التمثلات البنائية للميتا سرد في رواية  الصورة الثالثة  للروائي علي لفته سعيد..

التمثلات البنائية للميتا سرد في رواية الصورة الثالثة للروائي علي لفته سعيد..

عمار ابراهيم الياسري
من بديهيات القول ان الطروحات الفلسفية والفكرية شهدت تحولات كبيرة مطلع القرن المنصرم،وقد تعالقت تلك التحولات جماليا مع الانواع الادبية لتتمظهرمن خلالها بأشكال مغايرة، فالذات المبدعة تسأم السائد دوما باحثة في التجريب عن المغايرة والتفرد، وقد مرت الاشكال الادبية والفنية لاسيما الرواية بتحولات كبيرة على مستوى الشكل والسرد واللغة، لنشهد تحولات السرد الكلاسيكي الى السرد الحداثي الذي هشم الأبنية السابقة بشكل كبير،

وحينما بزغت فلسفة ما بعد الحداثة معلنة افول الحداثة في سبعينات القرن المنصرم.
تعمتد روايات ما بعد الحداثة ايضا الى استخدام الكولاج أي الشذرات المتناثرة (تهجين النص)،اي تزامن سرد حدثين أو أكثر في أماكن مختلفة من غير انتقال، وكأننا نحيا في عالم التراكب والكولاج، أي ان المتقطع اصبح وسيلة كونية شمولية، وقد تجسدت هذه التقانة في رواية (أوراق متلاصقة) للروائي جورج بيروس،فقد صنع شذرات متلاصقة تعمل على هدم السرديات الكبرى، وهي ذاتها التي استخدمها عبد الكبير الخطيبي في روايته (ملاحظات التودد)، حيث كانت عبارة عن شذرات مجمعة من كل متخيل ولكنها نشأت من خلال عزلتها وتفرقها.
ويقصد بالميتا سرد ذلك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية السردية نظرية ونقدا في داخلها،و كذلك استعراض طرائق هذه الكتابة وتشكيلاتها ومتخيلاتها من خلال تعليقات الكاتب او المخرج (أي ان يعلم الكاتب متلقيه بصنعته السردية)، و هذا يعني أن الخطاب الميتا سردي كتابة نرجسية كما يطلق عليها احيانا قائمة على المركزية الذاتية وسبر أغوارها،حيث نلحظ فيها ان الكاتب يعمد لفضح لعبته السردية من خلال التعليق عليها واللعب بأحداثها وتحريك شخوصها، ومن الاشتغالات الميتا سردية الاخرى ايضا كسر الإيهام السردي من خلال حواريات المؤلف او احد ابطاله مع المتلقي او الاشارة له،وكذلك التداخل النصوصي اي ان نقرا رواية داخل رواية او نشاهد فيلما داخل فيلم او مسرحية داخل مسرحية وما الى ذلك مع استشعار عمليات الانتقال من النص السردي إلى النص الميتا سردي والعكس صحيح أيضا، ان هذه الاشتغالات جلها اطلق عليها بالميتا سرد او السرد النرجسي او ما وراء السرد..الخ.
تابعنا رواية (الصورة الثالثة) للروائي علي لفتة سعيد الصادرة مؤخرا وفككنا اشتغالاتها الميتا سردية لنلحظ التالي:
معمارية الميتا سرد:
أ- التضمين الميتا الســــردي:
ينتقل علي لفته سعيد من الحكاية المتعلقة بعوالم الكتابة الحقيقة إلى الحكاية الثانية،حكاية سلوى، ومن ثم يخضع سرده لنسق التناوب مع الاخذ بنظر الاعتبار أن القصة الميتا سردية هي البؤرة الأساسية ويمكن ان نعدها قصة من الدرجة الأولى من ناحية تبئيرها في حين تعد القصة التخيلية من الدرجة الثانية، ولكننا نستشعر ايضا ان هنالك علاقة بنيوية بين القصتين تفضي الى معمارية سردية واحدة، فالمعمارية السردية متكونة من محورين يجري الربط بينها من خلال تناظر مجموعة من الأحداث المتشابهة ويتم في هذه المحاور تناول ساعات معينة في حياة كل شخصية،ففي العديد من صفحات الرواية نجد الحكاية الاولى ولكنه يغادر حكايته في صفحات اخرى اذ يقول في الصفحة (145) "اسفل الفندق احفظ حواراتهم لتدونها بين اوراق سلوى وحكاية الرجل ليفهم القارئ زمن الاحداث". وهنا نلحظ كسر يقين السرد في الحكاية الاولى والانتقال الى الحكاية الثانية بطريقة واعية يعلمها المتلقي بعيدة عن الايهام الذي كتب عنه شرّاح ارسطو في كتابه فن الشعر،والحال ذاته يتكرر في صفحات عديدة منها (46)في حواره مع الذات و(146) الحوارات بين الرجلين و (172) في مخاطبة القارئ،وهنا نلحظ ان الروائي فضح اللعبة السردية وكشف آلياتها الفنية والجمالية أمام المتلقي جاعلا منه جزءا لا يتجزأ من بنية النص من خلال لملمة الاحداث المتشظية.
