المسرات والأوجاع: بين هاجس الجنس ونموذج الشخصية الاستثنائية

المسرات والأوجاع: بين هاجس الجنس ونموذج الشخصية الاستثنائية

ناطق خلوصي
تتوافر رواية ” المسرات والأوجاع ” على خصوصيتها النوعية وعلى إشكاليتها في آن واحد، في تداخل يرجع سببه إلى طبيعة الثيمات التي تتناولها والحساسية الخاصة التي ينطوي عليها التعرض لمثل هذه الثيمات التي يقف الجنس في المقدمة منها.

لقد ظل الجنس منطقة محرمة يحظر على السارد العراقي دخولها أو الإقتراب منها شأنه في ذلك شأن كتـّاب المجتمعات المحافظة، وكان اختراق هذا الحظر يستلزم جرأة لم تتوافر إلا لدى عدد محدود من الكتّاب من الذين غامروا بالسباحة ضد التيار المحافظمع ما تتطلبه مثل هذه السباحة حذر ومجازفة واحتمالات الوقوع في دائرة الإتهام بالخروج على تعاليم الدين والأخلاق. ونستطيع أن نشير بهذا الصدد إلى عدد من الروائيين البارزين، إذ لم يتردد ذوالنون أيوب في التعامل مع الجنس بصراحة مكشوفة تجسدت بشكل خاص في الأجزاء التي كتبها من سيرته الذاتية فضلا ً عن روايته التي تعرف بإسم ” كوجكا “. أما مهدي عيسى الصقر فقد لازم هاجس الجنس أعماله الروائية كلها. ويجد الجنس حضورا ً واضحة في أعمال محمود سعيد. وقبل أكثر من نصف قرن كتب فؤاد التكرلي ” العيون الخضر ” تحت تأثير هذا الهاجس الذي تأكد حضوره في ” الرجع البعيد ” لتأتي ” المسرات والأوجاع ” امتدادا ً لما كتب في هذا المجال ولكن بشكل أكثر سعة ً وعمقا ً.
هل يمكن وضع هذه الرواية في خانة الأدب المكشوف؟ربما يعكس مثل هذا التساؤل رؤية تأسست على الظن بأن هاجس الجنس يتغلغل في النسيج الروائي ويبسط سطوته على مسار الرواية
بشكل عام ويطغى على محتواها بهذا الشكل أو ذاك، وهي رؤية يدعمها القول بأن التكرلي اسرف في الوصف الحرفي لميكانيكية الفعل الجنسي، مما شكـّل خروجا ً على المألوف الاجتماعي وتجاوزا ً على الوازع الديني والرادع الأخلاقي، وهذه جميعا ً كوابح تمليها طبيعة الواقع الاجتماعي الذي تحركت أحداث الرواية ضمنه.
غير أن قراءة موضوعية متأنية تتجاوز قشرة الرواية الخارجية وتسعى للكشف عن جوهرها الداخلي، تجعل من التعسف رميها بمثل هذا الإتهام. فما دامت الرواية تنتمي إلى واقع معاش، وما دام هذا الواقع يحفل بنماذج الشخصيات والأحداث التي ظهرت في مفاصل الرواية، فهي إذن انعكاس لمثل هذا الواقع وتعبير عنه، ولابد من قبولها والتعامل معها وفق المعايير المعتمد للتعامل مع الواقع بصدق. إن الصدق الواقعي هنا يمنح الروائي الحق في أن يكون صريحا ً.
نلج الرواية من مدخل عنوانها فنجد مسافة من التضاد الحاد تفصل بين مدلول ” المسرات ” ومدلول ” الأوجاع ”، وهما المفردتان اللتان يتشكـّل منهما العنوان وقد وضعهما التكرلي في نسق له دلالته، حيث كان تقديم مفردة ” المسرات ” على مفردة ” الأوجاع ” مقصودا ً على ما نرى. يقول التكرلي في رسالة أشار عليها محمود عبد الوهاب في كتابه ” ثريا النص ” إلى أن اختيا ره للعنوان يأتي أحيانا ً بعد عناء. وفي هذا ما يدلل على ان صياغته لعنوان روايته بالنسق الذي جاء به في الرواية، لم يأت اعتباطا ً. وحين نتجاوز العنوان ونتوغل في العمق السردي نكتشف أن المسرات هنا تتجسد في الجنس بشكل خاص بما ينطوي عليه هذا النمط من المسرات من أنية ووقتية وغريزية لا تخضع لسلطان العقل، سرعان ما ينتهي مفعولها مثل ومضة خاطفة. في حين تجد الأوجاع تجسيدا ً لها في الفواجع التي يقف الموت في مقدمتها، وهي أوجاع تخلّف وشما ً عميقا ً في الروح لا يمحى سريعا ً ز إن هذا الترادف المضاد بين مفردتي العنوان لا يشي بطبيعة الخاتمة التي ستؤول غليها الأحداث حسب ن بل ويجسد فلسفة الروائي وموقفه من الحياة، وكأنه يريد أن يوحي بأن الأوجاع هي خاتمة كل مسرات الحياة.
