اللغة البشرية بين فطرية جومسكي وبنيوية بياجيه

اللغة البشرية بين فطرية جومسكي وبنيوية بياجيه

فارس كمال نظمي
تنوعت الإتجاهات الفكرية التي حاولت البت بشأن الأصل الذي نشأت منه اللغة البشرية:أهي فطرة غريزية في وجود الأنسان،أم إنها نتاج مكتسب جراء تطور المادة الحية عبر ملايين السنين؟ وقد تنوعت هذه الإتجاهات تبعاً لمناهجها الدينية والأنثربولوجية والفزيولوجية والنفسية,إلا أن هناك إتجاهاً يرى عدم امكانية التوصل الى نتائج نهائية عن نشأة اللغة,مؤكداً أن البحث في هذا الأمر لا فائدة منه.

ولذلك تجنب الكثير من علماء اللغات والأجناس إثارة مشكلة أصل اللغة البشرية,مكتفين ببحث عناصرها الصوتية والنحوية والدلالية,ومقارنة مساراتها التطورية بين الثقافات والجماعات السكانية.
وعلى الرغم من هذا الغموض،لم تتوقف الأجتهادات العلمية عن محاولة تتبع جذور اللغة بوصفها سلوكاً عقلياً,يذهب البعض الى عدّها ((مرآة للفكر)).فقد قدّر بعض علماء الآثار والأنثروبولوجي إن اللغة البشرية نشأت في عصر القردة الشبيهة بالإنسانHomo nids ,أي قبل حوالي مليون سنة.ثم مرّت حوالي مليون سنة بين نشوء هذهِ الفصيلة وظهور الفصيلة التي تلتها أي ((الإنسان العاقhomo sp الذي نزل من الأشجار التي كان يقطن فيها ويقتات من ثمارها.ولا يدري هؤلاء العلماء إذا كان إستخدام الصوت البشري بوصفه أداة قد جاء فجأة,أم أنه جاء نتيجة ً لتطور تدريجي طويل المدى.أمّا عن الضرورات الحياتية التي سببت نشوء اللغة, فترى نظرية ((التاتا)) التي دافع عنها (داروين)Darwin(1809-1882)م أن اللغة نشأت نتيجة قيام الإنسان بإحداث بعض التعبيرات الصوتية التي كانت تصاحب إشاراته وحركاته المعبرة عن حاجاته,إذ كان يُحرِّك إثناء ذلك لسانه وفكّيه لاشعورياً,ثم تطورت هذه التعبيرات،فكفت يداه عن الحركة،وحلّ اللسان والشفتان مكان اليدين في وظيفتهما التعبيرية.ولنظرية ((محاكاة أصوات الطبيعة)) تفسير آخر،إذ ترى أن اللغة نشأت في أول أمرها في صورة محاولات قام بها الإنسان لتقليد أصوات عناصر الطبيعة،مثال ذلك (فحيح الأفعى)و(خرير الجدول),و(زئير الأسد).أمّا نظرية ((الغناء)) فتفترض أن الغناء الفطري ذا الإيقاعات البدائية هو الأصل في الكلمات التي صارت لغة في نهاية الأمر,مثال ذلك الأصوات المنغمة التي يطلقها الإنسان أثناء المواسم العاطفية للجنس.
وبعيداً عن هذه التصورات الأنثروبولوجية,برهنت المعطيات الفزيولوجية للدماغ البشري أن نشوء اللغة قد ارتبط طبيعياً بتطور المخ والقشرة الدماغية ضمن عمليات التكيف والإنتخاب الطبيعي عبر ملايين السنين.فالأدلة التشريحية المتوافرة في هذا الشأن تؤكد أن دماغ الإنسان القديم كان يفتقر الى المخ والقشرة الدماغية اللذين يعدان المسؤولين في دماغ الإنسان الحالي عن إكتساب اللغة وإدراكها ونطقها,إذ أن مناطق اللغة تقع في النصف الأيسر من المخ وتحديداً في الفص الأمامي في منطقة (بروكا) Broca وكذلك في منطقة (فرونكا)Wernick.كما تتوفر في الدماغ الحالي (مناطق الإرتباط) المسؤولة عن تحويل الأحاسيس البصرية والسمعية الى معاني لغوية وبالعكس.وإن غياب هذه المناطق المسؤولة عن اللغة في دماغ الإنسان القديم,إنما يدل بوضوح على أن المراكز الفزيولوجية للغة لم تظهر دفعة واحدة,بل نشأت وتطورت عبر تأريخ وجود الأنسان على الأرض.
