استفهامية الواقع في روايتي »العطر» و»الحمامة»

استفهامية الواقع في روايتي »العطر» و»الحمامة»

عبدالكريم يحيى الزيباري
الروائي الألماني باتريك زوسكند، اختار فرنسا مكاناً لرواياته، كما في رواية «العطر»، ورواية «الحمامة» أيضاً.وبرغم مشترك الفضاء،فإن الروايتين ينفصلان في كثير من المناحي.
كل شيء يتسم بالغرابة الشديدة التي تستثير الخيال في أدب زوسكند، فبعد قصة القاتل باتيست غرينوي الذي لديه حاسة شم خارقة، يستطيع بموجبها أن يتنبأ بالمطر،

وبمجيء أحدهم قبل أن يصل بأيام، ويكشف عن المكان الذي تخفي مربيته مالها وهي تغيره كل حين، حتى نسيت، فعرف من رائحتها أنَّها حزينة من أجل المال فأخبرها بمكانه، وهو يقتل الفتيات من أجل اختزال رائحتهنَّ، هذا هو بطل رواية العطر إنسان متوحِّد ينحصرُ بشكلٍ صارم في ذاكرة أنفه الخارق، ويأسره طمعهُ في اكتشاف روائح جديدة، في مفارقة عالمٍ ليس فيه ثمة إلا ألوان وأصوات وروائح، وهو بالتأكيد شخصية فوق الخيال، غرينوي (كان طماعاً. كانت غاية رحلات الاصطياد لديه أن يملك جميع ما في العالم من روائح وشرطه الوحيد أن تكون الرائحة جديدة، باتريك زوسكند- العطر- ترجمة كاميران حوج-2007- دار الجمل-كولونيا -ص43). وبعد أن قتل 25 صبية بريئة عذراء، يشعر غرينوي بانتصاره الكبير في السيطرة على عقول الناس الذين جاؤوا يدفعهم الحقد والكراهية لرؤية إعدام القاتل، لكن المفاجأة كانت بتحول مسرح غراس (كانت العاقبة أن انقلب إعدام أحد أسفل المجرمين في ذلك العصر إلى أعظم حفل خلاعة يشهده العالم منذ القرن الثاني قبل الميلاد ص247). وفكرة صناعة عطر أو عصا سحرية أو خاتم أو أي شيء آخر، لتجعل الآخرين يطيعونك ويحبونك مازالت تراود الإنسان منذ القدم، واختصَّ بذلك عالم السحر والشعوذة، ومازال إلى يومنا هذا من الأغنياء الساذجين الذين دفعوا آلاف الدولارات لشراء عرج السواحل أو غيره من أساطير السحر.
هذا ما حدث في العطر لكن ما يحدث في الحمامة، فمختلفٌ وأخفُّ وطأة، ولولا العطر لما قُرِئت الحمامة، ليس لأنَّها مملة، بل لأنَّها أقل روعة بكثير، ورغم أنَّه اعتمد آليات متقاربة مع العطر، فالرواية تحكي قصة شخصية غريبة منذ ولادته، جوناثان نويل الصبي الذي تموت أمه ثم أبوه، فيرحلونه من القرية إلى عمه في الجنوب (واستقبلهما عمٌّ لم يشاهداه من قبل في محطة كافايون قبل أن يأخذهما إلى عزبته قرب ضيعة بوجيه في وادي دورانس ويخبئهما حتى نهاية الحرب كي يعملا في حقول الخضار، باتريك زوسكند- الحمامة- ترجمة كاميران حوج- ط1-2007- دار الجمل-كولونيا-ص6). ثم التحق بالجيش وتجنَّد ثلاثة أعوام في الجيش في بداية الخمسينيات، (أمضى العام الأول في التعوّد على حياة العسكر الكريهة، وفي العام الثاني شُحِنَ إلى الهند الصينية، وفي الثالث بطلقة في القدم وأميبيا في المشفى الميداني، عندما عاد في مطلع 1954 إلى بوجيه كانت أخته قد اختفت وقيل إنها هاجرت إلى كندا، طلب منه العم أن يتأهل وعين له فتاة اسمها ماري باكوشه، سمع جوناثان الأمر وأطاع بيد أن ماري أنجبت بعد أربعة أشهر غلاما ثم هربت في الخريف نفسه مع تاجر خضار تونسي) فهاجر إلى باريس وعمل حارساً في أحد المصارف، وكلُّ هذه الأحداث الجسام (موت والديه- عمله وأخته في حقول الخضار- دخوله الجيش والحرب الفيتنامية- هروب أخته- عمله كحارس في المصرف 20 سنة هنيَّة ورضية مرضية لم يجرِ فيها أي حدث) خمسة أحداث جسيمة، كلُّ حدثٍ منها أو مجموعها يصلح لأن يكون رواية طويلة (كما وجدَ جوناثان أبوالهول والحارس، متشابهين، فقوتهما ليست أداتية إنما رمزية ص35). لكنَّه اختصر كل الأحداث بكلمات قليلة جداً، وأكدَّ على حدثٍ تافه جداً، عنوَنَ به روايته وبدأ به أيضاً (عندما قلبت فجيعة الحمامة التي ألمَّت به، كيانه رأساً على عقب كان جونثان نويل قد تجاوز الـ 50 من عمره، ويراجع الآن ذكرى 20 سنة هنية أمضاها دون أن تجري فيها أية أحداث). ثم يقول بعد موجز حياته (هكذا كانت الأحوال عندما ألمَّتْ به في أغسطس 1984 صبيحة يوم جمعة فجيعة الحمامة ص11). هذه القصة تذكرني بقصة أنطوان تشيخوف القصيرة: «الرجل المعلَّب»: وما العجيب في ذلك! الأشخاص الأنطوائيون بطبعهم والذين يسعون إلى الاختفاء خلف قشرتهم كسرطان البحر الراهب والقوقعة كثيرون في هذه الدنيا، وربما كان ذلك أحد مظاهر الردة الخلقية- تشيخوف- مؤلفات مختارة، المجلد الثالث- ترجمة دار التقدم - موسكو-1982-ص244). خاصةً وأن جوناثان فَقَد ثقته بالناس جميعاً بعد أن خدعته زوجته وصار محل سخرية القرية وصبيانها (إثر هذه الوقائع كلها توصَّل جوناثان نويل إلى عبرة مفادها أنَّ الناس لا يُوثق بهم، وأنَّ المرء إذا أراد السلامة والهدوء أن يبتعد عنهم، الحمامة-ص7) ويخرج بسبب خوفه من الحمامة يرتدي حذاء شتويا بفرو سميك ومعطفا شتويا ويحمل مظلة في يوم من أيام الصيف القائظ، ولم يكن يتصور يوما أن يحدث له شيءٌ ذو بال، وكذلك الرجل المعلَّب كان يخشى أن يحدث له شيء، ويخرج في الصيف بمعطف شتوي ومظلة، خوفاً من المطر، ويردد دوماً: «ولكن أخشى أن يحدث شيء».
جوناثان نويل حارس المصرف في باريس اعتاد روتين حياته اليومية بدوام من 8:15 إلى الـ 5 عصراً، ليندَّسَّ داخل غرفة صغيرة في إحدى العمارات العتيقة، بحمام ومرفق مشترك للطابق، ولأنَّه يعتمد حاسة السمع القوية لم يصادف أحداً في الممر إلا مرةً واحدة، شعر فيها بحرجٍ شديد وألم كبير كاد أن يقتله، يظل يتنصَّت واضعاً أذنه على الباب ولا يخرج إلا بعد التأكد من أنَّه لا يوجد أحدٌ في الممر، ويشتري غرفته بثمنٍ يفوق ثمنها، بعد أن صارت غرفته مؤثثة أثاثاً جيدا ليس يميزها عن الغرف الأخرى، المهملة.
وظهرت الحمامة في حياته يوم الجمعة من أغسطس 1984، وظهرت الحمامة في النص منذ ص 13 واستحوذت الحمامة على كلِّ شيء (لو وصف جوناثان حاله في تلك اللحظة لقال: «كدتُ أموت من الخوف» غير أنّ هذا الوصف غير صحيح فقد كاد بالأحرى أن يموت دهشةً، ص13) ولا أدري أين الخطأ؟ هل أخطأ الروائي الألماني زوسكند أم مترجمه السيد حوج؟ لأنَّ جوناثان كاد أن يموت من الخوف وليس من الدهشة، كما تؤكد ذلك جميع الصفحات الـ 66 اللاحقة (اضطرمت أفكار الرهاب المشوشة في مخه كسرب من الغربان كالحة السواد، ص14). ويفرُّ من غرفته ويستأجر أرخص غرفة في أرخص فندق، ويقضي نهاره كله متوتراً، شارداً، يخاف من كلِّ شيء، تنتابه حكة جلدية قوية وهو في عمله، يصل إلى حافة الانهيار ويفكر في الانتحار، وكلُّ هذا بسبب الحضور اللامعقول لتلك الحمامة في حياته الرتيبة، وهناك محاكاة لرواية المسخ الشهيرة لفرانز كافكا، التي انبنت أيضاً على حدث غير معقول، إلا أن حدث كافكا كان أكثر إيغالاً في اللامعقول، غريغوري سامسا يستيقظ ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة مقززة، صورة أكثر من خرافية، لكن براعة كافكا السردية توصلنا إلى حافة التصديق بأنَّ ما حدث لكافكا هو شيء حقيقي، إلى نهاية القصة، لكن زوسكند ينهي روايته كما بدأها (كان الممر خالياً تماماً. كانت الحمامة قد اختفت، ص79) حيث قامت السيدة روكارد بوابة العمارة بطردها وتنظيف الممر من فضلات الحمامة وريشها.
هذا هو بطل رواية الحمامة إنسان انطوائي ينحصرُ في غرفته وحياته الشخصية بشكلٍ صارم، ويأسره خوفه من الناس، الذين لا يثق بأخلاقهم المبتذلة، في مفارقة عالمٍ ليس فيه ثمة إلا حمامة وغرفة المبيت وغرفة العمل وأفكار سوداء ورهاب مرضي ووساوس ومخاوف شديدة.
ويقول الشاعر أحمد مطر عن زوسكند (في المأثور عن إقبال الدنيا وإدبارها، يقال إنها «إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد»، ويبدو أن نشر رواية العطر قد آذن بإقبال دنيا زوسكند، فإذا بالناشرين، الذين أشبعوه عناءً قبل نشرها، صاروا يفتشون في دفاتره القديمة عن أعماله التي لم يحالفها الحظ بالرواج، ليقيموا لها وله مهرجانات حفاوة هائلة، برغم أن بعضها لا يتجاوز حجمه 80 صفحة).