إن توظيف الجنس هنا لا يأتي تعبيرا ًعن محض رغبة في مداعبة العاطفة أو إثارة الغريزة الجنسية مع ان هذه الغريزة هي من خصائص الكائنات الحية وفي مقدمتها الإنسان، وهي تعبير عن حاجة بايولوجية لا مناص من تلبيتها. لكن تابوات التزمت تجعل التعرض لهاأو الإشارة إليها في عداد المحرمات. ولا يأتي توظيف الجنس في هذه الرواية مقحما ً وإن بدا كذلك في ظاهره أحيانا ً بسبب الإسراف في التفصيل.إن الجنس يصبح معادلا ً لحالات الخيبة والإحباط، أو هروبا ً من واقع مر، أو متنفسا ً من أزمة داخلية حادة. وقد يخيل للمرء ان أغلب شخصيات الرواية محكومة بشبق شهواني يحكم سلوكها العام. غير ان التوغل في البنى النقسية لهذه الشخصيات والإحاطة بالظروف التي تحكمها، يكشفان عن ان هذه الشخصيات محكومة بدوافع غير دافع الرغبة الجسدية وحدها، وإن هذه الدوافع تقف وراء لواذها بالجنس كمعادل. فهي ليست محكومة بالرغبة في الإنغماس في الملذات ناشئة عن بطر أو عن ترف مفرط.
كانت المرأة ومسألة الإرتباط بها جسديا ً تشكـّل الشغل الشاغل لـ ” توفيق لام ” بطل الرواية ومحور أحداثها الأساسي من مرحلة مراهقته وامتدادا ً إلى العقود التي تلتها، ثم وصولا ً إلى مرحلة كهولته: سنوات طويلة ظل خلالها يواصل صاته بالحسد الأنثوي في إندفاع من أصيب بحمى الشبق، عابرا ً على جسر وسامته الآسرة إلى هذا العالم الأثير لديه، وهي وسامة جاءت نتاج طفرة وراثية جعلته يختلف كليا ً عن ابناء عائلة عبدالمولى، لاسيما الذكور منهم الذين كانوا يتميزون بوجوههم القردية وأجسادهم المشوهة، حتى ان تسمية ” دربونة الشوادي ” أطلقت على الزقاق الذي كانو يقيمون فيه في مدينة خانقين. لقد احتفظ توفيق لام بحضور طاغ ٍ على امتداد زمن الرواية وهي شخصية ذات بناء نفسي خاص ساعدت عوامل ذاتية وأخرى موضوعية على تشويهه. فهو ضحية الإسراف في التعامل الحنون الذي أسبغته أمه عليه وظلت تفعل ذلك حتى وهو في سن الرجولة، ولعله كان يبحث من خلال الجنس عن متنفس لأزمته الداخلية وعن معادل لحالة الإحساس بالخيبة والإحباط بفعل الفشل الذي لاحقه على امتداد حياته وبفعل عجزه عن الإنجاب. وربما جعله إحساسه الأخيريسرف في ممارسة الجنس كفعل تعويضي لكي يقنع نفسه برجولته. وجد توفيق لام نفسه داخل مربع انثوي حافظ على ديمومته طويلا ً. كان قد تعرّف على” آديل ” في إحدى حفلات عيد الميلاد ثم وجدها زوجة ً لسليم مروان جليس مائدة الشراب والقمار التي كان يجتمع مع صحابه حولها وما لبث أن ارتبط معها بعلاقة غير شرعية، ربما كان سببها ان آديل التي كانت مبهورة بوسامة توفيق كانت قد تزوجت من سليم مروان على غير رغبة منها، وكأنها أرادت أن تنتقم من نفسها ومن سليم معا ً بعلاقتها مع توفيق، أو ربما وجدت في توفيق ما يوفر لها حالة الإطمئنان التي لم تجدها لدى زوجها وقد كانت تعلم بأنه متورط بارتباطات مشبوهة قادته إلى الموت في آخر المطاف ولا يعلم أحد مصدر الثروة