ب - ميتا سرد الشخصيات:
ركز علي لفته سعيد على تصوير صراع الشخصية السردية مع الشخصية الميتا سردية التي تتعالق في متن النص السردي للمؤلف السارد تعاليا وسيطرة،فتفرض وجودها الميتا ورائي على مخيال الكاتب الضمني،بل قد تتمرد تلك الشخصية على خطة الروائي وتعلن انشقاقها ورفضها لرؤيته وهيمنته من خلال المناكفات الفلسفية بين محسن وذاته المسيطرة، فالبناء الميتا سردي يخرق الميثاق السردي للرواية ليوهم بمبدأ التطابق بين المؤلف والشخصيات الروائية،اذ ان الميثاق الروائي عهد ذهني واقرار مبدئي بين المؤلف والقارئ لأجل نفي التطابق، ولو تابعنا الراوي كيف يرسم لنا تحولات شخصية البطل بين الروايتين نجد محسن في الحكاية الاولى يعيش التشظي الانطولوجي بينه وبين الذات، اذ يقول في صفحة (20) "دعنا الان ناكل غداءنا لفة فلافل وسيكارتين دائما انت معي تراقبني وتشاركني في كل شيء" اما عن الحكاية المضمنة فنلحظ في صفحة (106) حديثا بين محسن والذات اذ يقول له انت تقاطعني ماذا اسمع هذان الرجلان كشفا عن اوجاع روحيهما.. ولكني كتبت ذلك اتذكر نفس الحوار وهو موجود في الفصل العاشر.. لينتقل الى الحكاية الممضمنة، لينتج لنا المؤلف نص سردي بوليفوني، متعدد الأصوات والأساليب السردية.
ج - المبنى الميتا ســــردي:
ينهض المبنى الميتا سردي على كل ما يتعلق بميكانزمات التسريد، اي انشاء معمارية السرد ومن خلال لغة الروائي عبر فضح مكوناتها الفنية والجمالية وتبيان تفاصيلها البنائية وجزئياتها التكوينية للرواية.
ولو لاحظنا الصفحة (88) من الرواية نلحظ ان سعيد قد كشف لنا مبناه الميتا سردي حينما يقول " نعم سأكمل حكاية الرجل او لأقرا لك ما كتبته فلا تستعجل الأمور فهو يكشف لعبته السردية بأن الرواية تتضمن حكاية لزوج وزوجة انهكتهما الحرب تواردت له من خلال المعاشرة مع ليلى لتمتزج الازمنة بطريقة يصعب على حاذقي السرد خيوطها، اذ تجد الراوي ينقل لك ليلة واحدة من الرواية الاصلية (خلوته مع سلوى) ليغادرها عائدا الى تداعياته عن المعارك ليغادرها الى تداعياته عن ابيه ليعود في الزمن الحاضر الى مهند وناهض ليستشرف لنا النهايات لرواية سلوى المضمنة.
