وصيّة المعلّم باتريك زوسكند: الأسلوب هو الشخص

وصيّة المعلّم باتريك زوسكند: الأسلوب هو الشخص

حسين بن حمزة
بعض الأدباء تلتصق أسماؤهم بكتاب واحد من بين كل الأعمال التي أنجزوها. الكاتب الألماني باتريك زوسكند هو واحد من هؤلاء. ارتبط اسمه برواية «العطر»، وصار هو وروايته شيئاً واحداً تقريباً. لقد عرفت هذه الرواية رواجاً واسعاً في كل اللغات التي ترجمت إليها. وهكذا انضم القارئ العربي أيضاً إلى جمهرة القراء الذين شكّلت «العطر» بالنسبة إليهم الماركة المسجلة باسم زوسكند وعلامته الروائية الفارقة.

لكن هل كل نجاح كهذا هو دوماً نعمة على الكاتب؟ القراء يميلون إلى اختزال موهبة زوسكند وممارسته السردية كلها في «العطر» فقط، بل إن بعضهم قد يسأل: وهل لزوسكند كتب أخرى أصلاً؟ والجواب نعم بالتأكيد.
«العطر» بهذا المعنى، تمنع القارئ من الاهتمام بكتب أخرى لزوسكند وتعطّل قراءة تجربته بطريقة متوازنة وعادلة. وهذا ما يحدث فعلاً. فحين صدرت روايته «الحمامة»، قلنا: آه إنها لصاحب «العطر». ثم أبدينا رد الفعل عينه حين صدرت مسرحية «الكونترباص». ولعلنا نواصل ذلك ونحن نطالع «ثلاث حكايات وملاحظة تأملية» (دار الجمل ـــــ عرّبه كاميران حوج عن الالمانيّة). يضم الكتاب، كما هو واضح من عنوانه، ثلاث قصص يغلب عليها التأمل الفلسفي، مضافاً إليه نص يجيب فيه المؤلف عن سؤال تقليدي يتعلق بالكتاب الذي أثر فيه، وغيّر مجرى مسيرته الأدبية.
في القصص الثلاث يتجلى مزاج زوسكند الخاص والمبتكر. المزاج الذي ينجح في اصطياد فكرة فريدة وغريبة من نوعها. القبض على أنفاس القارئ يبدأ من هنا، ثم تتلاحق الوقائع التي تختلط فيها الكتابة بالفلسفة وأسئلة الحياة والوجود.
في قصّة «بحثاً عن العمق»، يستثمر زوسكند عوالم تشيخوف ليروي حكاية رسامة قال لها أحد النقاد عرَضاً: إن أعمالها تحتاج إلى عمق أكثر. هذا التعليق، الذي كان يمكن أن يُنسى بعد لحظات، يرسم نهايتها المأساوية. تتوقف الفتاة عن الرسم، تكتئب، ثم ترمي بنفسها من مبنى عالٍ. أما قصة «الصراع» فتروي تفاصيل مباراة شطرنج بين بطل عجوز لم يسبق له أن هُزم، ومتحدٍّ شاب. المبارة تنتهي بفوز العجوز، ولكن زوسكند يوصل للقارئ رسالة مختلفة مفادها أنّ المهم هو طريقة اللعب وليس نتيجة المباراة. هكذا، فإن الفوز يُثير الاشمئزاز في روح العجوز، ويقرر أن يكفّ عن لعب الشطرنج نهائياً.
في القصة الثالثة «وصية المعلم موسارد» يفاجئ زوسكند القارئ بأمثولة أخرى، وهي أنّ ولادة الانسان تمثّل أول خطوة في رحلة موته. إنها أمثولة تكاد تكون كليشيه ساذجاً، لكن زوسكند يستخلصها من حكاية يتقن هو وحده اختراعها.
قيل إن الأسلوب هو الشخص. هذه سمة تنطبق على زوسكند. بالنسبة إليه، الأسلوب أهم من جسم الحكاية. ولكن الأسلوب هنا يتحالف مع الفكرة المبتكرة وطريقة النظر إلى العالم. وهذا ما يعيدنا مجدداً إلى رواية «العطر». ألم يقل كل واحد منا في سره بعد قراءتها: يا إلهي هل يمكن أن يحدث هذا فعلاً؟.

عن الاخبار اللبنانية