الكبيرة التي تجمعت لديه وهو ما يزال في سن الشباب. ولعلها كانت تجد في علاقتها مع توفيق معادلا ً لإحساسها الداخلي بالخوف على مصير زوجها ومستقبل علاقتها معه. أما ” كميلة ” التي ظلت تلاحقه حتى تزوجها فإن رغبتها في الإنجاب (وهي رغبة مشروعة) كانت وراء هوسها الجنسي. وكانت ” فتحية ” ضحية واقع اجتماعي قاس ٍ أملى عليها أن تتزوج وهي في سن السادسة عشرة من شيخ في السبعين سبق له أن تزوج أربع مرات وطلـّق مرتين. ولعله لم يكن قادرا ً على أن يلبي رغبتها الجسدية وبما جعلها تعاني من أزمة نفسية ربما كانت ناشئة عن الجوع الجنسي، وهي أزمة ظلت تتراكم في الداخل حتى وجدت متنفسا ً عند موت زوجها وتعرفها على توفيق. غير ان السبب الحقيقي الذي قادها إلى الإندفاع نحو توفيق يكمن في خوفها من أبناء زوجها المتوفى الذين بدأوا يحاولون ابتزازها تحت سطوة التهديد، فوجدت في توفيق ملاذا ً يوفر لها الحماية، وقد وقف توإلى جانبها ومدّ لها يد المساعة، وربما منحته جسدها تعبيرا ً عن العرفان بالجميل.
أما علاقة غسان (إبن جار توفيق) الجسدية بفتحية فقد كانت تعبيرا ً عن رغبة في الهروب من واقع مر لاسيما إن حادث هروب أمّه مع عشيق ثري، حفر وشما ً في روحه وظل يلاحقه نفسيا ً مثل اللعنة. وزاد ذلك تعقيدا ً مشاركته في الحرب فازدادا التصاقا ً بها بحثا ً معادل لإحساسه بالخيبة ةإحساسه بالحرمان من أمّه الذي كان قد حاول أن يعوضه بمظاهر شغفه بسندي زوجة أبيه و” نشأ مفتونا ً بها كمثال المرأة والأم. ومثـّل استشهاده فاجعة ً لفتحية وغسان معا ً، وهو ذروة أوجاع الرواية.
غير أن من يتفحص الرواية بإمعان لابد من ان ينتبه إلى أن شخصية ” أنوار” تنفرد بين نساء توفيق بسمات خاصة، تتجلى في طبيعة علاقتها بتوفيق بما يجعلها نموذجا ً للشخصية الاستثنائية وبما يقود إلى التساؤل عن سر هذه الاستثنائية والمرتكز النفسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي الذي تستمد صيرورتها منه. فقد ظلت هذه العلاقة غائمة، عائمة، تتأرجح على السطح، ولم تأخذ بعدها الحقيقي كعلاقة جسدية بخلاف ما كان يحدث مع نساء توفيق الأخريات. وكانت قد دخلت مجرى الأحداث في زمن متأخرعن الزمن الذي دخلن فيه.
وقع بصر توفيق على أنوار (وهي زوجة أحد أبناء عمومته) حين جاءت من خانقين إلى بغداد بصحبة أفراد عائلة عبد المولى لحضور زفاف إبنة أخيه نجية على قريبه ممتاز اللامي. ولحظة وقع بصره عليها شعر بقوة غامضة ن خفية، تدفعه نحوها وتجعله ينشد إليها غنشدادا ً غريبا ً يختلف عن نمط الإنشداد الذي شعر به إزاء الأخريات حتى بدا كأن سرا ًما يختبىء وراء ذلك. وربما شعرت هي ايضا ً بقوة خفية مماثلة تشدها غليه. لكن انشداد أحدهما إلى الآخر كان من نوع خاص. فقد كان أحدهما يبدو قريبا ً من الآخر إلى حد الإلتصاق، غير أنه يبدو بعيدا ً عنه في الوقت نفسه، وهو ما شكـّل أحد أسرار هذه العلاقة وواحدة من صور استثنائية أنوار.