د - العتبــــات الميتا سرديــــة:
وهي عتبات النص الموازي للنص السردي المتكونة من "العناوين والإهداءات والمقدمات والهوامش والحواشي والتمهيدات والصور وكلمات الغلاف والمقتبسات وهذه العتبات هي المقدمة التي يكتبها الروائي إلى المسرود له ويشرح فيها تصوراته النظرية والنقدية، ويسرد له احيانا مختلف الحيثيات التي دفعته إلى نشر نصه، ولو تفحصنا الرواية نجد احالة ميتا سردية في عتبة العنوان للرواية الصورة الثالثة والتي تحيل الى زوج سلوى والتي احالتنا الى الانهزام الانطولوجي للزوج بعد الاصابة بالحرب اذ يصفه الباحث في الصفحة (130) حينما يقول" نصف لوجه ضامر والنصف الآخر منتفخ..أشكال غريبة في النصف الأول، وجه بعين واحدة مفتوحة، وعين مغلقة بل أثار عين ألتحم الجلد حولها من ثلاث جهات "، ولم يتطرق الكاتب في التمهيد وصورة الغلاف الاولى والمقاطع المسرودة في الغلاف الاخير الى اي إحالات ميتا سردية.
هـ - كســر الإيهـــام الواقعـــي:
تستند معمارية البناء الميتا سردي إلى كسر الجدار الفاصل بين الحقيقة والوهم، كما كسره بريشت في مسرحه الملحمي والجدلي، حيث يشرع الكاتب منذ البداية إلى إخبار المتلقي بأن عالم الرواية المقدمة إليه فيها تضمين روائي، وبالتالي فهو عالم من أوهام مختلقة وعالم من الافتراضات الممكنة والمحتملة التي تجرد الواقع المتخيل، فهي تعمل على نحو مقصود على هدم الخيال السردي لتعلق بشكل مباشر على طبيعتها الروائية،ولو تابعنا صفحات كثيرة من الرواية نجد ان البطل محسن او الذات المحاورة عمدا الى كسر يقين السرد. ففي الصفحة (145) يقول"اسفل الفندق احفظ حواراتهم لتدونها بين اوراق سلوى وحكاية الرجل ليفهم القارئ زمن الاحداث"والحال ذاته تكرر في الصفحة (172) حينما يقول" بل عليك ان تستذكر الواقع لتخرج الى القارئ بفكرة تدهشه " وهنا نلحظ ان المؤلف يعلم القارئ بضرورة الانتباه الى زمن الاحداث وبالاشتغال الجمالي لتوظيف الواقع، فضلا عن ممارسة النقد داخل النص السردي، وكذلك معرفة المراحل التكوينية لتشكل معمارية النص السردي.
تاريخانية الميتا سرد:
تعد التاريخانية من الاتجاهات النقدية البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية وقد أخذ في التنامي مع نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات في القرن المنصرم على يد عدد من الدارسين في طليعتهم أستاذ جامعة كاليفورنيا ستيفن غرينبلات،وهو الذي أطلق مصطلح (شعرية أو بيوطيقا الثقافة) غير أن مصطلح (التحليل الثقافي) فرض نفسه كتسمية إجرائية ملائمة لهذا الاتجاه لارتباط البويطيقيا الثقافية بالنقد الثقافي.
تسعى التاريخانية إلى قراءة النص الأدبي في إطاره التاريخي والثقافي حيث تؤثر الأيديولوجيا وصراع القوى الاجتماعية في تشكل النص، وحيث تتغير الدلالات وتتضارب حسب المتغيرات التاريخية والثقافية، وهذا التضارب في الدلالات هو ما أخذته التاريخانية من التقويض، حيث يقول غرينبلات محدداً معالم هذا الاتجاه (في النهاية لا بد للتاريخانية أن تذهب إلى ما هو أبعد من النص لتحدد الروابط بين النص والقيم من جهة والمؤسسات والممارسات الأخرى في الثقافة من جهة أخرى)، ولو تابعنا رواية الصورة الثالثة نجد ان المؤلف قد درس ثيمة الحرب بتشكيل يبتعد عن التوظيف الوثائقي للتاريخ بل اشتغل على ادبية التاريخ في تبيان ويلاتها معلنا ذلك بقوة من خلال العنوان (الصورة الثالثة)، اذن نحن امام صور ثلاث لتلك البؤرة، وهذه الصور نكتشف لاحقا علاقتها مع زوج سلوى في الرواية.