وفي علم نفس اللغة,الذي هو مثال حي على التفاعل الوثيق بين إختصاصين هما (علم اللغة) و(علم النفس المعرفي),تناول العلماء مسألة نشأة اللغة البشرية من المنظور النفسي,الى جانب عدد آخر من موضوعات مهمة منها العلاقة بين اللغة والتفكير,وإدراك الكلام،وفهم اللغة،وكيفية إكتساب الأطفال للغة،وطبيعة العمليات العقلية التي يتمكن بها الناس من قول ما يريدون قوله,وعلاقة اللغة بالشخصية،والأسس النفسية للقراءة,ودراسة عيوب النطق.ويقف في مقدمة هؤلاء العلماء (نعوم تشومسكي) N.Chomsky، و(جان بياجيه)J.Piaget (1896-1980)م,اللذان تمثل نظرية كل منهما أحد الأعمدة الأساسية في علم النفس الحديث.فنظرية تشومسكي (ذات المنحى الديكارتي) في النحو التحويلي وإكتساب اللغة,تنبع أهميتها من فرضيتها الأساسية القائلة أن كل اللغات البشرية تنبع من أصل واحد,أي من لغة واحدة تعكسها بنية فطرية محددة في العقل.وهذه البنية إذا ما تعرضت للبيئة تصبح قادرة على ترجمة نفسها بواسطة قواعد تحويلية الى إنساق لغوية نحوية متباينة حسب تباين المجتمعات والحضارات.ويعني هذا إن الجهاز العصبي البشري يحوي تركيباً عقلياً يتضمن مفهوماً غريزياً عن لغة البشر,سمّاه تشومسكي بـ(جهاز إكتساب اللغة) Language Acquisition Device, بوصفه صندوقاً إفتراضياً يقع في مكان ٍ ما من الجهاز العصبي المركزي,يسمح للطفل أن يستنبط قواعد اللغة وقوانينها من المدخلات اللغوية التي تصله عن طريق الأذن.ومما يدعم وجهة النظر هذه تشابه تسلسل مراحل إكتساب اللغة عند الأطفال في مختلف الحضارات،وكذلك ظهور القدرات اللغوية المرتبطة باللغة عند الأطفال الرضع الخرس.
وفي مقابل هذا المنظور تقف نظرية بياجيه (ذات المنحى الكانطي والمنهج البنيوي التكويني)،التي ترى أن إكتساب المفاهيم العقلية يسبق إكتساب الرموز اللغوية الدالة عليها,إذ يؤكد بياجيه أن الفكر الرمزي لا ينشأ من الإشارات اللغوية في البيئة الإجتماعية,بل تنشأ الرموز الأولى بوصفها رموزاً ذاتية غير لغوية.إلا أن اللغة هي اداة الرمز,ولا يمكن للفكر أن يصبح إجتماعياً وبالتالي منطقياً بدونها.وبذلك يعارض بياجيه فكرة تشومسكي عن وجود تنظيمات موروثة في الجهاز العصبي تساعد على تعلم اللغة,فالقدرة اللغوية لديه لا تُكتسب إلا بناءاً على تنظيمات داخلية أوليّة يعاد تنظيمها بناءاً على تفاعل الطفل مع بيئته الخارجية حسب مراحل عقلية إرتقائية متسلسلة في حياته،وتحت تأثير تراكم البنى البيولوجية والفزيولوجية والعقلية,دون الحاجة الى إفتراض وجود جهاز فطري مكتمل ومختص بانتاج اللغة في مكان ٍما من الجهاز العصبي المركزي للإنسان.وقد دعمت العديد من الدراسات وجهة نظر بياجيه هذه،إذ توصلت الى وجود (مراحل عمرية حرجة) ينبغي أن يحدث فيها تعلم اللغة لدى الطفل وإلاّ فقد إستعداده لهذا التعلم إذا ما تجاوز هذه المرحلة العمرية,مما يشير الى عدم فطرية الاصل الذي تنشأ منه اللغة البشرية.
إن التباين الذي إتضح الآن في هذه الآراء السابقة الذكر حول مسألة ما إذا كانت اللغة بدءأ هي سلوك فطري أم مكتسب في العقل البشري,لا يتعارض مع حقيقة أن اللغة في وظيفتها الإجتماعية هي إنعكاس حي للوجود العاقل المتطور للإنسان,وبالتالي فإنها بنية حيوية غير ساكنة قابلة للتطور على كل المستويات،سواء المستوى الفزيولوجي العصبي الذي ينتجها مادياً،أو المستوى الدلالي الذي تقوم هي بإنتاجه فكرياً.وبمعنى أكثر تحديداً،إن الإختلاف حول الأصل الذي نشأت منه اللغة البشرية,لا يلغي الإتفاق حول أن الأنسان في كل مراحل تطوره الشخصي والحضاري يظل يكتسب اللغة وينتجها في دورة مغلقة,لا أهمية لتحديد موقع نقطة البدء فيها,مادامت هذه الرموز البصرية والسمعية هي وسيلته الرئيسية في أدراك العالم وفهمه والتأثير فيه.