يستهل توفيق وصفه العياني لأنوار بقوله: ” لاحظتها بين الجميع، يضيء وجهها أو يكاد، بنصاعة بشرته وبياضه، وكانت عيناها السوداوان طويلتين ذات أسرار عميفة. رأيتها عدة مرات خلال مجيئهم إلينا ” (ص 132). و” كانت في العشرين من عمرها، جبلية، ساحرة، ناهضة الجسد.. ثم رأيتها في ذهابنا إلى المطار. كانت شفتاها قوسين حادين ممتلئتين حمراوين. كلمتها فسحرتني لكنتها وحركاتها، ورأيت حاجبيها الدقيقين يتحركان عند الحديث حركات مثيرة لم أرلها مثيلا ً. وكانت، تحدق في عينيّ كأنها تنوي إذابتي ” (ص 133). ومن هذا المدخل الوصفي يبدأ بناء علاقة ستشغل حيـّزا ً لا يستهان به من زمن الرواية وأحدتثها. لقد انطلقت شرارة رغبة متبادلة من لحظة التقاء البصر الذاهل بالوجه الآسر: رغبة بدت متمردة في ظاهرها، لكنها ظلت أسيرة كوابح داخلية وخارجية قيدتها وجعلتها تدور في فراغ المستحيل، مما قاد إلى تعقيد الخط الروائي الذي تمحور حول هاتين الشخصيتين. لقد تابع بصر توفيق أنوار من مكان على آخر سواء كانت في بيت أخيه أم وهي تنتقل من دار إلى أخرىمن دور العائلة المتجاورة، إلى أن قادتهما المصادفة لأن يلتقيا على الساّم، أو لعلها مصادفة اصطنعها هو ” كانت تنزل حاملة يعض الشراشف وكنت أصعد لغاية خفية. وقفت أمامها. نظرت إليّ بتلك العينين السوداوين المليئتين بالأسرار، والدهشة على وجهها، وكانت شفتاها حمراوين ورديتين. ابتسمت بخفة ” انت توفيق؟ ” ويكشف هذا التساؤل عن عمق لهفتها في التعرف عليه. فلعلها كانت قد سمعت عنه من نسوة العائلة وهن يتحدثن عنه وعن وسامته واختلافه الكلي والشاذ ن عن ابناء عمومته الآخرين، فاستفز ذلك فضولها، وإذ رأت وجههالذي بهرها منذ الوهلة الأولى، تعرفت عليه دون عناء. ولم يتورع هو في لحظات ذلك اللقاء الذي يحدث بينهما للمرة الأولى، من أن يتصرف بطيش لا يناسب رجلا ً في مثل سنه ومركزه الاحتماعي، لاسيما انه كان مقترنا ً بكميلة آنذاك. لقد باغتها بالاندفاع نحوها وهي تبتسم وقبـّلها من شفتيها وخيل إليه ان شفتيها فيهما حلاوة روحية ” ابتعدت عني بعد لحظات، وكانت ما تزال مغمضة العينين، ثم فتحتهما فاستنار وجهها ” (ص 135). وربما فاجأه أن لا يأتي رد فعلها سلبيا ً أو أن لا تكون غاضبة من تصرفه. فقد رآها تلق ما بين ذراعيها وتقبّله من شفتيه هي أيضا ً. لقد كان على وهم حين ذهب به الظن إلى ان أحدا ً لم يره وانه سيكون في مأمن من مشكلة ٍ ما بسبب تصرفه الطائش وردة فعل أنوار التي لم تكن اقل طيشا ً. فالبيت كان يعج بالنسوة آنذاك وكن في حالة حركة دائبة ولابد من ان فضول عيونهن قد اقتنص لحظة لقاء شفاههما وقد أدرك هو ذلك حين لاحظ ان ” الشكوك تطل من النظرات ” (ص 115)، لكنه لم يبد ِ إهتماما يذكر. لقد كان ذلك في الواقع وراء ما أصابه من متاعب كاد يفقد حياته فيها، عندما ذهب للعمل في خانقين بعد فصله من وظيفته في بغداد. وكان واضحا ً ان ما حدث بلغ سمع ممتاز اللامي المحامي الذي اصبح قائمقاما للمدينة ومسؤول الشعبة الحزبية فيها، والذي ربما كام على علاقة خفية بأنوار أو لعله كان يتحسس من أن تنشأ علاقة ما بين توفيق وأنوارلذلك سعى للإيقاع به بهدف التخلص منه أو إبعاده عن المدينة، فضلا ً على ان توفيق كان قد فصل من وظيفته في بغداد بسبب خلافه مع مسؤول الدائرة الحزبي.
