى التسامح على أنه "حق طبيعي" وواجب اخلاقي. وبهذا فالتسامح هو فضيلة انسانية واجتماعية واخلاقية.
والحال ان تحميل التسامح دلالات سلبية وربطه بالحرية في الاختلاف هو مغالطة لمعنى التسامح. ولتوضيح ذلك يمكن تقسيم التسامح الى ثلاثة اقسام هي:
أولا - التسامح السلبي، وهو التصور بالتنازل او الصفح عن الاختلاف في الرأي والعقيدة. وهذا التصور ناتج عن الاعتقاد انه لا حق الا ما أراه حقا وواجبا. وهذه الدعوى تعني امتلاك الحقيقة المطلقة والوحيدة.
ثانيا – التسامح الحيادي، وهو ناتج عن اقرار المرء باحتمال كونه على خطأ واقراره بحق غيره بالخطأ ايضا. وبهذا فليس هناك حاجة الى ان اصفح عن خطئه ولا هو في حاجة الى ان يعتذر عن هذا الخطأ. وبهذا المعنى فالتسامح ليس صفحا عن خلاف مع الاخر، وانما احترام لحقه في المخالفة.
ثالثا – التسامح الايجابي، وهو العفو والصفح عن الاساءة الغير مادية او معنوية، وهو ارقى انواع التسامح، وهو فضيلة من اكبر الفضائل الاخلاقية. وبهذا فان التسامح لا يتناقض مع حرية الرأي، لأنه ضامنا لها، أما في غياب الحرية في الرأي والاعتقاد فهو تسامح سلبي دوما.
ولكن السؤال الحاسم الذي يقابلنا دوما: هل يجب علينا التسامح مع غير المتسامح؟!
بالرغم من تعقيد هذه الاشكالية التي قد تنسف مفهوم التسامح، فان التسامح الذي لا يكون متبادلا يتناقض دوما مع الحرية ولا يكتب له البقاء والاستمرار.
وقد طور جون ستيوارت مل مفهوم التسامح في كتابه"عن الحرية" الذي صدر عام 1859 حيث رأى بان التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة، أي تمتنع مع الدوغما dogma، بمعنى ان الحرية الدينية لا تمارس إلا حيث توجد اللامبالاة الدينية. فالانسان قد يتحمل الانشقاق ازاء الاسلوب الذي تمارسه الكنيسة، ولكنه لن يحتمل التسامح ازاء الدوغما. ومن ثم ليس بالامكان نقد الدوغما من قبل اصحابها، لان سلطان الدوغما تأتي من مصدر غير عقل صاحب الدوغما. والدوغما تلزم المؤمن بعقيدة معينة. وقد تطورت الدوغما الى ما يدعى بعلم العقيدة التي تطور عنها علم اللاهوت في المسيحية، الذي يحدد بنود الايمان، فمن يلتزم بها فهو مؤمن ومن لا يلتزم بها فهو كافر يستحق القتل. وبهذه البنود كفرت الكنيسة غاليلو غاليلي واعدمت جيوردانو برونو وغيره.

المصادر:
1 - عبد الرحمن بدوي، رسالة في التسامح لجون لوك، ترجمة وتحقيق، المغرب 1988
2 - مراد وهبة، جون لوك، رسالة في التسامح، المقدمة، ترجمة منى ابو سنة، القاهرة 1997
3 - مراد وهبة، مقدمة كتاب رسالة في التسامح لجون لوك، القاهرة 1999