هل نقول ان تصرف أنوار يرجع الى كونها وجدت في توفيق معادلا تعويضيا لزوجها كاسب برهان الدين؟ ربما. فكاسب هذا كان قد استحوذ عليها بطريقة لعلها أشعرتها بأهانة وبأنها بيعت مثل سلعة بائرة. فقد أرضى أهلها الفقراء المشردين بماله وجاء بها على دربونة الشوادي فأثار الإضطراب في نفوس الرجال هناك، فكان أن رأت في توفيق فيما بعد ما يعوضها عن خسارتها الروحية، تهرب إليه في لحظات ضعفها الإنساني من خلال الحلم باللاممكن (وهو التواصل الجسدي هنا)، لكنها ما تلبث أن تعود إلى نفسها ووافعها حين تخرج من ذلك الحلم. وهكذا ظل هذا المعادل يتحرك في حدود الرغبة المكتومة، العاجزة عن أن تتحول إلى فعل.
لقد تمادى توفيق في ملاحقة أنوار كثيرا ً، ولكن بصمت بادىء الأمر، سواء خلال زياراته المتكررة إلى خانقين أم من خلال زيارتها هي إلى بغداد. فعل ذلك مسكونا ً بتلك الرغبة المكتومة في الصدر هي الأخرى دون أن يجرؤ على أن يدعها تخرج إلى العلن. وكانت أنوار تبدو كأنها تشجعه من خلال تصرفاتها أو انها تحاول إغراءه. فمن فرط إعجابها به أسمت ابنها البكر توفيقا ً، إعتزازا ً به وبإسمه. وكانت تخصه بنظرات تستفزه عاطفيا ً، أو تختلس النظر إليه وهي تلاعب ابنها الصغير ” أحس توفيق ان أنوار لا تريد أن يراها أحد من الحاضرين تتطلع إليه، وانها لم تكن قادرة على منع نفسها من ذلك. كانت تحمل توفيق الصغير بين ذراعيها وترفعه لتقبله وهي تختلس نظرة طويلة إليه ” (ص 232). وأبدت ما يومىء ألى اهتمامها به وهي تقوم بواجب الضيافة وتقديم الطعام ” كانت تحمل الصحن الكبير الأول وهي ترتدي فستانا أحمر مزركشا ً وقد تهدل شعرها الأسود بكثافة فوق كتفيها وحول وجهها المشرق. وكانت بهيئتها، مجموعة من الألوان المتراقصة تتقدم فتنشر الحبور والفرح حولها. وضعت الصحن ثم راحت تسلم علينا فردا ً فردا ً معتذرة ً بأنها كانت مشغولة في تهيئة الطعام فلم تسنح لها الفرصة للحضور للترحيب الجسدي بينهما توفرت في ثلاث مناسبات كانت الأولى في الليلة التي اتصل فيها كاسب هاتفيا ً من بغداد بتوفيق الذي كان في خانقين واخبره بأنه موقوف في مركز شرطة البتاوين إثر شجار حدث في أحد الملاهي، وطلب منه أن يذهب إلى أنوار ويأخذ منها مبلغا ً من المال ويذهب به غليه بهدف إطلاق سراحه. لقد وجد أنوار في انتظاره بعد أن كان قد هاتفها وأخبرها بما يطلبه زوجها ” وقف يطرق الباب الكبير، لمح شبحا ً في النافذة، يتوقف قليلا ً ثم ينفتح باب الدار الداخلية وتخرج أنوار سائرة بعجلة نحو باب الحديقة نحوه ” (ص 244).وكان قد لاحظ سيارة غير غريبة عنه تسرع في الابتعاد عن البيت، وكانت تلك سيارة ممتاز اللامي بلاشك إذ ربما كان كان يختلي بأنوار عندما هاتفها توفيق (وقد لاحظنا ان ممتاز كان يماطل في مسألة إطلاق سراح كاسب). حين فتحت أنوار الباب، لم تعط توفيق النقود وهو في الخارج وإنما طلبت منه أن يدخل لحظة، ففعل وعملت يدها بقفل الباب ثم سحبته ” كان الضوء خافتا ً حولهما ووجهها البض يتباين له محاطا ً بخصلات الشعر الأسود. وقف حذاء جدار قرب الشباك، لا يصله نور الشارع وتنيره السماء ونجومها ” (وفي هذا الوصف للمكان ما يدلل على فرصة اللقاء الجسدي بينهما). وكان ” وجهها أمامه، على مبعدة نصف متر أو أقل، وملامحها وعيناها خاصة، مغشاة بهالة سحرية، وكان صوتها ورائحتها تثيرانه رغم أنفه ” (ص 245). وما لبث أن أحس بيديها الحارتين تمسكان بيديه وتضغطان عليهما بشدة، رأى، بإبهام، وجهها منفتحا بما يشبه ابتسامة سعيدة، وخيل إليه، بإبهام أكبر، ان حاجبها يتحرك حركته السحرية وان عينيها تشعان فرحا ً غريبا ً. سحبها توفيق إليه وأحاطها بذراعيه ثم تناول شفتيها المكتنزتين بين شفتيه فقبلهما بشغف وتعطش ” (ص 245). وفي لحظات تنامي الرغبة المتبادلة، شعر بهاجس غامض (وربما كانت تشعر بهاجس مماثل تلك اللحظة)، فتوقفا عند هذا الحد ” ثم فكت نفسها عنه ودفعته بدلال في صدره ” (ص 245). أما المرة الثانية فقد حدثت خلال الأيام التي كان توفيق يقضي فيها فترة نقاهته في بيت كاسب بعد أن تعرض للتعذيب في مقر الشعبة الحزبية في خانقين، وكان مزمعا ً على السفر إلى بغداد. ” جاءته أنوار، قبل سفره، إلى الغرفة التي أعدوها له. لا يدري كيف جرؤت على ذلك. فتحت الباب بعجلة وأسرعت لتجلس على حافة الفراش الملقى على الأرض. كانت في فستانها السماوي الذي يذكره جيدا ً ” (ص 252)، وكانت متزينة بما يوحي بأنها كانت راغبة فيه: مجيئها إلى الغرفة وهما لوحدهما في البيت وزينتها والثوب الذي يذكـّره بمناسبة سابقة ” احتضنها فوضعت رأسها على كتفه ” وانتهى الأمر بينهما عند هذا الحد.
وكانت المرة الثالثة عندما ذهب إلى بيت أخيه عبد الباري في بغداد ليطلب منه نقودا ً كان في حاجة إليها. وإذ لم يجد أخاه في البيت، خرج مع ا فالتقيا بأنوار وقد خرجت من بيت أخيه (ولعلها تعمدت الخروج بعد أن سنعت صوته) قاصدة ً المشتمل المجاور الذي استأجره لها زوجها بعد أن كانت قد وضعت مغادرة خانقين شرطا لعودتها إلى البيت بعد خصامها مع كاسب. دعتهما إلى المشتمل، وما لبث إبن أحيه أن غادر تاركا ً إياهما لوحدهما بمعية طفلها. يقول توفيق ” كنت مملوكا ً برغبة طائشة في ضمها إلى صدري وتقبيلها ” ” ص 33. ولم يخف عنها تلك الرغبة الطائشة فأخذتها على محمل الجد ” سكنت هنيهة تفكر، ثم أعطت طفلها لعبة وتركته في مكان أمين على الأريكة وسارت أمامي ألى الباب الخارجي فتبعتها. وهناك في المجاز الصغير، ارتكنت على الحائط وفتحت ذراعيها مرتجفة الحواجب … كانت ترتجف قليلا وهي تلصق جسدها بجسدي وتحس بتوتري الشديد وباندفاعي نحوها ” (ص 338) وتوقف الأمر عند حدود القبلة المتبادلة هذه المرة أيضا.
ما الذي جعلهما يتوقفان عند تلكم الحدود التي توقفا عندها؟، ولم يتماديا أكثر من ذلك ودون أن يستثمرا (وعلى وجه الخصوص توفيق المسكون بالشبق) الفرص التي أتيحت لهما في المرات الثلاث؟
لقد كانت هناك، على ما نرى، مصدّات نفسية وأخلاقية ــ ربما من خارج منطقة الوعي ــ إلى جانب مستجدات آنية، تحضر في اللحظات التي تتوهج فيها الرغبة المتبادلة فتكبح جماحهما وتقف في طريق تمادي هذه الرغبة. فمنذ مطلع علاقة توفيق لأنوار وهو يبدي شكوكه في أن تتطور علاقته بها إلى الحد الذي تطورت فيه مع كميلة وآديل وفتحية. فهو يقول، أو يدعي ذلك في الواقع: ” لم يخطر لي عدا الإعجاببها أي خاطر سيء، فهي آخر الأمر، فرد من أفراد العائلة …. وكان الإعجاب من بعيد مفروضا ً عليّ يصرامة ” (ص 133). وربما كان إحساس مماثل يساورها هي أيضا. في مرة خلوتهما الأولى ” خشي وهو في ذروة هياجه الجنسي، من أن يزعج أنوار المستكينة إليه، بما تشعر من هياجه الجنسي، وكانا في الفردوس المحرّم عليهما، يدركان بحسرة مدى السعادة التي يخسرانها ” (ص 245). وربما ساور توفيق في تلك المرة إحساس بالندم منعه من أن يتمادى مع أنوار. فقد كان يشعر في قرارة نفسه انها وزوجها صاحبا فضل عليه فقد ساعداه في مجيئه إلى خانقين ووفرا له عملا ً ومكانا ً يأوي إليه وقد يكون من باب نكران الجميل أن يخون قريبه مع زوجته. وإلى جانب ذلك فإنه كان في تلك الليلة على وشك أن يقدم خدمة إلى كاسب وربما لم يكن لراغبا ً في أن تشعر أنوار انه يريد أن يتقاضى من جسدها ثمن هذه الخدمة سلفا ً. وفي الخلوة الثانية كان بشعر بأنه غريق فضل أنوار وفضل زوجها، فقد أنقذا حياته من الموت ووفرا له علاجا وملاذا. وإلى جانب ذلك فإن أنوار أثارت حزنه حين أخبرته بنبأ وفاة زوجته السابقة كميلة، أو لعلها تعمدت أن تفعل ذلك في تلكم اللحظات لتغلق الباب مسبقا في وجه أي تماد ٍ من رغبتهما المشتركة. أما في الخلوة الثالثة بينهما فقد كان محبطا ً وواقعا ً تحت وطأة الحاجة إلى المال وقد أعطته مبلغا ً كبيرا ً منها قبل أن يفصح عن رغبته في احتضانها، لذلك لم يجد ما يشجعه على أن يتمادى أكثر من ذلك. وفي تلك المرة ايضا ً تظاهرت أنوار انه مريضة وان زوجها مريض هو الآخر بهدف إخافته. وربما أراد توفيق في المرات الثلاثً أن يوحي بأنه صاحب قيم ومُثل يحترمها على الرغم من هوسه الجنسي.
لقد بدت العلاقة بين توفيق وأنوار استثنائية بشكل واضح، وهي استثنائية مستمدة من استثنائية شخصية أنوار نفسها بشكل خاص. فقد كانت تعاني من صراع محتدم في داخلها: صراع بين أن تستجيب لرغبتها في توفيق فتخسر نفسها، وبين أت تكبح جماح تلك الرغبة فتنتصر لنفسه وتخسر توفيق، وكانت تدوس على عاطفتها وتنحاز إلى الخيار الثاني. انها تشعر بعمق رغبة توفيق فيها ” أنت تتألم بسببي. أنا أعرف ذلك وأنت عزيز عليّ ” (ص 252). وفي طبيعة شخصية أنوار نفسها ما كان يدفع توفيق إلى عدم التمادي في محاولة إغوائها ” لم أستطع التحدث مع أنوار على انفراد، وسحرني فيها هذا الهدوء وتلك الثقة بالنفس. كانت قليلة الكلام، فلغتها العربية ثقيلة بعض الشيء عليها، ولكنها مع ذلك كانت تعبـّر عن نفسها بدقة رغم البطء في الكلام. كانت متعلمة تعليما ً بسيطا ً لكن ذكاءها واعتدادها منحاها شخصية ذات حضور تفرض الاحترام ” (ص 151). وكان في إحساسها هي انها زوجة وأم ما يجعلها تكبح جماح عاطفتها في اللحظة المناسبة ” أنا إمرأة متزوجة ياتوفيق وأنت تريد أن تنسى ذلك ” (ص 220). وقد ذهبت أبعد من ذلك حين قالت له بشكل صريح ” لا تطلب الكثير مني ياتوفيق. فأنا ز أنا لا أستطيع ردك، وأنا زوجة وأم، ولا أحب كل شيء تشتهيه نفسي ونفسك. أشفق عليّ ” (ص 338). وبالتالي فإن الصراع في داخلها كان محسوما ً لصالح احتفاظها بعلاقة مع توفيق لا تخرج عن علاقة اتصال روحي. وهي لم تتردد في الكشف أمامه عن معاناتها التي ربما كان هو سببا ً في بعضها بفعل تصرفه الطائش في أول لقاء بينهما في بيت أخيه ” رأيت الكوارث خلال الأشهر الأخيرة، ورأيت شقاء ً لم أره من قبل، وعقوقا ً وخيانة وقسوة وفسادا ً ” (ص 336)، وهي تجسد هنا ما كان يحيط بها في الوسط الذي تهيش فيه. إن مما يثير الدهشة ان توفيق المسكون بالشبق والراغب بأنوار بإلحاح، يتحول إلى مصلح، إذ نجده يوجه لها النصح ويدعوها لأن تقاوم ” لا تضيعي نفسك هكذا وتستسلمي بسرعة. لقد قاومت بشجاعة واصرار، وأنا أعرف كل ما حدث. يجب أن تفخري بنفسك، أقولها مخلصا ً لقد كسبت المعركة ” (ص 337).
أما الصراع داخل توفيق فيكاد يكون محسوما لصالح رغبته الآنية التي كانت تبدو له ” مثل طيف ملون لا ينال ” رغم انه يعلم باستحالة تحقق تلك الرغبة، لذلك بدا قلقا، يحكم التذبذب تصرفه معها. فهو يفصح عن رغبته فيها علنا ً تارة ً ويبدو في موقف الوجل، المتردد تارة ً أخرى، أويستحيل إلى ناصح حريص على كرامتها. وربما صدمه أن تكون أنوار عصية عليه بخلاف النساء الثلاث الأخريات اللاتي كان في هشاشة شخصياتهن ما يجعلهن يستسلمن له بيسر. نراه يعترف بعد أن توطدت العلاقة بينه وبين أنوار وزوجها انه ” لم يرد أن يفيد من هذا التقارب بينهما لكي يغوي المرأة الجميلة التي يفتتن بها، وجد فيها براءة وشرفا ً وحبا ً من نوع خاص، كأنها كانت امرأة من خارج عالمه، لا تتقيد بتقاليد ولا يهمها غير أن مخلصة لمن تحب، معطاء بلا حدود ” (ص 248). و” كانت رغبتي في أنوار كإمرأة، ما تزال مشتعلة في أعماقي، وكنت في الوقت نفسه، أحترمها وأعزها كصديقة جميلة ” (ص 190). وهو لا ينكر انه كان يتشهاها ولكن في خياله فقط ” فقد تركزت أهواؤه وخيالاته في تلك المرأة المحرمة عليه ” (ص 240). وانبثقت صورة أنوار في ذهنه مثل الشمس، كم بدت شهية بجسدها الممتلىء وهي في حركاتها وإيناءاتها. تحاول أن تخفي فتكشف، انها مهتمة به أكثر من كل البشر، لكنها محرمة عليه، ولا يجب أن تقوده الخيالات على عتبة الحماقات ” (ص 235). وفي اللقاء الثالث بينهما شعروهو يقبـّلها ان ذلك اللقاء كان ” اتصالا روحيا أكثر منه بين جسدين” (218). غير انه ما يلبث أن يكشف عن وجه آخر مغاير، يفصح فيه عن حقيقة مشاعره الداخلية نحوها. فهو يعبّرعن ندمه لأنه أضاع فرصة اللقاء الجسدي بأنوار في خلوتهما الثانية إذ ” تبادر إلى ذهنه انه أضاع فرصة ذهبية لن تسنح مرة أخرى ” (253). وتبلغ حقيقة مشاعره نحوها ذروتها في آخر لقاء بينهما ” كنت بشوق لأنوار، لوجودها الانثوي الخجول ولملامح الشهوة الخفية في وجهها الجميل، ولعل حديثا صريحا حميما يفرج عن بعض همومي ” (ص 413).وفي آخر حوار طويل بينهما، اعترف لها انه عشقها وأوشك أن يفقد عقله بسببها وقد صدته وطلبت منه أن يتركها وشأنها، وقد صدمه موقفها مما دفعه إلى أن يلقي على مسامعها اطروحة فلسفية في الحياة والموت في موقف جسّد ذروة انهياره النفسي.